إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه

          5729- وبه قالَ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ) أبو محمَّدٍ الدِّمشقيُّ ثمَّ التِّنِّيسيُّ الكُلَاعِيُّ الحافظُ قال: (أَخْبَرَنَا مَالِكٌ) هو ابنُ أنس إمامُ الأئمةِ (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمَّد بن مسلمٍ الزُّهريِّ (عَنْ عَبْدِ الحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الخَطَّابِ) بن نفيلِ بنِ عبد العزَّى القرشيِّ العَدويِّ المدنيِّ، عاملِ الكوفةِ لعمر بن عبد العزيزِ (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ) / أبي(1) يحيى الهاشميِّ المدنيِّ الملقَّب ببَّة _بموحدتين الثانية(2) مشددة_ ومعناهُ: الممتلئ البدنِ(3) من النِّعمة (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ) ╠ (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ ☺ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ) في ربيع الآخر‼ سنةَ ثمان(4) عشْرَة، كما في «الفتوح» لسيف بن عُمر يتفقَّد فيها أحوال الرَّعيَّة، وكان الطَّاعونُ المسمَّى بطاعونِ عَمَوَاس _بفتح العين المهملة والميم بعدها سين مهملة_ وسُمِّي به لأنَّه عمَّ وآسى، وقعَ(5) بها أوَّلًا في المحرم(6)، وفي صفر ثمَّ ارتفع، فكتبُوا إلى عُمر فخرج (حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ) بفتح السين المهملة وسكون الراء، بعدها غين معجمة، قريةٌ بوادي تبوك قريبة من الشَّام يجوزُ فيها الصَّرف وعدمهُ، وقيل: هي مدينةٌ افتتحها أبو عبيدة، وهي واليرموكُ والجابيةُ متَّصلاتٌ، وبينها وبين المدينةِ ثلاثَ عشرة مرحلة (لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الأَجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةَ) عامرُ بن عبد اللهِ، وقيل: عبد الله بنُ عامر (بْنُ الجَرَّاحِ) أحدُ العشرة (وَأَصْحَابُهُ) خالدُ بن الوليدِ، ويزيدُ(7) بنُ أبي سفيان، وشرحبيلُ ابن حسنةَ، وعمرو بنُ العاصي، وكان عمرُ قسَّم الشَّام أجنادًا: الأردن جندٌ، وحمص جندٌ، ودمشق جندٌ، وفلسطين جندٌ، وقِنَّسرين جندٌ، وجعل على كلِّ جندٍ أميرًا (فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الوَبَاءَ) أي: الطَّاعون (قَدْ وَقَعَ بِأَرْضِ الشَّأْمِ) وعند سيفٍ أنَّه أشدُّ ما كان (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ : (فَقَالَ) لي (عُمَرُ) ☺ : (ادْعُ لِي المُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ) الَّذين صلوا إلى القبلتين (فَدَعَاهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ) في القُدوم أو الرُّجوع (وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الوَبَاءَ) أي: الطَّاعون (قَدْ وَقَعَ بِالشَّأْمِ، فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ خَرَجْتَ(8) لأَمْرٍ وَلَا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ) أي: بقيَّة الصَّحابة، قالوا ذلك تعظيمًا للصَّحابة كقولهِ:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .                     هُمُ القَومُ كلُّ القَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدٍ
(وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلعم ) عطفٌ تفسيريٌّ (وَلَا نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ) بضم الفوقية وسكون القاف وكسر الدال المهملة، أي: لا نَرى أن تجعلَهم قادمينَ (عَلَى هَذَا الوَبَاءِ) أي: الطَّاعون (فَقَالَ) عمرُ ☺ لهم: (ارْتَفِعُوا عَنِّي) وفي رواية يونُس: ”فأمرهُم فخرجُوا عنه“ (ثُمَّ قَالَ) عمرُ لي: (ادْعُوا لِي الأَنْصَارَ) قال ابن عبَّاسٍ: (فَدَعَوْتُهُمْ) فحضرُوا عندهُ (فَاسْتَشَارَهُمْ) في ذلك (فَسَلَكُوا سَبِيلَ المُهَاجِرِينَ) فيما قالوا (وَاخْتَلَفُوا) في ذلك (كَاخْتِلَافِهِمْ، فَقَالَ) لهم: (ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ) لي: (ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هَهُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ) قال في «القاموس»: الشَّيخُ والشَّيْخُون: منِ استبانَتْ فيه السِّنُّ، أو من خمسينَ، أو إحدَى وخمسينَ إلى آخر عُمُره، أو إلى الثَّمانين. الجمعُ: شُيُوخٌ وشِيوخٌ وأَشْياخٌ وشِيَخَةٌ وشِيْخَةٌ(9) وشِيْخانٌ ومَشْيَخَةٌ‼ ومَشِيْخةٌ _يعني: بفتح الميم وكسر المعجمة_، ومَشْيُوخاءٌ ومَشْيُخاءٌ ومَشايخ، وتصغيرُه: شُيَيْخٌ وشِيَيْخٌ(10) وشُوَيْخٌ قليلةٌ، ولم يعرفها الجوهريُّ.
