إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة

          6982- وبه قال‼: (حَدَّثَنَا يَحْيَى ابْنُ بُكَيْرٍ) نسبه لجدِّه، واسم أبيه عبدُ الله المخزوميُّ المصريُّ قال: (حَدَّثَنَا اللَّيْثُ) بنُ سعد الإمام (عَنْ عُقَيْلٍ) بضم العين وفتح القاف، ابنِ خالدٍ (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمَّد بنِ مسلم. قال المؤلِّف: (وَحَدَّثَنِي) بالإفراد (عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) المسنديُّ قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بنُ همَّام قال: (حَدَّثَنَا) ولأبي ذرٍّ: ”أَخْبرنا“ (مَعْمَرٌ) هو: ابنُ راشد، ولفظ الحديث له لا لعُقيل (قَالَ الزُّهْرِيُّ) محمَّد بنُ مسلم بنِ شهاب: (فَأَخْبَرَنِي) بالإفراد (عُرْوَةُ) بنُ الزُّبير بنِ العوَّام، والفاء في «فأخبرني» للعطف على مقدَّر، أي: أنَّه روى له حديثًا، وهو عند البيهقيِّ في «دلائله» من وجه آخر عن الزُّهريِّ عن محمَّد بنِ النُّعمانِ بن بشيرٍ مرسلًا. فذكر قصَّة بدء الوحي مختصرةً ونزول: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} إلى قولهِ: {خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ}[العلق:1_2] قال محمَّد بنُ النُّعمان: فرجع رسولُ الله صلعم بذلك. قال الزُّهريُّ: فسمعتُ عروةَ بن الزُّبير، يقول: قالتْ عائشة... فذكر الحديث مطوَّلًا، ثمَّ عقَّبه بهذا الحديث (عَنْ عَائِشَةَ ♦ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ) بضم الموحدة وكسر المهملة بعدها همزة (بِهِ رَسُولُ اللهِ صلعم مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ) الَّتي ليس فيها ضغثٌ، أو الَّتي لا تحتاجُ إلى تعبيرٍ، وفي «التَّعبير(1) القادري»: الرُّؤيا الصَّادقة ما يقع بعينه، أو ما يُعبَّر في المنام، أو ما يُخبِر به من لا يكذِبُ.
          وفي «باب كيف كان(2) بدء الوحي» [خ¦3]: الصَّالحة، بدل: الصَّادقة، وهما بمعنًى واحد بالنِّسبة إلى أمور الآخرة في حقِّ الأنبياء، وأمَّا بالنِّسبة إلى أمور الدُّنيا فالصَّالحة في الأصلِ أخصُّ، فرؤيا الأنبياء كلُّها صادقةٌ، وقد تكون صالحة وهي الأكثر، وغير صالحة بالنِّسبة للدُّنيا(3)، كما وقع في الرُّؤيا يوم أُحد، وقال: (فِي النَّوْمِ) بعد الرُّؤيا المخصوصة به لزيادةِ الإيضاح، أو لدفعِ وهم من يتوهَّم أنَّ الرُّؤيا تطلق على رؤيةِ العين، فهي صفةٌ موضِّحة (فَكَانَ) صلعم (لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ) ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”إلَّا جاءته“ (مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ) قال القاضي البيضاويُّ: شبَّه ما جاءه في اليقظة ووجدَه في الخارجِ طبقًا لما رآه في المنامِ بالصُّبح في إنارتهِ ووضوحهِ. والفلقُ الصُّبح لكنَّه لمَّا كان مستعملًا في هذا المعنى وفي غيرهِ أُضيف إليه للتَّخصيصِ والبيان إضافة العامِّ إلى الخاصِّ.
