إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب قول النبي: بني الإسلام على خمس

           ░1▒ هذا (بابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلعم ) في الحديث الموصول الآتي تامًا إن شاء الله تعالى: (بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ) [خ¦8] وفي فرع «اليونينيَّة» كهي: ”كتاب الإيمان، وقول النَّبيِّ صلعم “ وفي أخرى: ”باب الإيمان وقول النَّبيِّ“ والأوَّل أصحُّ؛ لأنَّ ذكر الإيمان بعد ذكر كتاب الإيمان لا طائل تحته كما لا يخفى، وسقط لفظ «باب» عند الأَصيليِّ، والإسلام لغةً: الانقياد والخضوع، ولا يتحقَّق ذلك إلَّا بقبول الأحكام والإذعان، وذلك حقيقة التَّصديق كما سبق، قال الله تعالى: { فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ}[الذاريات:35-36] فالإيمان لا ينفكُّ عن الإسلام حكمًا، فهما متَّحدان في التَّصديق، وإن تغايرا بحسب المفهوم؛ إذ مفهوم الإيمان: تصديق القلب، ومفهوم الإسلام: أعمال الجوارح، وبالجملة: لا يصحُّ في الشَّرع أن يُحكَم على أحدٍ بأنَّه مؤمنٌ وليس بمسلمٍ، أو مسلمٌ وليس بمؤمنٍ، ولا نعني بوحدتهما سوى هذا، ومن أثبت التَّغاير فقد يُقَال له: ما حكم من آمن ولم يسلم، أو أسلم ولم يؤمن؟ فإن أثبت لأحدهما حكمًا ليس بثابتٍ للآخر فقد ظهر بطلان قوله، فإن قِيلَ قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا }[الحجرات:14] صريحٌ في تحقُّق الإسلام بدون الإيمان، أُجِيب: بأنَّ المراد أنَّهم انقادوا في الظَّاهر دون الباطن، فكانوا كمن تلفَّظ بالشَّهادتين ولم يصدِّق بقلبه، فإنَّه تجري عليه الأحكام في الظَّاهر. انتهى.
          (وَهُوَ) أي: الإيمان المبَوَّب عليه عند المصنِّف كابن عُيَيْنَةَ والثَّوريِّ وابن جريجٍ ومجاهدٍ ومالكِ بن أنسٍ، وغيرهم من سلف الأمَّة وخلفها من المتكلِّمين والمحدِّثين: (قَوْلٌ) باللِّسان وهو النُّطق بالشَّهادتين (وَفِعْلٌ) ولأبي ذَرٍّ عن(1) الكُشْمِيهَنيِّ: ”وعملٌ“ بدل «فعلٌ» وهو أعمُّ من عمل القلب والجوارح؛ لتدخل الاعتقادات والعبادات، وهو موافقٌ لقول السَّلف: اعتقادٌ بالقلب / ونطقٌ باللِّسان وعملٌ بالأركان، وأرادوا بذلك: أنَّ الأعمال شرط في كماله، وقال المتأخِّرون _ومنهم الأشعريَّة وأكثر الأئمَّة كالقاضي، ووافقهم ابن الرَّاونديُّ من المعتزلة_: هو تصديق الرَّسول ◙ بما عُلِمَ مجيئه به ضرورةً، تفصيلًا فيما عُلِمَ تفصيلًا، وإجمالًا فيما علم إجمالًا، تصديقًا جازمًا مُطلَقًا، سواءٌ كان لدليلٍ أم لا، قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ }[المجادلة:22] {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ }[الحجرات:14] وقال ╕ : «اللهمَّ ثبِّت قلبي على دينك»، وإذا ثَبَتَ أنَّه فعل القلب وَجَبَ أن يكون عبارةً عن مجرَّد التَّصديق، وقد خرج بقيد «الضَّرورة» ما لم(2) يُعلَمْ بالضَّرورة أنَّه جاء به كالاجتهادات، وبـ «الجازم»: التَّصديق الظَّنيُّ، فإنَّه غيرُ كافٍ، وقيل: هو المعرفة، فقومٌ: بالله، وهو مذهب جهم بن صفوان، وقومٌ: بالله وبما جاء به الرَّسول إجمالًا، وهو منقولٌ عن بعض الفقهاء، وقال الحنفيَّة: التَّصديق بالجَنَان، والإقرار باللِّسان، قال العلَّامة التَّفتازانيُّ: إلَّا أنَّ التَّصديق ركنٌ لا يحتمل السُّقوط أصلًا، والإقرار قد يحتمله كما في حالة الإكراه، فإن قلت: قد لا يبقى التَّصديق(3) كما في حالة النَّوم والغفلة، أُجِيب: بأنَّ التَّصديق باقٍ في القلب، والذُّهول إنَّما هو عن حصوله، وذهب جمهور المحقِّقين إلى أنَّه هو التَّصديق بالقلب، وإنَّما الإقرارُ شرطٌ لإجراء الأحكام في الدُّنيا، لما أنَّ تصديق القلب أمرٌ باطنيٌّ لابدَّ له من علامةٍ. انتهى.
