إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إن رجالًا من أصحاب رسول الله كانوا يرون الرؤيا

          7028- 7029- وبه قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد، ولأبي ذرٍّ بالجمع (عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ) بضم العين في الأوَّل، وكسرها في الثَّاني، أبو قدامة اليشكريُّ قال: (حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ) الصَّفَّار البصريُّ قال: (حَدَّثَنَا صَخْرُ بْنُ جُوَيْرِيَةَ) بضم الجيم مصغَّرًا، أبو نافع مولى بني تميم، أو بني هلال، قال: (حَدَّثَنَا نَافِعٌ أَنَّ) مولاه (ابْنَ عُمَرَ) عبد الله بن عمر ☻ (قَالَ: إِنَّ رِجَالًا) لم يسمّوا (مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلعم كَانُوا يَرَوْنَ الرُّؤْيَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلعم فَيَقُصُّونَهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلعم فَيَقُولُ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صلعم ) من التَّعبير (مَا شَاءَ اللهُ، وَأَنَا غُلَامٌ(1) حَدِيْثُ السِّنِّ) أي: صغيره، ولأبي ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ‼: ”حدث السِّنِّ“ (وَبَيْتِي المَسْجِدُ) آوي إليه (قَبْلَ أَنْ أَنْكِحَ) أي: أتزوَّج (فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَوْ كَانَ فِيكَ خَيْرٌ) ولأبي ذرٍّ: ”خيرًا“ (لَرَأَيْتَ مِثْلَ مَا يَرَى هَؤُلَاءِ، فَلَمَّا اضْطَجَعْتُ لَيْلَةً) ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”ذات ليلةٍ“. وفي «الفتح» عزو هذه للكُشمِيهنيِّ (قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ فِيَّ) بتشديد التحتية (خَيْرًا فَأَرِنِي) في منامي (رُؤْيَا، فَبَيْنَمَا) بغير ميم (أَنَا كَذَلِكَ إِذْ جَاءَنِي مَلَكَانِ) قال الحافظ ابنُ حجرٍ: لم أقفْ على اسمهما، ويحتملُ أن يكونا أخبراهُ أنَّهما ملكان (فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِقْمَعَةٌ) بكسر الميم الأولى وسكون القاف واحدة المقامعِ، وهي سياطٌ (مِنْ حَدِيدٍ) رؤوسها معوجَّة (يُقْبِلَا بِي) بضم التَّحتية وسكون القاف وكسر الموحدة وبعد / اللام ألف فموحدة فتحتية، من الإقبال ضدُّ الإدبار، ولأبي ذرٍّ وابنِ عساكرَ: ”يقبلان بي“ (إِلَى جَهَنَّمَ، وَأَنَا بَيْنَهُمَا أَدْعُو اللهَ: اللَّهُمَّ أَعُوذُ) وللأَصيليِّ: ”إنِّي أعوذ“ (بِكَ مِنْ جَهَنَّمَ، ثُمَّ أُرَانِي) بضم الهمزة (لَقِيَنِي مَلَكٌ فِي يَدِهِ مِقْمَعَةٌ مِنْ حَدِيدٍ فَقَالَ) لي: (لَنْ تُرَاعَ) نصب بـ «لن»، وللأَصيليِّ وأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”لم تُرَعْ“ جزم بـ : «لم» بالميم، أي: لم(2) تُفْزَعْ، وليس المراد أنَّه لم يقع له فزعٌ بل لمَّا كان الَّذي فزع منه لم يستمرَّ فكأنَّه لم يفزعْ، وعلى الأوَّل فالمراد: أنَّك(3) لا روعَ عليك بعد ذلك (نِعْمَ الرَّجُلُ أَنْتَ لَوْ تُكْثِرُ) ولأبي ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ: ”لو كنتَ تُكثر“ (الصَّلَاةَ، فَانْطَلَقُوا بِي حَتَّى وَقَفُوا بِي عَلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ كَطَيِّ البِئْرِ) ولأبي ذرٍّ: ”حتَّى وقفوا وجهنم مطويَّةٌ“ فأسقط: «بي على شفير(4)» وقوله: «فإذا هي»، وزادوا: ”وأقبل جهنَّم“ (لَهُ) ولأبي ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ «لها» بضميرِ المؤنَّث (قُرُونٌ كَقَرْنِ البِئْرِ) وهي جوانبُها الَّتي تبنى من حجر(5) تُوضع عليها الخشبةُ الَّتي فيها(6) البَكَرة، والعادة لكلِّ بئرٍ قرنان (بَيْنَ كُلِّ قَرْنَيْنِ مَلَكٌ بِيَدِهِ مِقْمَعَةٌ مِنْ حَدِيدٍ، وَأَرَى) بفتح الهمزة (فِيهَا) في جهنَّم (رِجَالًا مُعَلَّقِينَ) بفتح اللام المشددة (بِالسَّلَاسِلِ، رُؤُوْسُهُمْ أَسْفَلَهُمْ(7)) أي: منكَّسين (عَرَفْتُ فِيهَا رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ) قال في «الفتح»: لم أقفْ في شيءٍ من الطُّريق على تسمية أحدٍ منهم (فَانْصَرَفُوا) أي: الملائكةُ (بِي عَنْ ذَاتِ اليَمِينِ) أي: عن جهةِ اليمين.