          وقال في «شرح المشكاة»: للفلقِ شأنٌ عظيم، ولذا جاءَ وصفًا لله تعالى في قولهِ(4): {فَالِقُ الإِصْبَاحِ}[الأنعام:96] وأمر بالاستعاذةِ بربِّ الفلق؛ لأنَّه يُنبئ عن انشقاقِ ظُلمة عالم الشَّهادة، وطلوع تَبَاشير الصُّبح بظهورِ سُلطان الشَّمس وإشراقهَا الآفاق، كما أنَّ الرُّؤيا الصَّالحة مبشِّرة(5) تُنبئ عن وفُور أنوارِ عالم الغيب، وإنارةِ‼ مطالع الهداياتِ بسببِ الرُّؤيا الَّتي هي جزءٌ يسيرٌ(6) من أجزاءِ النُّبوَّة (فَكَانَ) صلعم (يَأْتِي حِرَاءً) بكسر الحاء المهملة وتخفيف الراء ممدودة، مذكَّر مُنْصرف على الصَّحيح، وقيل: مؤنَّثٌ غير مُنْصرفٍ (فَيَتَحَنَّثُ) بالحاء المهملة آخره مثلَّثة، في غارٍ (فِيهِ، وَهْوَ) أي: التَّحنُّث (التَّعَبُّدُ) بالخلوةِ ومشاهدةِ الكعبة منه والتَّفكُّر، أو بما كان يُلقى إليه من المعرفة (اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ) مع أيَّامهنَّ، والوصف بذواتِ العدد يفيدُ التَّقليل كـ {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ}[يوسف:20]. وقال الكِرْمانيُّ: يحتمل الكثرةَ؛ إذ الكثير يحتاجُ إلى العدد وهو المناسب للمقام، وإنَّما كان يخلو ╕ بحراء دون غيره؛ لأنَّ جدَّه عبد المطَّلب أوَّل من كان يخلو فيه من قريشٍ، وكانوا يعظِّمونه لجلالتهِ وكبر سنِّه فتبعهُ على ذلك، فكان يخلو صلعم بمكان جدِّه، وكان الزَّمن الَّذي يخلو فيه شهر رمضان، فإن قريشًا كانت تفعله كما كانت تصوم يوم عاشوراء (وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ) التَّعبُّد (ثُمَّ يَرْجِعُ) إذا نفذ ذلك الزَّاد (إِلَى خَدِيجَةَ) ♦ (فَتُزَوِّدُهُ) ولأبي ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ: ”فتزوِّد“ بحذف الضَّمير (لِمِثْلِهَا) لمثل اللَّيالي (حَتَّى فَجِئَهُ الحَقُّ) بفتح الفاء وكسر الجيم بعدها همزة، أي: جاءه الوحيُ بغتةً، وكأنَّه لم يكن متوقِّعًا للوحي، قاله النَّوويُّ. وتعقَّبه البُلقينيُّ بأنَّ في إطلاق هذا النَّفي نظرًا، فعند ابن إسحاق عن عُبيد بن عمير: أنَّه وقعَ في المنام نظيرُ ما وقع له في اليقظةِ من الغطِّ والأمرِ(7) بالقراءةِ وغير ذلك. قال في «الفتح»: وفي كون ذلك يستلزم وقوعه في اليقظة حتَّى يتوقَّعَه نظرٌ، فالأولى ترك الجزمِ بأحد الأمرين (وَهْوَ) صلعم (فِي غَارِ حِرَاءٍ / فَجَاءَهُ المَلَكُ) جبريل ◙ ، وفاء «فجاءَه» تفسيريَّة أو تعقيبية أو سببيَّة، و«حتَّى» لانتهاء الغاية، أي: انتهى توجُّهه لغارِ حراء بمجيء جبريل(8) (فِيهِ) في الغار (فَقَالَ: اقْرَأْ) وهل سلَّمَ قبل قولهِ: اقرأ، أم لا؟ الظَّاهر لا؛ لأنَّ المقصود إذ ذاك تفخيمُ الأمر وتهويله، أو ابتداء السَّلام متعلِّق بالبشرِ لا الملائكة، ووقوعه منهم على إبراهيم؛ لأنَّهم كانوا في صورةِ البشر(9) فلا يرد هنا، ولا سلامهم على أهلِ الجنَّة؛ لأنَّ أمور الآخرة مُغايرة لأمور الدُّنيا غالبًا. نعم، في رواية الطَّيالسيِّ: أنَّ جبريل سلَّم أولًا. لكن لم يرد أنَّه سلَّم عند الأمر بالقراءة، قاله في «الفتح» (فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلعم : مَا أَنَا بِقَارِئٍ) ولغير أبي ذرٍّ: ”فقلتُ: ما أنا بقارئ“ أي: ما أُحْسِنُ أن أقرأ (فَأَخَذَنِي) جبريلُ (فَغَطَّنِي) ضمَّني وعَصرني‼ (حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَُ) بفتح الجيم ونصب الدال مفعولٌ حذف فاعله، أي: بلغ الغطُّ منِّي الجَهدَ. وبضم الجيم ورفع الدال، أي: بلغ منِّي الجُهدُ مبلغَه فاعل بلغ (ثُمَّ أَرْسَلَنِي) أطلقني (فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَُ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَغَطَّنِي) ولأبي ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ: ”فأخذني فغطَّني“ (الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَُ ثُمَّ أَرْسَلَنِي). قال في «شرح المشكاة»: قوله: «ما أنا بقارئ» أي: حكمي كسائر النَّاس من أنَّ حصول القراءةِ إنَّما هو بالتَّعلم وعدَمُه بعدمه، فلذلك أخذه وغطَّه مرارًا؛ ليخرجه عن حكمِ سائر النَّاس، ويستفرغ منه البشريَّة، ويفرغ فيه من صفات الملكيَّة (فَقَالَ) له حينئذٍ لما علم المعنى: ({اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}) كلَّ شيء، وموضع {بِاسْمِ رَبِّكَ} النَّصب على الحال، أي: اقرأْ مفتتحًا باسمِ ربِّك قل: باسم الله، ثمَّ اقرأْ (حَتَّى بَلَغَ {مَا لَمْ يَعْلَمْ}[العلق:1_5]) ولأبي ذرٍّ: ”حتَّى بلغ: {عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}“ . وفيه _كما قال الطِّيبيُّ_: إشارة إلى ردِّ ما تصوَّره صلعم من أنَّ القراءة إنَّما تتيسَّر بطريقِ التَّعليم فقط، بل إنَّها كما تحصلُ بواسطةِ المعلِّم قد تحصلُ بتعليمِ الله بلا واسطةٍ، فقوله: {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} إشارةً إلى العلم التَّعليمي، وقوله: {عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} إشارة إلى العلمِ اللَّدُنِّي ومِصْداقه قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}[النجم:4_5] (فَرَجَعَ بِهَا) بالآيات المذكورةِ حال كونهِ (تَرْجُفُ) تضطَربُ (بَوَادِرُهُ) جمع: بادرةٍ، وهي اللَّحمة بين العُنقِ والمنكبِ. وقال ابن بري: هي(10) ما بين المنكبِ والعنق، يعني: أنَّها لا تختصُّ(11) بعضوٍ واحدٍ، وإنَّما رجفتْ بَوادره لما فجِئه من الأمرِ المخالف للعادةِ؛ لأنَّ النُّبوَّة لا تزيلُ طباعَ البشريَّةِ كلَّها (حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي) مرَّتين، أي: غطُّوني بالثِّياب ولفُّوني بها (فَزَمَّلُوهُ) بفتح الميم (حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ) بفتح الراء، الفزعُ (فَقَالَ: يَا خَدِيجَةُ مَا لِي؟ وَأَخْبَرَهَا) ولأبي ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ: ”وأخبر“ (الخَبَرَ، وَقَالَ: قَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي) أن لا أقوى على مقاومةِ هذا الأمر، ولا أقدرُ على حملِ أعباءِ الوحي فتزهقَ نفسي، ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”عليَّ“ بتشديد الياء (فَقَالَتْ لَهُ) خديجةُ: (كَلَّا) نفيٌ وإبعادٌ(12) أي: لا خوف عليك (أَبْشِرْ) بخيرٍ، أو بأنَّك(13) رسول الله حقًّا (فَوَاللهِ لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا) بضم التحتية وسكون الخاء المعجمة، من الخزي، ولأبي ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ: ”لا يُحْزنك“ بالحاء المهملة والنون بدل المعجمة والياء، من الحزنِ (إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ) أي: القرابةَ (وَتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ) بفتح الكاف وتشديد اللام، الثِّقل، ويدخلُ فيه الإنفاق على الضَّيف(14) واليتيمِ والعيال‼ وغيرِ ذلك (وَتَقْرِي الضَّيْفَ) بفتح الفوقية من غير همز، أي: تهيِّئ له طعامَه ونُزُلَه (وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ) حوادثه، أرادتْ أنَّك لست ممَّن يصيبُه مكروهٌ لما جمعَ الله فيكَ من مكارمِ الأخلاقِ ومحاسنِ الشَّمائل.
