إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب ما يذكر في الطاعون

          ░30▒ (1)(بابُ مَا يُذْكَرُ فِي) أمرِ(2) (الطَّاعُونِ) بوزن فاعول، من الطَّعنِ، عدلُوا به عن أصلهِ ووضعوهُ دالًّا على الموت العامِّ كالوباءِ، وفي «تهذيب النَّووي» وهو بثرٌ وورمٌ مؤلمٌ جدًا يخرجُ مع لهبٍ، ويَسْوَدُّ ما حولَهُ، أو يخضرُّ، أو يحمرُّ حمرةً شديدةً بنفسجيَّةً كدرةً، ويحصلُ معه خفقانٌ وقيءٌ، ويخرجُ(3) غالبًا في المَرَاقِّ والآباطِ، وقد يخرجُ في الأيدي والأصابعِ وسائر الجسدِ.
          وقال ابنُ سينا: وسببه دمٌ رديءٌ يستحيلُ إلى جوهرٍ سُمِّيٍّ يُفسد العضو، ويؤدِّي إلى القلبِ كيفيَّةً رديئةً فيُحدِث القيءَ والغثيانَ والغشيَ، ولرداءتهِ لا يقبلُ من الأعضاءِ إلَّا ما كان أضعفَ بالطَّبع، والطَّواعين تكثرُ عند الوباءِ في البلادِ الوبيئة، ومن ثمَّ أُطلق على الطَّاعون وباءً وبالعكس، والوباءُ فسادُ جوهر الهواء الَّذي هو مادَّةُ الرُّوح ومدده. انتهى.
          وحاصلُ هذا: أنَّه ورمٌ ينشأُ عن هيجانِ الدَّم وانصباب الدَّم إلى عضوٍ فيفسدهُ، وأنَّ غير ذلك من الأمراض العامَّة النَّاشئة عن فساد الهواء يُسمَّى طاعونًا بطريق المجاز لاشتراكهما في عُموم المرض به، وهذا لا يعارضُ حديث «الطَّاعون وخزُ أعدائكُم من الجنِّ» إذ يجوزُ أنَّ(4) ذلك يحدُث عن(5) الطَّعنة الباطنة فتُحدث منها المادَّة السُّميَّة، ويهيجُ الدَّمُ بسببها، وإنَّما لم تتعرَّض الأطباءُ لكونه من طعن الجنِّ؛ لأنَّه أمرٌ لا يُدرك بالعقلِ وإنَّما عُرف من جهة الشَّارع فتكلَّموا في ذلك بما(6) اقتضتْهُ قواعدُهم، لكن في وقوع الطَّاعونِ في أعدلِ الفُصولِ وأصحِّ البلاد هواءً وأطيبها ماءً دلالة على أنَّ الطَّاعون إنَّما يكون من طعن الجنِّ، ولأنَّه لو كان بسبب فسادِ الهواء لدام‼ في الأرضِ؛ لأنَّ الهواءَ يفسدُ تارةً ويصحُّ أخرى، والطَّاعونُ يذهبُ أحيانًا ويجيء أحيانًا على غير قياسٍ ولا تجربةٍ، وربَّما جاء سنةً على سنةٍ، وربَّما أبطأ سنينَ، وأيضًا لو كان من فسادِ الهواء لعمَّ النَّاسَ والحيوان، وربَّما يُصيب الكثير من النَّاسِ ولا يُصيبُ مَن هو(7) بجانبهم ممَّن هو في مثل مزاجهِم، وربَّما يُصيب بعض أهل البيتِ الواحد ويسلمُ منه الآخرون منهم(8)، وأمَّا ما يُذكر من أنَّه وخزُ إخوانكم من الجنِّ، فقال ابنُ حجر: إنَّهُ لم يجدهُ في شيءٍ من طُرق الحديث المسندة لا في الكُتب المشهورة، ولا الأجزاء المنثورةِ(9) بعد التَّتبُّع الطَّويل البالغِ، وعزاه في «آكام المرجان» لـ «مسند أحمد» والطَّبرانيِّ، و«كتابُ الطَّواعين» لابن أبي الدُّنيا، ولا وجودَ له في واحدٍ منها.
          فإن قلتَ: فإذا كان الطَّعنُ من الجنِّ فكيفَ يقعُ في رمضان والشَّياطينُ تصفَّد فيه وتسلسلُ؟ وأجيب باحتمالِ أنَّهم يطعنونَ قبل دخول رمضانَ، ولم يظهر التَّأثير إلَّا بعد دُخوله، وقيل غير ذلك.


[1] في (م) و(د) زيادة: «هذا».
[2] «أمر»: ليست في (د).
[3] في (د): «ويحصل».
[4] في (د) زيادة: «يكون».
[5] في (م): «من».
[6] في (د): «على ما».
[7] «من هو»: ليست في (ص) و(م) و(د).
[8] «منهم»: ليست في (ص)، وفي (م): «منه».
[9] في (ب): «المنشورة».