          وقال النَّوويُّ ⌂ : اتَّفق أهل السُّنَّة من المحدِّثين والفقهاء والمتكلِّمين: أنَّ المؤمن الذي يُحكَم بأنَّه من أهل القبلة ولا يُخلَّد في النَّار لا يكون إلَّا من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقادًا جازمًا خاليًا من الشُّكوك، ونطق مع ذلك بالشَّهادتين، فإن اقتصر على أحدهما لم يكن من أهل القبلة أصلًا، بل يُخلَّد في النَّار، إلَّا أن يعجز عن النُّطق لخللٍ في لسانه، أو لعدم التَّمكُّن منه لمعاجلة المنيَّة أو لغير ذلك، فإنَّه حينئذٍ يكون مؤمنًا بالاعتقاد من غير لفظٍ. انتهى.
          وقالتِ الكرَّاميَّة: النُّطق بكلمتي الشَّهادة فقط، وقال قومٌ: العمل، وذهب الخوارج والعلَّاف وعبد الجبَّار إلى أنَّه الطَّاعات بأَسْرِها فرضًا كانت أو نفلًا، وذهب الجبَّائيُّ وابنه وأكثر المعتزلة البصريَّة إلى أنَّه الطَّاعات المُفترَضة من الأفعال والتُّروك دون النَّوافل، وقال الباقون منهم: العمل والنُّطق والاعتقاد، والفارق بينه وبين قول السَّلف السَّالف: أنَّهم جعلوا الأعمال شرطًا في الكمال، والمعتزلة جعلوها شرطًا في الصِّحَّة، فهذه ثمانية أقوالٍ؛ خمسةٌ منها بسيطةٌ، والأوَّل والثامن(4) مُركَّبٌ ثلاثيٌّ، والرَّابع مُركَّبٌ ثُنائيٌّ، ووجه الحصر: أنَّ الإيمان لا يخرج بإجماع المسلمين عن فعل القلب وفعل الجوارح، فهو حينئذٍ: إمَّا فعل القلب فقط؛ وهو المعرفة على الوجهين أو التَّصديق المذكور، وإمَّا فعل الجوارح فقط؛ وهو فعل اللِّسان وهو الكلمتان، أو غير فعل اللِّسان؛ وهو العمل بالطَّاعات المُطلَقة أو المُفترَضة، وإمَّا فعل القلب والجوارح معًا، والجارحة: إمَّا اللِّسان وحده، أو جميع الجوارح، وهذا كلُّه بالنَّظر إلى ما عند الله تعالى، أمَّا بالنَّظر إلى ما عندنا فالإيمان هو الإقرار فقط، فإذا أقرَّ حكمنا بإيمانه اتِّفاقًا. نعم؛ النِّزاع واقعٌ في نفس الإيمان والكمال، فإنَّه لابدَّ فيه من الثَّلاثة إجماعًا، فمن أقرَّ بالكلمة جرت عليه الأحكام في الدُّنيا، ولم يُحكَم بكفره، إلَّا إنِ اقترن به فعلٌ كالسُّجود لصنمٍ، فإن كان غير دالٍّ عليه كالفسق؛ فمن أطلق عليه الإيمان فبالنَّظر إلى إقراره، ومن نفى عنه الإيمان فبالنَّظر إلى(5) كماله، ومن أطلق عليه الكفر فبالنَّظر إلى أنَّه فَعَل فِعْل الكافر، ومن نفاه عنه فبالنَّظر إلى حقيقته، وأثبت المعتزلة الواسطة، فقالوا: الفاسق لا مؤمنٌ ولا كافرٌ.
