إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث ابن عباس: أصبت بعضًا وأخطأت بعضًا

          7046- وبه قال: (حَدَّثَناَ يَحْيَى ابْنُ بُكَيْرٍ) هو: يحيى بنُ عبد الله بن بُكير المخزوميُّ مولاهم المصريُّ _بالميم_ ونسبه لجدِّه، قال: (حَدَّثَنَا اللَّيْثُ) بن سعدٍ المصريُّ (عَنْ يُونُسَ) بن يزيد الأيليِّ (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمَّدِ بن مسلمٍ الزُّهريِّ (عَنْ عُبَيْدِ اللهِ) بالتَّصغير (بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ) بن مسعودٍ (أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ☻ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَجُلًا) قال الحافظ ابن حجرٍ: لم أقفْ على اسمه (أَتَى رَسُولَ اللهِ صلعم ) وفي مسلم‼ من طريق سليمان بن كثير عن الزُّهريِّ: أنَّ رسول الله صلعم كان(1) ممَّا يقول لأصحابه: «مَن رأى منكُم رؤيا فليقصَّها أعبُرها» فجاء رجل. وعنده أيضًا من رواية(2) سفيان بن عُيينة: جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ صلعم مُنْصَرَفه من أُحُدٍ (فَقَالَ): يا رسولَ الله (إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ فِي المَنَامِ ظُلَّةً) بضم الظاء المعجمة وتشديد اللام، سحابةً لأنَّها تظلُّ ما تحتها، وزاد الدَّارميُّ من طريق سليمان بن كثير وابنُ ماجه من طريق سفيان بن عُيينة: بين السَّماء والأرض (تَنْطُـِفُ) بسكون النون وضم الطاء المهملة وكسرها، تقطرُ (السَّمْنَ وَالعَسَلَ، فَأَرَى النَّاسَ يَتَكَفَّفُونَ) أي: يأخذونُ بأكفِّهم (مِنْهَا فَالمُسْتَكْثِرُ) أي: فمنهم المستكثرُ في الأخذ (وَ) منهم (المُسْتَقِلُّ) فيه، أي: منهم الآخذُ كثيرًا والآخذُ قليلًا (وَإِذَا سَبَبٌ) أي: حبلٌ (وَاصِلٌ مِنَ الأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ، فَأَرَاكَ) يا رسولَ الله (أَخَذْتَ بِهِ فَعَلَوْتَ) وفي رواية سليمان بن كثير المذكورة: فأعلاكَ الله (ثُمَّ أَخَذَ بِهِ) أي: بالسبب، ولابنِ عساكرَ: ”ثمَّ أخذه“ (رَجُلٌ آخَرُ فَعَلَا بِهِ، ثُمَّ أَخَذَ بِهِ) ولابنِ عساكرَ أيضًا: ”ثمَّ أخذه“ (رَجُلٌ آخَرُ فَعَلَا بِهِ، ثُمَّ أَخَذَ بِهِ) ولابنِ عساكرَ أيضًا: ”ثمَّ أخذه“ (رَجُلٌ آخَرُ فَانْقَطَعَ، ثُمَّ وُصِلَ) بضم الواو وكسر الصاد (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ) الصِّدِّيق ☺ : (يَا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ) مفدَّى (وَاللهِ لَتَدَعَنِّي) بفتح اللام للتَّأكيد، والدال والعين وكسر النون المشدَّدة، لَتَتركنِّي (فَأَعْبُرَهَا) بضم الموحدة وفتح الراء، وزاد سليمان في روايته: وكان من أعبر النَّاس للرُّؤيا بعد رسولِ الله صلعم (فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم ) له: (اعْبُرْ) ولأبي ذرٍّ: ”اعبرها“ بالضَّمير(3) المنصوب (قَالَ) أبو بكر: (أَمَّا الظُّلَّةُ فَالإِسْلَامُ) لأنَّ الظُّلة نعمةٌ من نعمِ الله على أهلِ الجنَّة، وكذلك كانتْ على بني إسرائيل، وكذلك كان صلعم تظلُّه الغمامةُ قبل نبوَّته، وكذلك الإسلامُ يقي الأذى ويَنْعم به المؤمن في الدُّنيا والآخرة (وَأَمَّا الَّذِي يَنْطُـِفُ مِنَ العَسَلِ وَالسَّمْنِ فَالقُرْآنُ(4) حَلَاوَتُهُ تَنْطُـِفُ) قال تعالى في العسل: {شِفَاء لِلنَّاسِ}[النحل:69] وفي القرآن: {شِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ}[يونس:57] ولا ريبَ أنَّ تلاوة القرآن تحلو في الأسماعِ كحلاوة العسلِ في المذَاقِ بل أحلى (فَالمُسْتَكْثِرُ مِنَ القُرْآنِ وَالمُسْتَقِلُّ) منه (وَأَمَّا السَّبَبُ الوَاصِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ فَالحَقُّ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ تَأْخُذُ بِهِ فَيُعْلِيكَ اللهُ) أي: يرفعكُ به (ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ رَجُلٌ مِنْ بَعْدِكَ فَيَعْلُو بِهِ) فسِّر بالصِّدِّيق ☺ ؛ لأنَّه يقوم بالحقِّ بعده صلعم في أمَّته (ثُمَّ يَأْخُذُ رَجُلٌ) ولأبي ذرٍّ: ”يأخذُ به رجلٌ“ (آخَرُ) هو عمرُ بن الخطَّاب ☺ (فَيَعْلُو بِهِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُ(5)) ولأبي ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ: ”ثمَّ يأخذُ به“ (رَجُلٌ آخَرُ) هو: عثمانُ بن عفَّان ☺ (فَيَنْقَطِعُ بِهِ، ثُمَّ يُوْصَلُ) بالتَّخفيف، والَّذي في «اليونينيَّة»: ”ثمَّ يُوَصَّل“ بالتَّشديد(6) (لَهُ فَيَعْلُو بِهِ(7)) يعني‼: أنَّ عثمان كاد أن ينقطع عن اللَّحاق بصاحبيهِ بسبب ما وقعَ له من تلك القضايا الَّتي أنكروهَا، فعبَّر عنها بانقطاعِ الحبل، ثمَّ وقعتْ له / الشَّهادة فاتَّصل فالتَحق بهم (فَأَخْبِرْنِي) بكسر الموحدة وسكون الراء (يَا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ) مفدَّى (أَصَبْتُ) في هذا التَّعبير (أَمْ أَخْطَأْتُ؟ قَالَ النَّبِيُّ صلعم ) له: (أَصَبْتَ بَعْضًا وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا) قيل: خطؤه في التَّعبير؛ لكونه عبَّر بحضورهِ صلعم ؛ إذ كان صلعم أحقَّ بتعبيرها(8)، وقيل: أخطأَ لمبادرتِهِ(9) تعبيرَها قبلَ أن يأمرَه به. وتعقِّب بأنَّه ╕ أذنَ له في ذلك، وقال: «اعبرْهَا».
          وأُجيب بأنَّه لم يأذنْ له ابتداء بل بادرَ هو بالسُّؤال أن يأذنَ له في تعبيرها فأذنَ له، وقال: أخطأتَ في مبادرتك للسُّؤال أن تتولَّى تعبيرهَا، لكن في إطلاقِ الخطأ على ذلك نظرٌ، فالظَّاهر أنَّه أراد الخطأَ في التَّعبير لا لكونهِ التمسَ التَّعبير.