          وفيه دَلالة على أنَّ مكارم الأخلاقِ وخصالَ الخير سببٌ للسَّلامة من مصارعِ السُّوء، وفيه مدحُ الإنسان في وجههِ في بعض الأحوالِ لمصلحةٍ تطرأُ، وفيه تأنيسُ من حصلتْ له مخافةٌ من أمرٍ. وفي «دلائل النُّبوَّة» للبيهقيِّ من طريق أبي مَيسرة مرسلًا: أنَّه صلعم قصَّ على خديجةَ ما رأى في المنامِ، فقالت له: أَبْشِرْ، فإنَّ الله لا يصنعُ بك إلَّا خيرًا، ثمَّ أخبرها بما وقعَ له من شقِّ البطنِ وإعادتهِ، فقالت له: أَبْشِر إنَّ هذا والله خيرٌ، ثمَّ استعلَنَ له جبريلُ فذكر القصَّة فقالَ لها: «أرأيتَكِ الَّذي رأيتُ في المنامِ، فإنَّه جبريلُ استعلَنَ لي بأنَّ ربِّي أرسله إليَّ» وأخبرَها بما جاء به / ، فقالت: أبشرْ، فوالله لا يفعلُ الله بك إلَّا خيرًا، فاقبلِ الَّذي جاءكَ من الله فإنَّه حقٌّ، وأبشرْ فإنَّك رسولُ الله.
          (ثُمَّ انْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ) مصاحبةً له (وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ العُزَّى بْنِ قُصَيٍّ، وَهْوَ) أي: ورقة (ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ) وهو (أَخُو أَبِيهَا) ولابنِ عساكرَ _فيما ذكره في «الفتح»_: ”أخي أبيها“ بالجرِّ في «أخي» صفة للعمِّ، ووجه الرَّفع أنَّه(15) خبرُ مبتدأ محذوفٍ، وفائدتُه رفعُ المجاز في إطلاقِ العمِّ فيه(16) (وَكَانَ) ورقة (امْرَأً تَنَصَّرَ) دخلَ في دين النَّصرانيَّة (فِي الجَاهِلِيَّةِ) قبل البعثة المحمَّديَّة (وَكَانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العَرَبِيَّ) وفي «باب بدء الوحي»: العبرانيَّ [خ¦3] (فَيَكْتُبُ بِالعَرَبِيَّةِ مِنَ الإِنْجِيلِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكْتُبَ) أي: الَّذي شاء الله كتابتهُ (وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ) لورقة (خَدِيجَةُ: أَي ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ) محمَّد صلعم (فَقَالَ) له صلعم (وَرَقَةُ: ابْنَ أَخِي) بنصب ابنَ منادى مُضاف (مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صلعم مَا رَأَى) وفي «بدء الوحي»: خبر ما رأى [خ¦3] (فَقَالَ) له (وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ) جبريلُ صاحب سرِّ الخير، قال الهرويُّ: سمِّي به لأنَّ الله خصَّصه بالوحي (الَّذِي أُنْزِلَ) بضم الهمزة (عَلَى مُوسَى) بن عمران صلعم ، ولم يقلْ عيسى مع كونه نصرانيًّا؛ لأنَّ نزولَ جبريل ◙ متَّفق عليه عندَ أهل الكتابين بخلافِ عيسى صلعم (يَا لَيْتَنِي(17) فِيهَا) أي: في أيَّام النُّبوَّة ومدَّتها (جَذَعًا) يعني: شابًّا قويًّا، والجذع في الأصل للدَّوابِّ، فهو هنا استعارة، وهو بالجيم المعجمة المفتوحتين، وبالنَّصب بـ : «كان» مقدَّرة(18) عند الكوفيِّين، أو على الحالِ من الضَّمير في فيها، وخبرُ ليت قوله: «فيها» أي: ليتنِي كائن فيها حال الشَّبيبة والقوَّة لأنصرَك(19) وأبالغَ في نصرتك (أَكُونُ) وفي «بدء الوحي» [خ¦3] ليتنِي أكون (حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ‼ قَوْمُكَ) من مكَّة (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : أَ) معاديَّ (وَمُخْرِجِيَّ(20) هُمْ؟) بتشديد الياء المفتوحة، وقال ذلك استبعادًا للإخراج وتعجُّبًا منه، فيؤخذ منه _كما قال السُّهيليُّ_ أنَّ مفارقةَ الوطن على النَّفس(21) شديدةٌ لإظهارهِ ╕ الانزعاجَ لذلك بخلافِ ما سمعَه من