          (وَ) إذا تقرَّر هذا؛ فاعلم أنَّ الإيمان (يَزِيدُ) بالطَّاعة(6) (وَيَنْقُصُ) بالمعصية كما عند المؤلِّف [خ¦2/1-10] وغيره، وأخرجه أبو نعيمٍ كذا بهذا اللَّفظ في ترجمة الشَّافعيِّ ⌂ من «الحِلية»، وهو عند الحاكم بلفظ: الإيمان قولٌ وعملٌ، ويزيد وينقص، وكذا نقله اللَّالكائيُّ في «كتاب السُّنَّة» عن الشَّافعيِّ، وأحمد ابن حنبل، وإسحاق بن رَاهُوْيَه، بل قال به من الصَّحابة: عمر بن الخطاب، وعليُّ بن أبي طالبٍ، وابن مسعودٍ، ومعاذ بن جبلٍ، وأبو الدَّرداء، وابن عبَّاسٍ، وابن عمرَ، وعُمارةُ، وأبو هريرةَ، وحذيفةُ، وعائشةُ، وغيرهم ♥ ، ومن التَّابعين: كعب الأحبار، وعروة، وطاوس، وعمر بن عبد العزيز، وغيرهم، وروى / اللَّالكائيُّ أيضًا بسندٍ صحيحٍ عن البخاريِّ قال: لقيت أكثر من ألف رجلٍ من العلماء بالأمصار، فما رأيت أحدًا منهم يختلف في أنَّ الإيمان قولٌ وعملٌ، ويزيد وينقص، وأمَّا توقُّف مالكٍ ☼ عن القول بنقصانه فخشيةَ أن يُتَأَوَّل عليه مُوافقَة الخوارج.
          ثمَّ استدلَّ المؤلِّف على زيادة الإيمانِ بثمانِ آياتٍ من القرآن العظيم مصرِّحة بالزِّيادة، وبِثُبوتها يَثبُت المُقابل، فإنَّ كلَّ قابلٍ للزِّيادة قابلٌ للنُّقصان ضرورةً، فقال: (قَالَ) وفي رواية الأَصيليِّ: ”وقال“ (اللهُ تَعَالَى) بـ «الواو»، في سورة الفتح، ولأبي ذَرٍّ: ” ╡ “: ({لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ }[الفتح:4]) وقال تعالى في الكهف: ({وَزِدْنَاهُمْ هُدًى }[الكهف:13]) أي: بالتَّوفيق والتَّثبيت، وهذه الآية ساقطةٌ في رواية ابن عساكر، كما في فرع «اليونينيَّة» كهي، والآية الثَّالثة في مريم: ({ وَيَزِيدُ اللهُ }) بالواو، وفي رواية ابن عساكر: ”يزيد الله“ وفي أخرى للأَصيليِّ: ”وقال: {وَيَزِيدُ اللهُ }“ ({ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى }[مريم:76]) أي: بتوفيقه (وَقَالَ) في القتال، وفي رواية ابن عساكر والأَصيليِّ: ”وقوله“ وفي روايةٍ بإسقاطهما والابتداء بقوله ╡ : ({وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى }) بالتَّوفيق ({ وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ}[محمد:17]) أي: بيَّن لهم ما يتَّقون، أو أعانهم على تقواهم، أو أعطاهم جزاءها، وقال تعالى في المدَّثِّر: ({وَيَزْدَادَ }) ولابن عساكر والأَصيليِّ: ”وقوله: {وَيَزْدَادَ }“ ({ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا }) بتصديقهم بأصحاب النَّار المذكورين في قوله ╡ : { وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً...}[المدثر:31] الآية (وَقَوْلُهُ) تعالى في براءة: ({أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ }) أي: السُّورة ({إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا }[التوبة:124]) بزيادة العلم الحاصل من تدبُّرها، وبانضمام الإيمان بها، وبما فيها إلى إيمانهم (وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ) في آل عمران: ({فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً }[آل عمران:173]) لعدم التفاتهم إلى من ثبَّطهم عن قتال المشركين، بل ثبت يقينهم بالله وازداد إيمانهم، قال البيضاويُّ: وهو دليلٌ على أنَّ الإيمان يزيد وينقص (وَقَوْلُهُ تَعَالَى) في الأحزاب: ({وَمَا زَادَهُمْ }) أي: لمَّا رأوا الخَطْب أو البلاء في قصَّة الأحزاب، وسقطت واو { وَمَا } للأَصيليِّ فقال: ”{ وَمَا زَادَهُمْ }“ ({إِلَّا إِيمَانًا }) بالله تعالى ومواعيده ({وَتَسْلِيمًا }[الأحزاب:22]) لأوامره ومقاديره، فإن قلت: الإيمان: هو التَّصديق بالله ورسوله، والتَّصديق شيءٌ واحدٌ لا يتجزَّأ، فلا يُتصوَّر كمالُه تارةً ونقصُه أخرى، أُجِيب: بأنَّ قبوله الزِّيادة والنَّقص ظاهرٌ، على تقدير دخول القول والفعل فيه، وفي الشَّاهد شاهدٌ بذلك؛ فإنَّ كلَّ أحدٍ يعلم أنَّ ما في قلبه يتفاضل، حتَّى إنَّه يكون في بعض الأحيان أعظم يقينًا وإخلاصًا وتوكُّلًا منه في بعضها(7)، وكذلك في التَّصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها، ومن ثمَّ كان إيمان الصِّدِّيقين أقوى من إيمان غيرهم، وهذا مبنيٌّ على ما ذهب إليه المحقِّقون من الأشاعرة: من أنَّ نفس التَّصديق لا يزيد ولا ينقص، وأنَّ الإيمان الشَّرعيَّ يزيد وينقص بزيادة ثمراته _التي هي الأعمال_ ونقصانها، وبهذا يحصل التَّوفيق بين ظواهر النُّصوص الدَّالَّة على الزِّيادة وأقاويل السَّلف بذلك، وبين أصل وضعه اللُّغويِّ وما عليه أكثر المتكلِّمين. نعم؛ يزيد وينقص قوَّةً وضعفًا، وإجمالًا وتفصيلًا، أو تعدُّدًا بحسب تعدُّد المؤمن به، وارتضاه النَّوويُّ، وعَزَاه التَّفتازانيُّ في «شرح عقائد النَّسفيِّ» لبعض المحقِّقين، وقال في «المواقف»: إنَّه الحقُّ، وأنكر ذلك أكثر المتكلِّمين والحنفيَّة؛ لأنَّه متى قُبِلَ ذلك كان شكًّا وكفرًا، وأجابوا عن الآيات السَّابقة ونحوها بما نقلوه عن إمامهم: أنَّها محمولةٌ على أنَّهم كانوا آمَنوا في الجملة، ثمَّ يأتي فرضٌ بعد فرضٍ، فكانوا يؤمنون بكل فرضٍ خاصٍّ، وحاصله: أنَّه كان يزيد بزيادة ما يجب الإيمان به، وهذا لا يُتصَّور في غير عصره صلعم ، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الاطِّلاع على تفاصيل الفرائض يمكن في غير عصره ╕ ، والإيمان واجبٌ إجمالًا فيما عُلِمَ إجمالًا، وتفصيلًا فيما عُلِمَ تفصيلًا، ولا خفاء في أنَّ التَّفصيليَّ أَزْيَدُ. انتهى.
          ثمَّ استدلَّ المؤلِّف على قبول الزِّيادة أيضًا بقوله: (وَالحُبُّ فِي اللهِ) وهو _بالرَّفع_ مبتدأٌ (وَالبُغْضُ فِي اللهِ): عطفٌ عليه، وقوله: (مِنَ الإِيمَانِ) خبرُ المبتدأِ، وهذا لفظُ حديثٍ رواه أبو داودَ من حديث أبي أُمامةَ؛ لأنَّ الحبَّ والبغض يتفاوتان.