          (مِنْ مُهَاجِرَةِ الفَتْحِ) بضم الميم وكسر الجيم، الَّذين هاجرُوا إلى المدينةِ عام الفتح، أو مسلمة الفتحِ، أو أطلقَ على من تحوَّلَ إلى المدينةِ بعد الفتحِ مُهاجرًا صورةً، وإن كان حكمُها بعد الفتح قد انقطع احترازًا عن غيرهم ممَّن أقام بمكَّة ولم يهاجر أصلًا. قال ابنُ عبَّاسٍ ☻ : (فَدَعَوْتُهُمْ) فحضروا عنده (فَلَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ عَلَيْهِ رَجُلَانِ، فَقَالُوا) لهُ: (نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلَا تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الوَبَاءِ، فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ: إِنِّي مُصَبِّحٌ) بضم الميم وفتح الصاد المهملة وكسر الموحدة مشددة، أي: مُسافرٌ في الصَّباح راكبًا (عَلَى ظَهْرٍ) أي: على(11) ظهرِ الرَّاحلة راجعًا إلى المدينةِ (فَأَصْبِحُوا) راكبين مُتأهِّبين للرُّجوعِ إليها (عَلَيْهِ) أي: على الظَّهر (قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ) لعمر ☻ : (أَ) ترجعُ (فِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللهِ؟ فَقَالَ) له (عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ) لأدَّبتهُ لاعتراضه عليَّ في مسألةٍ اجتهاديَّةٍ اتَّفق عليها أكثرُ النَّاس من أهل الحَلِّ والعَقْد، أو لكانَ أولى منك بذلك أو لم أتعجَّبُ منه، ولكنِّي أتعجَّبُ منك مع علمكَ وفضلكَ كيف تقولُ هذا، أو هي للتَّمني فلا تحتاجُ لجوابٍ، والمعنى أنَّ غيرك ممَّن لا فهمَ له إذا قال ذلك يُعذرُ، وقال الزَّركشيُّ: قوله: لو غيرك قالها، هو خلافُ الجادَّة، فإنَّ «لو» خاصَّةٌ بالفعلِ وقد يليها اسمٌ مرفوعٌ معمولٌ لمحذوفٍ يفسِّره ما بعدهُ كقولهم: لو ذات / سوارٍ لطمتني، ومنه هذا. انتهى. وهذا لفظ ابن هشامٍ في «مغنيه» واعترضهُ الشَّيخُ تقيُّ الدِّين الشُّمنيُّ بأنَّه لو قال: كقوله بلفظِ الإفرادِ لكان أولى؛ لأنَّ الَّذي قاله حاتمُ الطَّائيُّ حيث لطمتهُ جاريةٌ وهو مأسور في بعضِ أحياءِ العرب ثمَّ صار مثلًا، وذاتُ السِّوارِ الحرَّة لأنَّ الإماءَ عند العربِ لا تلبسُ السِّوار. انتهى.