          وقال ابنُ هُبَيرة: إنَّما أخطأَ لكونه أقسمَ ليعبرنَّها بحضرتهِ صلعم ، ولو كان أخطأَ في التَّعبير لم يقرَّه عليه، وقيل: أخطأَ؛ لكونه عبَّر السَّمن والعسل بالقرآن فقط وهما شيئان، وكان من حقِّه أن يعبِّرهما بالقرآن والسُّنة؛ لأنَّها بيانٌ للكتاب المنزَّل عليه وبهما(10) تتمُّ الأحكامُ كتمام اللَّذة بهما، وقيل: وجه الخطأ أنَّ الصَّواب في التَّعبير أنَّ الرَّسول صلعم هو الظُّلَّة، والسَّمن والعسل هو(11) القرآن والسُّنة، وقيل: يحتملُ أن يكون السَّمنُ والعسلُ العلمَ والعملَ، وقيل: الفهم والحفظ. وتعقَّب ذلك في «المصابيح» فقال: لا يكادُ ينقضي العجب من هؤلاء الَّذين تعرَّضوا إلى تبيين الخطأ في هذه الواقعةِ مع سكوتِ النَّبيِّ صلعم عن ذلك، وامتناعهِ منه بعد سؤالِ أبي بكرٍ له في ذلك حيثُ (قَالَ: فَوَاللهِ يَا رَسُوْلَ اللهِ لَتُحَدِّثَنِّي بِالَّذِي أَخْطَأْتُ) فيه، وثبت قولهُ: ”يا رسولَ الله“ لأبي ذرٍّ وابنِ عساكرَ (قَالَ) صلعم : (لَا تُقْسِمْ) فكيف لا يسع هؤلاء من السُّكوت ما وسعَ النَّبيَّ صلعم ، وماذا يترتَّب على ذلك من الفائدةِ، فالسُّكوت عن ذلك هو المتعيَّن. انتهى.
          وحكى ابنُ العربيِّ: أنَّ بعضَهم سُئِل عن بيان الوجه الَّذي أخطأَ فيه أبو بكر، فقال: من الَّذي يعرفُه؟ ولئن كان تَقَدُّم أبي بكرٍ بين يدي النَّبيِّ(12) صلعم للتَّعبير خطأٌ، فالتَّقدُّم بين يدي أبي بكرٍ لتعيين خطئهِ أعظم وأعظم، فالَّذي يقتضيهِ الدِّين(13) الكفُّ عن ذلك.
          وأجاب في «الكواكب» بأنَّهم إنَّما أقدموا على تبيينِ ذلك مع أنَّه صلعم لم يبيِّنه؛ لأنَّ هذه الاحتمالات لا جزمَ فيها، أو لأنَّه(14) كان يلزم في بيانهِ مفاسد للنَّاس، واليوم زالَ ذلك‼ إرشادًا.
          قال الحافظ ابن حجرٍ _أثابه الله_: جميعُ ما ذكر من لفظِ الخطأ ونحوه إنَّما أحكيهِ عن قائليهِ ولست راضيًا بإطلاقهِ في حقِّ الصِّدِّيق ☺ . انتهى.
          وقولهُ ╕ : «لا تُقْسم» بعد إقسامِ أبي بكر ☺ ، أي: لا تكرِّر يمينكَ. قال النَّوويُّ: قيل: إنَّما لم يبرَّ النَّبيُّ صلعم قسمَ أبي بكرٍ؛ لأنَّ إبرارَ القسم مخصوصٌ بما إذا لم يكن هناك مفسدةٌ ولا مشقَّةٌ ظاهرةٌ. قال: ولعلَّ المفسدة في ذلك ما علمه من(15) انقطاع السَّبب بعثمان وهو قتله، وتلك الحروب والفتن المريبة، فكره(16) ذكرهَا خوفَ شيوعها(17).
          والحديث أخرجه مسلمٌ في «التَّعبير» وأبو داود في «الأيمان والنُّذور» والنَّسائيُّ وابن ماجه في «الرُّؤيا».


[1] في (ع) زيادة: «يقول».
[2] في (ع): «أيضًا عن».
[3] في (د): «بالمضمر».
[4] في (ص): «أهل القرآن».
[5] في (ع) و(ب): «يأخذ».
[6] «بالتشديد»: ليست في (د) و(س).
[7] «فيعلو به»: ليست في (د).
[8] في (ص): «بتفسيرها».
[9] في (ع) و(ب): «بمبادرته».
[10] في (ع): «بها».
[11] «هو»: زيادة من (ع)، وليست في (د).
[12] في (ع): «الرسول».
[13] في (ع): «الأدب».
[14] «لأنه»: ليست في (ع) و(ص) و(د).
[15] في (ص) و(د) زيادة: «سبب».
[16] في (د): «مكروه».
[17] في (س): «شياعها».