          (وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ) بن مروان الأمويُّ القرشيُّ أحد الخلفاء الرَّاشدين، المُتوفَّى بدير سِمْعان بحمصَ يوم / الجمعة لخمس ليالٍ بَقِين من رجب سنة إحدى ومئةٍ (إِلَى عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ) بفتح العين وكسر الدَّال المُهملَتين فيهما، ابن عَمرة _بفتح العين_ الكنديِّ التَّابعيِّ المُتوفَّى سنة عشرين ومئةٍ: (إِنَّ لِلإِيمَانِ) بكسر همزة «إنَّ» في «اليونينيَّة» (فَرَائِضَ) بالنَّصب اسم «إنَّ» مُؤخَّرًا، أي: أعمالًا مفروضةً (وَشَرَائِعَ) أي: عقائد دينيَّةً (وَحُدُودًا) أي: منهيَّاتٍ ممنوعةً (وَسُنَنًا) أي: مندوباتٍ، وفي رواية ابن عساكرَ: ”إنَّ الإيمان فرائضٌ“ بالرَّفع خبر «إنَّ»، وما بعده معطوفٌ عليه، ووقع للجرجانيِّ: ”فرائع“ وليس بشيءٍ (فَمَنِ اسْتَكْمَلَهَا) أي: الفرائض وما معها فقد (اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلِ الإِيمَانَ) فيه إشارةٌ إلى قبول الإيمان الزِّيادةَ والنُّقصانَ، ومن ثمَّ ذكره المؤلِّف هنا استشهادًا، لا يُقال: إنَّه لا يدلُّ على ذلك بل على خلافه؛ إذ قال: للإيمان كذا وكذا، فجعل الإيمان غير الفرائض وما ذُكِرَ معها، وقال: مَنِ استكملها، أي: الفرائض وما معها، فجعل الكمال لِمَا للإيمان، لا للإيمان؛ لأنَّا نقول: آخر كلامه يُشعِر بذلك حيث قال: فمن استكملها _أي: الفرائض وما معها_ فقد استكمل الإيمان (فَإِنْ أَعِشْ فَسَأُبَيِّنُهَا) أي: فسأوضِّحها (لَكُمْ) إيضاحًا يفهمه كلُّ أحدٍ منكم، والمُرَاد: تفاريعها لا أصولها؛ إذ كانت معلومةً لهم على سبيل الإجمال، وأراد: سأبيِّنها لكم على سبيل التَّفصيل (حَتَّى تَعْمَلُوا بِهَا، وَإِنْ أَمُتْ فَمَا أَنَا عَلَى صُحْبَتِكُمْ بِحَرِيصٍ) وليس في هذا تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ إذ الحاجة لم تتحقَّق، أو أنَّه علم أنَّهم يعلمون مقاصدها، ولكنَّه استظهر وبالغ في نصحهم وتنبيههم على المقصود، وعرَّفهم أقسام الإيمان مُجمَلًا، وأنَّه سيذكرها مفصَّلًا إذا تفرَّغ لها، فقد كان مشغولًا بالأهمِّ، وهو من تعاليق المؤلِّف المجزومة، وهي محكومٌ بصحَّتها، ووصله أحمدُ وابن أبي شيبة في «كتاب الإيمان» لهما من طريق عيسى بن عاصمٍ، قال: حدَّثني عديُّ بن عديٍّ... فذكره.
          (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ) الخليل، زاد الأَصيليُّ في روايته، كما في فرع «اليونينيَّة» كهي: ” صلعم “ وقد عاش فيما رُوِيَ مئة سنةٍ وخمسًا وسبعين سنةً، أو مئتي سنةٍ، ودُفِنَ بحبرون؛ بالحاء المُهملَة: ({وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي }[البقرة:260]) أي: ليزداد بصيرةً وسكونًا بمُضامَّة العيان إلى الوحي والاستدلال؛ فإنَّ عين اليقين فيه طمأنينةٌ ليست في علم اليقين، ففيه دلالةٌ على قَبول التَّصديق اليقينيِّ للزِّيادة، وعند ابن جريرٍ بسندٍ صحيحٍ إلى سعيد بن جُبيرٍ أي: يزداد يقيني، وعن مجاهدٍ: لِأزدادَ إيمانًا إلى إيماني، لا يُقال: كان المناسب أن يذكر المؤلِّف ⌂ هذه الآية عند الآيات السَّابقة؛ لأنَّا نقول: إنَّ هاتيك دلالتُها على الزِّيادة صريحةٌ(8) بخلاف هذه؛ فِلذا أخَّرها إشعارًا بالتَّفاوت.