          وقال في «المصابيح»: قولُ الزَّركشيِّ: إنَّ «لو» خاصَّةٌ بالفعل لا ينتُج له مدَّعاهُ من كون التَّركيبِ على خلاف الجادَّةِ، فإنَّا إذا قدَّرنا ما(12) بعدَ «لو» معمولًا لمحذوفٍ كانت «لو» باقيةً على اختصاصها بالفعل، ثمَّ قال: فإن قلت: إنَّ الزَّركشيَّ عنى خاصَّة بدخولها على الفعل الملفوظِ به لا المقدَّر. قلتُ: يردُ عليه حينئذٍ نحو قوله تعالى: {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ}[الإسراء:100] إلى غير ذلك (نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ(13) اللهِ إِلَى قَدَرِ اللهِ) أطلق عليه فرارًا لشبهه به في الصُّورةِ وإن كان ليس فرارًا شرعيًّا، والمرادُ أنَّ هجوم المرءِ‼ على ما يهلكُه منهيٌّ عنه ولو فعل لكان من قدرِ الله، وتجنُّبه ما يؤذِّيه مشروعٌ، وقد يُقدِّر الله وقوعه فيما فرَّ منه، فلو فعلهُ أو تركهُ لكان من قدرِ الله (أَرَأَيْتَ) أي: أخبرني (لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ هَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُـِدْوَتَانِ) بضم العين وكسرها وسكون الدال المهملتين، أي: شاطئانِ وحافَّتانِ (إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ) بالخاء المعجمة المفتوحة والصاد المهملة المكسورة بعدها موحدة (وَالأُخْرَى جَدْبَةٌ) بفتح الجيم وسكون الدال المهملة (أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللهِ، وَإِنْ رَعَيْتَ الجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللهِ؟).
          (قَالَ) ابنُ عبَّاسٍ ☻ بالسَّند السَّابق: (فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ) لم يشهدْ معهم المشاورةَ المذكورة (فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي فِي هَذَا) الَّذي اختلفتُم فيه (عِلْمًا. سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يَقُولُ: إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ) أي: بالطَّاعون (بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ) ليكون أسكن لأنفسكُم وأقطع لوساوسِ الشَّيطان (وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ) لئلَّا يكون معارضة للقدرِ، فلو خرج لقصدٍ آخر غير الفِرار جازَ (قَالَ) ابن عبَّاسٍ: (فَحَمِدَ اللهَ) تعالى (عُمَرُ) على مُوافقة اجتهادهِ واجتهادِ معظمِ الصَّحابةِ حديث رسولِ الله صلعم (ثُمَّ انْصَرَفَ) راجعًا إلى المدينةِ لأنَّه أحوطُ، ولرجحانِه بكثرَة القائلينَ به، مع موافقةِ اجتهادهِ للنَّصِّ المرويِّ عن الشَّارعِ صلعم .
          وفي إسناد هذا الحديث ثلاثةٌ من التَّابعين في نسقٍ واحدٍ وصحابيَّان وكلُّهم مدنيُّون، وأخرجهُ مسلمٌ في «الطِّبِّ» وأبو داود في «الجنائزِ» والنَّسائيُّ في «الطِّبِّ».


[1] في (د): «ابن».
[2] في (ص): «الأولى».
[3] «البدن»: ليست في (د).
[4] في (س): «ثماني».
[5] في (د): «وقد وقع»، وفي (س): «ووقع».
[6] «في المحرم»: ليست في (م).
[7] في (ب) و(س): «زيد».
[8] في (ب) و(س): «خرجنا».
[9] «وشيخة وشيخة»: ليست في (د).
[10] «شييخ»: ليست في (د).
[11] «على»: ليست في (د).
[12] «ما»: ليست في (د).
[13] في (م) هنا والموضع التالي: «قضاء».