ورقةَ من إيذائهِم وتكذيبهِم له (فَقَالَ وَرَقَةُ) له: (نَعَمْ) مخرجوكَ (لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا) ولأبي ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ: ”بمثلِ ما“ (جِئْتَ بِهِ) من الوحي (إِلَّا عُودِيَ) لأنَّ الإخراجَ عن المألوفِ سبب لذلك(22) (وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ) بجزمِ «يُدْركني» بـ : «أن» الشَّرطيَّة ورفع «يومُك» فاعل يُدركني، أي: يوم انتشار نبوَّتك (أَنْصُرْكَ) بالجزمِ جواب الشَّرط (نَصْرًا) بالنَّصب على المصدريَّة (مُؤَزَّرًا) من الأزرِ، وهو القوَّة (ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ) بالشين المعجمة، لم يلبثْ (وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّي) بدل اشتمال من ورقةَ، أي: لم تلبثْ وفاته (وَفَتَرَ الوَحْيُ) احتبسَ ثلاث سنين أو سنتين ونصفًا (فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ النَّبِيُّ(23) صلعم ) بكسر زاي «حزن» (فِيمَا بَلَغَنَا) معترضٌ بين الفعلِ ومصدرهِ وهو (حُزْنًا) والقائلُ هو محمَّد بنُ مسلم بنِ شهاب الزُّهريُّ من بلاغاتهِ(24) وليس موصولًا، ويحتملُ أن يكون بلغه بالإسنادِ المذكور، والمعنى: أنَّ في جملةِ ما وصلَ إلينا من خبرِ رسولِ الله صلعم في هذه القصَّة، وهو عند ابن مَرْدويه في «التَّفسير» بإسقاط قولهِ: فيما بلغنَا، ولفظه: فترةً حَزِن النَّبيُّ صلعم منها حُزْنًا (غَدَا) بغين معجمة في الفرع، من الذَّهاب غدوة، وفي نسخة ”عدا“ بالعين المهملة، من العَدْوِ، وهو الذَّهاب بسرعة (مِنْهُ) من الحُزْن (مِرَارًا كَيْ يَتَرَدَّى) يسقط (مِنْ رُؤُوْسِ شَوَاهِقِ الجِبَالِ) العاليةِ (فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ) بكسر الذال المعجمة وتفتح وتضم، أعلاه (لِكَيْ يُلْقِيَ مِنْهُ) من الجبلِ (نَفْسَهُ) المقدَّسة إشفاقًا أن تكون الفترة لأمرٍ أو سببٍ منه، فتكون(25) عقوبة من ربِّه، ففعل ذلك بنفسهِ ولم يردْ شرعٌ بالنَّهي(26) عن ذلك فيُعترض به، أو حزنَ على ما فاتهُ من الأمر الَّذي بشَّره به ورقةُ، ولم يكن خوطبَ عن الله أنَّك رسولُ الله ومبعوثٌ إلى عباده. وعند ابن سعدٍ من حديث ابن عبَّاسٍ بنحو هذا البلاغ الَّذي ذكره الزُّهريُّ، وقوله: مكثَ أيَّامًا بعد مجيء الوحي لا يَرى جبريلَ، فحزن حزنًا شديدًا حتَّى كان يغدو(27) إلى ثبير مرَّة، وإلى حراء أُخرى يريدُ أن يُلقي نفسَه (تَبَدَّى) ظهرَ (لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ / إِنَّكَ رَسُولُ اللهِ حَقًّا). وفي حديث ابن سعدٍ المذكور: فبينا(28) هو عامدٌ لبعض تلك(29) الجبال؛ إذ سمع صوتًا فوقف فزعًا، ثمَّ رفعَ رأسَه فإذا جبريلُ على كرسيٍّ بين السَّماء والأرض متربِّعًا يقول: يا محمَّد أنتَ رسولُ الله حقًّا، وأنا جبريلُ (فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ) بالجيم ثمَّ الهمزة الساكنة ثمَّ الشين‼ المعجمة، اضطرابُ قلبه (وَتَقِرُّ) بكسر القاف في الفرع، وفي غيرِه بفتحها (نَفْسُهُ، فَيَرْجِعُ، فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الوَحْيِ غَدَا لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ) لكي يُلقي منه نفسه (تَبَدَّى) ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”بدا“ أي(30): ظهر (لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ): يا محمَّد إنَّك رسول الله حقًّا.