          (وَقَالَ مُعَاذٌ) بضمِّ الميم والذَّال المُعجَمة، وللأَصيليِّ في روايته: ”وقال معاذ بن جبلٍ“ كما في فرع «اليونينيَّة» كهي، ابن عمرٍو(9) الخزرجيُّ الأنصاريُّ، المُتوفَّى سنة ثمانيةَ عَشَرَ، وله في «البخاريِّ» ستَّةُ أحاديث للأسود بن هلالٍ: (اجْلِسْ بِنَا) بهمزة وصلٍ (نُؤْمِنْ) بالجزم (سَاعَةً) أي: نزداد إيمانًا؛ لأنَّ معاذًا كان مؤمنًا أيّ: مؤمنٍ، وقال النَّوويُّ: معناه: نتذاكر الخير وأحكام الآخرة وأمور الدِّين فإنَّ ذلك إيمانٌ، وقال القاضي أبو بكرِ بن العربيِّ: لا تعلُّق فيه للزِّيادة؛ لأنَّ معاذًا إنَّما أراد تجديد الإيمان؛ لأنَّ العبد يؤمن في أوَّل مرَّةٍ فرضًا، ثمَّ يكون أبدًا مجدِّدًا كلَّما نظر أو فكَّر، قال في «الفتح» متعقِّبًا له: وما نفاه أوَّلًا أثبته آخرًا؛ لأنَّ تجديد الإيمان إيمانٌ، وهذا التَّعليق وصله أحمد وابن أبي شيبة _كالأوَّل_ بسندٍ صحيحٍ إلى الأسود بن هلالٍ قال: قال لي معاذُ: اجلس...؛ فذكره، وعُرِفَ من هذا أنَّ الأسود أبهم نفسه.
          (وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ) عبد الله، وجدُّه غافلٌ؛ بالمُعجَمة والفاء، الهُذليُّ؛ نسبةً إلى جدِّه هُذيل ابن مدركَة، المُتوفَّى بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين، وله في «البخاريِّ» خمسةٌ وثمانون حديثًا: (اليَقِينُ الإِيمَانُ كُلُّهُ) أكَّده بـ «كلٍّ» لدلالتها _كـ «أجمع»_ على التَّبعيض للإيمان؛ إذ لا يُؤكَّد بهما إلَّا ذو أجزاءٍ يصحُّ افتراقها حِسًّا أو حُكمًا، وهذا التَّعليق طرفٌ من أثرٍ رواه الطَّبرانيُّ بسندٍ صحيحٍ، وتتمَّته: «والصبر نصف الإيمان»، ولفظ «النِّصف» صريحٌ في التَّجزئة.
          (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ) عبدُ الله، وجدُّه / الخطَّاب، أحد العبادلة، السَّابق للإسلام مع أبيه، أحد السِّتَّة المكثرين للرِّواية، المُتوفَّى سنة ثلاثٍ أو أربعٍ وسبعين: (لَا يَبْلُغُ العَبْدُ) بالتَّعريف، وفي رواية ابن عساكرَ: ”عبدٌ“ بالتنكير (حَقِيقَةَ التَّقْوَى) التي هي وقاية النَّفس عن الشِّرك والأعمال السَّيِّئة، والمُواظَبة على الأعمال الصَّالحة (حَتَّى يَدَعَ مَا حَاكَ) بالمُهمَلة والكاف الخفيفة، أي: اضطرب (فِي الصَّدْرِ) ولم ينشرح له، وخاف الإثم فيه، وفي بعض نسخ المغاربة: ”ما حَكَّ“ بتشديد الكاف، وفي بعض نسخ العراقيَّة(10): ”ما حاكَّ“ بالألف والتَّشديد؛ من المُحاكَّة، حكاهما صاحب «عمدة القاري» والبرماويُّ، وقد روى مسلمٌ معناه من حديث النَّوَّاس بن سَـِمعا♣ن مرفوعًا: «البِرُّ حُسْنُ الخُلُق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يَطَّلِع النَّاسُ عليه» وفي أثر ابن عمر هذا إشارةٌ إلى أنَّ بعض المؤمنين بلغ كُنْهَ الإيمان، وبعضهم لم يَبْلُغْه، فتجوز الزِّيادة والنُّقصان.