إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها

          56- وبه قال: (حَدَّثَنَا الحَكَمُ) بفتح الكاف: هو أبو اليمان (بْنُ نَافِعٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ) هو ابن أبي حمزة القرشيُّ (عَنِ الزُّهْرِيِّ) أبي بكرٍ محمَّد ابن شهابٍ، أنَّه(1) (قَالَ: حَدَّثَنِي) بالإفراد (عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ) بسكون العين (عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) المدنيِّ، أحد العشرة (أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ) يخاطب سعدًا، وَمَنْ يصحُّ منه الإنفاق: (إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً) قليلةً أو كثيرةً (تَبْتَغِي) أي: تطلب (بِهَا وَجْهَ اللهِ) تعالى، هو من المتشابه، وفيه مذهبان: التَّفويض والتَّأويل، قال العارف المحقِّق شمس الدِّين بن اللَّبان المصريُّ الشَّاذليُّ: وقد جاء ذكره في آياتٍ كثيرةٍ، فإذا أردت أن تعلم حقيقة مظهره من الصُّور(2) فاعلم أنَّ حقيقته من غمام الشَّريعة: بارقُ نورِ التَّوحيد، ومظهره من العمل: وجه الإخلاص {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ }... الآية[الروم:43] ويدلُّ على أنَّ وجه الإخلاص مظهره قوله تعالى: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ }[الأنعام:52] وقوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ }[الإنسان:9] وقوله ╡ : {إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى }[الليل:20]والمُرَاد بذلك كلِّه: الثَّناء بالإخلاص على أهله، تعبيرًا بإرادة «الوجه» عن إخلاص النِّيَّة، وتنبيهًا على أنَّه مظهر وجهه سبحانه وتعالى، ويدلُّ على أنَّ حقيقة الوجه هو بارق نور التَّوحيد قوله ╡ : {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ }[القصص:88] أي: إلَّا نور توحيده. انتهى. و«الباء» في قوله في الحديث «بها» للمقابلة، أو بمعنى «على» ولذا وقع في بعض النُّسخ: ”عليها“ بدل «بها»، أو للسَّببيَّة، أي: لن تُنفق نفقةً تبتغي بسببها وجه الله تعالى (إِلَّا) نفقةً (أُجِرْتَ عَلَيْهَا) بضمِّ الهمزة وكسر الجيم، ولكريمة: ”إلَّا أُجِرْتَ بها“ وهي في «اليونينيَّة» لأبي ذرٍّ والأَصيليِّ وابن عساكرَ، لكنَّه ضُرِبَ عليها بالحُمْرة (حَتَّى مَا تَجْعَلُ) أي: الذي تجعله (فِي فَمِ امْرَأَتِكَ) فأنت مأجورٌ فيه، وعلى هذا فالمرائي بعمل الواجب غير مُثَابٍ، وإن سقط عقابه بفعله، كذا قاله البرماويُّ كالكِرمانيِّ، وتعقَّبه العينيُّ: بأنَّ سقوط العقاب مُطلَقًا غير صحيحٍ، بل الصَّحيح التَّفصيل فيه؛ وهو أنَّ العقاب الذي يترتَّب على ترك الواجب يسقط لأنَّه أتى بعين الواجب، ولكنَّه كان مأمورًا أن يأتيَ بما عليه بالإخلاص وترك الرِّياء، فينبغي أن يُعاقَب على ترك الإخلاص لأنَّه مأمورٌ به، وتارك المأمور به يُعاقَب، وقال النَّوويُّ: ما أُرِيدَ به وجه الله يثبت فيه الأجر، وإن حصل لفاعله في ضمنه حظُّ شهوةٍ من لذَّةٍ أو غيرها؛ كوضع اللُّقمة(3) في فم الزَّوجة، وهو غالبًا لحظِّ النَّفس والشَّهوة، وإذا ثبت الأجر في هذا ففيما يُرَاد به وجه الله سبحانه فقط أحرى، وفي رواية الكُشْمِيهَنيِّ: ”في فِي امرأتك“ بغير ميمٍ، قال في «الفتح»: وهي رواية الأكثر، والمُستثنَى محذوفٌ لأنَّ الفعل لا يقع مُستثنًى، والتَّقدير _كما قال العينيُّ_: لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجه(4) الله إِلَّا نفقةً أُجِرْتَ عليها، ويكون قوله: «أُجِرْتَ عليها» صفةً للمُستثنَى، والمعنى على هذا؛ لأنَّ النَّفقة المأجور فيها هي التي تكون ابتغاءً لوجه الله تعالى، لأنَّها لو لم تكن لوجه الله لَمَا كانت مأجورًا فيها، والاستثناء متَّصلٌ لأنَّه من الجنس، والتَّنكير في قوله: «نفقةً» في سياق النَّفيِ يعمُّ القليلَ والكثيرَ، والخطاب في «إنَّك» للعموم إذ ليس المُرَاد «سعدًا» فقط، فهو مثل: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ }[السجدة:12] والصَّارف قرينة عدم اختصاصه، ويحتمل أن يكون بالقياس، و«حتَّى»: ابتدائيَّةٌ، و«ما»: مبتدأٌ، خبره المحذوف المُقدَّر بقوله: «فَأَنتَ مَأجُورٌ فِيْهِ»، فالنِّيَّة الصَّالحة إكسيرٌ تَقلِبُ العادةَ عبادةً، والقبيح جميلًا، فالعاقل لا يتحرَّك حركةً إلَّا لله، فينوي بمكثه في المسجد زيارة ربِّه في انتظار الصَّلاة، واعتكافه(5) على طاعته، وبدخوله الأسواق ذكر الله، وليس الجهر بشرطٍ، وأمرًا بمعروفٍ، ونهيًا عن مُنكَرٍ، وينوي عقب كلِّ فريضةٍ انتظار أخرى، فأنفاسه إذًا نفائس، ونيَّته خيرٌ من عمله.
          وهذا الحديث المذكور في الباب قطعةٌ من حديثٍ طويلٍ مشهورٍ، أخرجه المؤلِّف في «الجنائز» [خ¦1295] وفي «المغازي» [خ¦4409] و«الدَّعوات» [خ¦6373] و«الهجرة» [خ¦3936] و«الطِّب» [خ¦5668] و«الفرائض» [خ¦6733]، ومسلمٌ في «الوصايا»، وأبو داود، والتِّرمذيُّ فيها أيضًا، وقال: حسنٌ صحيحٌ / ، والنَّسائيُّ فيها وفي «عِشْرة النِّساء» وفي «اليوم واللَّيلة»، وابن ماجه في «الوصايا».


[1] «أنَّه»: سقط من (س).
[2] في (م): «الصُّورة».
[3] في (ب) و(س): «لقمة».
[4] «وجه»: سقط من (م).
[5] في (م): «عكوفه».