          تنبيه: قال في «فتح الباري»: قوله هنا: فترةً حتَّى حزن النَّبيُّ صلعم فيما بلغنا. هذا وما بعدَه من زيادةِ مَعمرٍ على روايةِ عُقيل ويُونس، وصنيعُ المؤلِّف يُوهم أنَّه داخلٌ(31) في رواية عُقيل، وقد جَرى على ذلك الحَميدي في جمعه فساقَ الحديث إلى قولهِ: ”وفتر الوحي“ ثمَّ قال: انتهى حديث عُقيل المفرد عن ابنِ شهابٍ إلى حيث ذكرنا، وزاد عنه البخاريُّ في حديثهِ المقترن بمَعمر عن الزُّهريِّ فقال: وفترَ الوحيُ فترةً(32) حتَّى حزن. فساقَه إلى آخره.
          قال الحافظ ابن حجرٍ: والَّذي عندي أنَّ هذه الزِّيادة خاصَّة بروايةِ مَعمرٍ، فقد أخرج طريق عُقيل أبو نُعيم في «مستخرجه» من طريق أبي زُرعة الرَّازيِّ، عن يحيى ابنِ بُكير شيخِ البخاريُّ فيه في أوَّل الكتاب بدونهِ، وأخرجه مقرونًا هنا برواية مَعمر، وبيَّن أنَّ اللَّفظ لمَعمر، وكذلك صرَّح الإسماعيليُّ أنَّ الزِّيادة في رواية مَعْمر، وأخرجه أحمدُ ومسلم والإسماعيليُّ وغيرهم وأبو نُعيم أيضًا من طريق جمعٍ من أصحابِ اللَّيث عن اللَّيث بدونها. انتهى.
          وقال عياضٌ: إنَّ قول مَعْمر في فترةِ الوحي: فحزن النَّبيُّ صلعم فيما بلغنا حزنًا غدا منه مرارًا كي يتردَّى من رؤوسِ شواهقِ الجبال. لا يقدحُ في هذا الأصل؛ أي(33): ما قرَّره من عدم طَرَيان الشَّكِّ عليه صلعم لقول مَعْمر عنه: فيما بلغنا، ولم يسندهُ ولا ذكرَ رواتَه ولا من حدَّث به، ولا أنَّ النَّبيَّ صلعم قاله، ولا يعرف مثلُ هذا إلَّا من جهتهِ صلعم مع أنَّه قد يُحملُ على أنَّه كان أوَّل الأمر، أو أنَّه فعلَ ذلك لما أحرجَه من تكذيبِ من بلَّغهُ، كما قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}[الكهف:6]. انتهى.
          وحاصلُه: أنَّه ذكر أنَّه غيرُ قادحٍ من وجهين: أحدُهما: فيما يتعلَّق بالمتنِ من جهةِ(34) قولِهِ: فيما بلغنا. حيث لم يُسنده، وأنَّه لا(35) يعلم ذلك إلَّا من جهةِ المنقولِ عنه، والثَّاني: أنَّه أوَّل الأمر، أو أنَّه فعلَ ذلك لما أحرجَه من تكذيبِ قومه. وفيه بحثٌ؛ إذ عدم إسنادِه لا يوجب قدحًا في الصِّحَّة، بل الغالبُ على الظَّنِّ أنَّه بلغه من الثِّقات؛ لأنَّه ثقة، لا سيَّما ولم ينفردْ مَعْمر بذلك كما سبقَ، وروينا أيضًا من طريق الدُّولابيِّ ممَّا في «سيرةِ ابن سيِّد النَّاس» عن يونس بنِ عبد الأعلى عن ابنِ وهبٍ عن يونس بنِ يزيد عن الزُّهريِّ‼ عن عروةَ عن عائشةَ الحديث وفيه: ثمَّ لم ينشبْ ورقةُ أن توفِّي، وفترَ الوحي حتَّى حزنَ رسولُ الله صلعم فيما بلغنا حزنًا... إلى آخره. فاعتضدتْ كلُّ رواية بالأخرى، وكلٌّ من الزُّهريِّ ومَعْمر ثقةٌ، وعلى تقدير الصِّحَّة لا يكون قادحًا، كما ذكره عياضٌ، لكن لا بالنَّسبة إلى أنَّه في أوَّل الأمر لاستقرارِ الحال فيه مدَّة، بل بالنِّسبة إلى ما أحرجَه من التَّكذيب؛ إذ لا شيءَ فيه قطعًا بدليل قولهِ تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ}[الكهف:6] أي: قاتلٌ نفسَك أسفًا، وكان التَّعبير بقولهِ: حصلَ له ذلك لما أحرجه، أحسنُ من قولهِ: فعل؛ لأنَّ الحزنَ حالةٌ تحصلُ للإنسان يجدُها من نفسِه بسبب لا أنَّه من أفعالهِ الاختياريَّة.
