إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب أمور الإيمان

           ░3▒ هذا (باب أُمُورِ الإِيمَانِ) بالإضافة البيانيَّة؛ لأنَّ المُرَاد بيان الأمور التي هي الإيمان؛ لأنَّ الأعمال عند المؤلِّف هي الإيمان، أو بمعنى: «اللَّام» أي: باب الأمور الثَّابتة للإيمان في تحقيق حقيقته وتكميل ذاته، وفي رواية أبي ذرٍّ عن الكُشْمِيهَنيِّ: ”أمرُ الإيمان“ بالإفراد على إرادة الجنس (وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى) بالجرِّ عطفًا على «أمورِ(1)» وفي رواية أبوي ذَرٍّ والوقت والأَصيليِّ: ” ╡ “ بدل قوله «تعالى»: ({ لَّيْسَ الْبِرَّ }) وهو اسمٌ لكلِّ خيرٍ وفعلٍ مَرْضِيٍّ ({أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ }) قال القاضي ناصر الدِّين البيضاويُّ: أي: ليس البرُّ مقصورًا على أمر القبلة، أو ليس البِرُّ ما أنتم عليه؛ فإنَّه منسوخٌ ({ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ }) الذي ينبغي أن يُهتَمَّ به ({مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ}) القرآنِ أو أعمَّ ({وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ }) تعالى أو حبِّ المال ({ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى }) المحاويج منهم، ولم يقيِّده لعدم الإلباس ({وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ}) المسافر أو الضَّيف ({ وَالسَّآئِلِينَ }) أي: الذين ألجأَتْهمُ الحاجة إلى السُّؤال ({ وَفِي الرِّقَابِ }) أي: تخليصها بمعاونة المُكاتَبين، أو فكِّ الأسارى، أو ابتياع الرِّقاب لعتقها ({ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ }) المفروضتين، والمُرَاد بـ {وَآتَى الْمَالَ } بيانُ مصارِفِها ({وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ }) عطفٌ على {مَنْ آمَنَ } ({وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء }) نُصِبَ على المدح، ولم يُعطَف لفضل الصَّبر على سائر الأعمال، وعن الأزهريِّ(2): {الْبَأْسَاء } في الأموال؛ كالفقر، و{والضَّرَّاء } في الأنفس؛ كالمرض ({وَحِينَ الْبَأْسِ }) وقتَ مجاهدة العدوِّ ({أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا }) في الدِّين واتِّباع الحقِّ وطلب البِرِّ ({وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }[البقرة:177]) عن الكفر وسائر الرَّذائل، والآية _كما ترى_ جامعةٌ للكمالات الإنسانيَّة بأَسْرِها، دالَّةٌ عليها صريحًا أو ضمنًا، فإنَّها(3) بكثرتها وتشعُّبها منحصرةٌ في ثلاثةِ أشياءَ: صِحَّةِ الاعتقادِ، وحُسنِ المُعاشَرَةِ، وتهذيبِ النَّفسِ، وقد أُشِير إلى الأوَّل بقوله: {مَنْ آمَنَ }... إلى: {وَالنَّبِيِّينَ } وإلى الثَّاني بقوله: {وَآتَى الْمَالَ }... إلى: {وَفِي الرِّقَابِ } وإلى الثَّالث بقوله: {وَأَقَامَ الصَّلاةَ }... إلى آخرها؛ ولذلك وُصِفَ المُستجمِع لها بالصِّدق نظرًا إلى إيمانه واعتقاده، وبالتَّقوى اعتبارًا لمُعاشرَته للخَلْق ومُعاملَته مع الحقِّ، وإليه أشار ╕ بقوله: «مَنْ عمل بهذه الآية فقدِ استكمل الإيمان»، وهذا وجه استدلال المؤلِّف بهذه الآية ومُناسبَتها لتبويبه، وفي حديث أبي ذَرٍّ عند عبد الرَّزَّاق بسندٍ رجالُهُ ثقاتٌ: أنَّه سأل النَّبيَّ صلعم عن الإيمان، فتلا عليه هذه الآية، ولم يذكره المؤلِّف لأنَّه ليس على شرطه، وقد سقط في رواية الأَصيليِّ وأبي ذَرٍّ «{وَلَـكِنَّ الْبِرَّ}...» إلى آخر الآية، وسقط لابن عساكرَ «{ وَالْيَوْمِ الآخِرِ }».
          ثمَّ استدلَّ المؤلِّف لذلك أيضًا بآيةٍ أخرى فقال: ({قَدْ أَفْلَحَ }) أي: فاز / ({الْمُؤْمِنُونَ} الآيَةَ[المؤمنون:1]) بإسقاط واو العطف لعدم الإلباس، قال في «الفتح»: ويحتمل أن يكون ساقه تفسيرًا لقوله: { قَدْ أَفْلَحَ } تقديره: المتَّقون هم الموصوفون بقوله: { قَدْ أَفْلَحَ } وفي رواية الأَصيليِّ: ”وَ {قَدْ أَفْلَحَ }“ بإثبات الواو، وفي رواية ابن عساكرَ: ”وقوله: { قَدْ أَفْلَحَ }“ قلت: وفيهما ردٌّ لِما قاله في «الفتح» من احتمال التَّفسير(4)، والآية يجوز فيها النَّصبُ؛ بتقدير: اقرأ، والرَّفعُ مبتدأٌ حُذِفَ خبرُه.


[1] في (ل): «الأمور».
[2] في (ص) و(م): «الزُّهريِّ»، وهو تحريفٌ.
[3] في (ص): «كأنَّها».
[4] قوله: «قلت: وفيهما ردٌّ لمِا قاله في الفتح من احتمال التَّفسير» ليس في (ص) و(م).