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ) أي: ابن جَبْرٍ؛ بفتح الجيم وسكون المُوحَّدة غير مُصغَّرٍ على الأشهر، المخزوميُّ مولى عبد الله بن السَّائب المخزوميِّ، المُتوفَّى وهو ساجدٌ سنة مئةٍ؛ في تفسير قوله تعالى: ({ شَرَعَ لَكُم }[الشورى:13]) زاد الهرويُّ وابن عساكرَ: ”{مِّنَ الدِّينِ }“ أي: (أَوْصَيْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ وَإِيَّاهُ) أي: نوحًا (دِينًا وَاحِدًا) خصَّ نوحًا ╕ لِمَا قِيلَ إنَّه الذي جاء بتحريم الحرام وتحليل الحلال، وأوَّل من جاء بتحريم الأمَّهات والبنات والأخوات، لا يُقَال: إنَّ «إيَّاه» تصحيفٌ وقع في «أصل البخاريِّ» في هذا الأثر، وإنَّ الصَّواب: «وأنبياءه» كما عند عبد بن حميدٍ وابن المنذر وغيرهما، وكيف يفرد مجاهد الضَّمير لـ «نوحٍ» وحده؟ مع أنَّ في السِّياق ذكر جماعةً؛ لأنَّه أُجِيب: بأنَّ نوحًا ◙ أُفْرِدَ في الآية، وبقيَّة الأنبياء ╫ عطْفٌ عليه، وهم داخلون فيما وصَّى به نوحًا في تفسير مجاهدٍ، وكلُّهم مشتركون في ذلك، فَذِكْرُ واحدٍ منهم يغني عن الكلِّ، على أنَّ نوحًا أقربُ مذكورٍ في الآية، وهو أَوْلى بِعَوْدِ الضَّمير إليه في تفسير مجاهدٍ، فليس بتصحيفٍ بل هو صحيحٌ، وهذا التَّعليق أخرجه عبد بن حميدٍ في «تفسيره» بسندٍ صحيحٍ عن شبابة عن ورقاء عن ابن أبي نجيحٍ (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله ☻ في تفسير قوله تعالى: ({ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا }[المائدة:48]) أي: (سَبِيلًا) أي: طريقًا واضحًا(11)، وهو تفسيرٌ لـ {وَمِنْهَاجًا } (وَسُنَّةً) يُقَال: شَرَع يَشْرَع شَرْعًا(12)، أي: سنَّ، فهو تفسيرٌ لـ {شِرْعَةً } فيكون من باب اللَّفِّ والنَّشر الغير المرتَّب، وسقطت «الواو» من «وقال» لابن عساكر، وهذا التَّعليق وصله عبد الرَّزَّاق في «تفسيره» بسندٍ صحيحٍ.
          وقد وقع هنا في رواية أبي ذَرٍّ وغيره: ”بابٌ“ بالتَّنوين، وهو ثابتٌ في أصلٍ عليه خطُّ الحافظ قطب الدِّين الحلبيِّ، كما قال العينيُّ: إنَّه رآه، ورأيته أنا كذلك في فرع «اليونينيَّة» كهي، لكنه فيها ساقطٌ في رواية الأَصيليِّ وابن عساكر، وأيَّدَه قول الكِرمانيِّ: إنَّه وقف على أصلٍ مسموعٍ على الفَـِرَبْريِّ بحذفه، بل قال النَّوويُّ: ويقع في كثيرٍ من النُّسخ هنا(13): بابٌ، وهو غلطٌ فاحشٌ، وصوابه بحذفه، ولا يصحُّ إدخاله هنا لأنَّه لا تعلُّق له بما نحن فيه، ولأنَّه ترجم لقوله ╕ : «بُنِي الإسلام» ولم يذكره قبل هذا وإنَّما ذكره بعده، وليس مطابقًا للتَّرجمة، وعلى هذا فقوله: (دُعَاؤُكُمْ إِيمَانُكُمْ) من قول ابن عبَّاسٍ يشير به إلى قوله تعالى: { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ }[الفرقان:77] فسُمِّي الدُّعاء إيمانًا، والدُّعاء عملٌ، فاحتجَّ به على أنَّ الإيمان عملٌ، وعطفه على ما قبله كعادته في حذف أداة العطف حيث ينقل التَّفسير، وهذا التَّعليق وصله ابن جريرٍ من قول ابن عبَّاسٍ، وفي رواية أبي ذرٍّ: ”لقوله تعالى: { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ }“، ومعنى «الدُّعاء» في اللُّغة: الإيمان.


[1] في (ص): «و».
[2] في غير (ب) و(س): «لا».
[3] في (ب) و(س): «التَّصديق قد يُذهَل عنه».
[4] في (ص): «والثاني»، وهو تحريفٌ.
[5] قوله: «إقراره، ومن نفى عنه الإيمان فبالنَّظر إلى» سقط من (ص).
[6] في (ل): «يزيد بالأعمال».
[7] في (م): «غيرها».
[8] في (ل): «صريحًا».
[9] في (م): «عمر»، وليس بصحيحٍ.
[10] في (ب) و(س): «العراق».
[11] في (ص): «واحدًا».
[12] في (م): «شرعة».
[13] في (ص): «كلها»، ثم ليس فيه لفظ «باب».