          وحديث الباب أخرجَه المؤلِّف في «باب بدءِ الوحي» [خ¦3].
          (قَالَ) ولأبي ذرٍّ: ”وقال(36)“ (ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ ، فيما وصلَه الطَّبريُّ من طريق عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس في تفسيرِ قولهِ تعالى: ({فَالِقُ الإِصْبَاحِ}[الأنعام:96]) الإصباحُ: (ضَوْءُ الشَّمْسِ بِالنَّهَارِ، وَضَوْءُ القَمَرِ بِاللَّيْلِ) واعتُرض على المؤلِّف بأنَّ ابن عبَّاس فسَّر الإصباحَ لا لفظ فالق الَّذي هو المراد هنا؛ لأنَّ المؤلِّف ذكره عقبَ هذا الحديث لما وقع فيه: «فكان لا يَرى رؤيا إلَّا جاءتْ مثل فلقِ الصُّبح». والإصباحُ مصدرٌ سمِّي به الصُّبح، أي: شاق عمود الصُّبح عن سوادِ اللَّيل، أو فالق نور النَّهار. نعم، قال مجاهدٌ _كما(37) سبق في «تفسير {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}[الفلق:1_ [خ¦65-7376] الفلق: الصُّبح. وأخرج الطَّبري عنه أيضًا في قولهِ: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ} قال: إضاءة الصُّبح ، وعلى هذا فالمراد بفَلْق الصُّبح: إضاءته / ، فالله سبحانه وتعالى يفلقُ ظلام اللَّيل عن غرَّة الصَّباح، فيُضيء الوجود، ويستنيرُ الأفق، ويضمحلُّ الظَّلام، ويذهبُ اللَّيل. وقول ابن عبَّاس هذا ثابتٌ في رواية أبي ذرٍّ عن المُستملي والكُشمِيهنيِّ، وكذا النَّسفيِّ، ولأبي زيدٍ المروزيِّ عن الفَـِرَبْريِّ.


[1] في (د): «تعبير».
[2] «كان»: ليست في (س) و(ص).
[3] في (د) و(ع): «إلى الدنيا».
[4] في (د): «وصف الله تعالى في قوله تعالى».
[5] في (د) و(ع) و(ص): «مبشرات».
[6] «يسير»: ليست في (ع).
[7] في (ص): «أمره».
[8] قال العلَّامة قطة ⌂ : فيه أنَّ مدخول «حتى» هو مفاجأة الحقّ، لا مجيء المَلَك. تأمل.
[9] في (ع): «الآدميين».
[10] «هي»: ليست في (ب).
[11] في (د) و(ع) و(ص): «أنه لا يختص».
[12] في (ص): «استبعاد».
[13] في (ص) و(ع): «فإنك».
[14] في (د) و(ص): «الضعيف».
[15] «أنه»: ليست في (ع) و(ص).
[16] «وفائدته رفع المجاز في إطلاق العمّ فيه»: ليست في (د).
[17] في (د) و(ع) زيادة: «كنت».
[18] في (د): «المقدرة».
[19] في (ع): «لأنصرنك».
[20] في (د): «أَمعاديَّ أوَمُخْرِجِيَّ».
[21] في (ص): «النفوس».
[22] في (ع): «العداوة».
[23] في (ع): «رسول الله».
[24] في (د): «بلاغته».
[25] في (د) و(ع) و(ص): «أن يكون».
[26] في (د): «يرد بعد شرع».
[27] في (ع): «كاد يعدو».
[28] في (د) و(ع): «فبينما».
[29] في (ع): «عامد لتلك».
[30] «أي»: ليست في (ع) و(ص).
[31] في (د): «دخل».
[32] «فترة»: ليست في (ع).
[33] في (د): «أن».
[34] في (د): «جمع»، وفي (ع): «جميع».
[35] في (د): «لم».
[36] في (د): «فقال».
[37] في (ص): «فيما».