          (فَقَصَصْتُهَا) بعد أن استيقظتُ من منامي (عَلَى حَفْصَةَ) بنت عمر أمِّ المؤمنين ☻ (فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلعم ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : إِنَّ عَبْدَ اللهِ) أي: ابن عمر (رَجُلٌ صَالِحٌ) زاد أبو ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ: ”لو كان يصلِّي من اللَّيل“ (فَقَالَ) ولابنِ عساكرَ: ”قال“ (نَافِعٌ) مولى ابن عمر (لَمْ) ولأبي ذرٍّ: ”فلم“ (يَزَلْ بَعْدَ ذَلِكَ) عبد الله بن عمر (يُكْثِرُ الصَّلَاةَ) قال ابن بطَّال: في هذا الحديث أنَّ بعض الرُّؤيا لا يحتاجُ إلى تفسير(8)، وأنَّ ما فُسِّر في النَّوم فهو تفسيرهُ في اليقظةِ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلعم لم يزدْ في تفسير قولِ الملك: نعم الرَّجل أنت لو كنت تكثر الصَّلاة. وفيه أنَّ أصل التَّعبير من قبل(9) الأنبياء، ولذا تمنَّى ابن عمر أن‼ يرى رؤيا فيعبِّرها له النَّبيُّ صلعم ليكون ذلك عنده أصلًا، وأصل التَّعبير توقيفٌ من قبلِ الأنبياء ‰ ، لكن الوارد عنهم في ذلك وإن كان أصلًا فلا يعمُّ جميعَ المرئيّ، فلا بدَّ للحاذقِ في هذا الفنِّ أن يستدلَّ بحُسن نظره، فيردَّ ما لم ينصَّ عليه إلى حكمِ التَّمثيل، ويحكم له بحكم التَّشبيه الصَّحيح، فيجعل أصلًا يلتحقُ(10) به غيره، كما يفعلُ الفقيه في فروعِ الفقه. انتهى.
          وقال أبو سهل عيسى بن يحيى المسيحيُّ(11) الفيلسوفُ العابر: اعلم أنَّ لكلِّ علمٍ أصولًا لا تتغيَّر، وأقيسةً مطَّردةً لا تضطرب إلَّا تعبيرَ الرؤيا، فإنَّه يختلفُ(12) باختلافِ أحوال النَّاس وهيئاتهم وصناعاتهِم ومراتبهِم ومقاصدهِم ومللهِم وأديانهِم ونحَلهِم ومذاهبهِم وعاداتهِم، وربَّما يؤخذ تعبير الرُّؤيا من الأمثال والأشباهِ والعُكوس والأضدادِ، وكلُّ صاحب صناعةٍ وعلم فإنَّه يستغني بآلاتِ صناعتهِ وأدواتِ علمهِ عن آلات صناعةِ وأسباب علمٍ آخر، إلَّا صاحب التَّعبير فإنَّه ينبغي له أن يكون مطَّلعًا على جميع العلوم عارفًا بالأديان(13) والمللِ والمواسم والعاداتِ المستمرَّة فيما بين الأمم، عارفًا بالأمثالِ(14) والنَّوادر، ويأخذُ باشتقاقِ(15) الألفاظ، وأن يكون فَطِنًا ذكيًا حسنَ الاستنباطِ خبيرًا بعلم الفراسة، وكيفيَّة الاستدلال من الهيئات الخِلْقيَّة على الصِّفات الخُلُقيَّة(16)، حافظًا للأمور الَّتي تختلفُ باختلاف تعبير الرُّؤيا، فمن أمثلتهِ بحسب الألفاظ المشتقَّة: أنَّ رجلًا رأى في منامه أنَّه يأكلُ السَّفرجل فقال له المعبِّر: يتَّفق لك سفرةٌ عظيمةٌ؛ لأنَّ أوَّل جزأي(17) السَّفرجل هو السَّفر. ورأى رجلٌ أنَّ رجلًا أعطاه غصنًا من أغصان السَّوسن(18)، فقال له المعبِّر: يصيبك من هذا المعطى سوء(19) تبقى في ورطتهِ سنة؛ لأنَّ السَّوسن أوَّل جزء منه: سو(20)، والسُّوء(21) يدلُّ على الشَّرِّ، والجزءُ الثَّاني: سن(22)، والسَّنة اسمٌ للعام الَّذي هو اثنا عشر شهرًا، لكن قال المسيحيُّ: إنَّ هذا التَّعبير الَّذي بحسب الاشتقاق للألفاظِ العربيَّة إنَّما يفسِّر به(23) العرب ومن في بلادهِم دون غيرهم؛ لأنَّ للسَّفرجل والسَّوسن أسامي أُخر لا تدلُّ على هذا التَّعبير، فالسَّفرجل والسَّوسن لا يدلَّان(24) على السَّفر والسُّوء في حقِّ من لا يكون من العرب، ولا يتوطَّن(25) ديار / العربِ، ولكن يجعلُ اشتقاق الألفاظِ وكيفيَّة الاستعمالِ منها على التَّعبير قانونًا ودستورًا مُستعملًا في سائرِ اللُّغات، ويشتقُّ في سائرِ اللُّغات من الألفاظِ والأسماءِ المستعملةِ فيها ما يوافقُ معنى الاشتقاقِ من تلك اللُّغة دون غيرها، كما إذا رأى فارسيٌّ في نومه أنَّه يأكل السَّفرجل، فيدلُّ على صلاحِ شأنهِ وانتظامِ أحوالهِ، ولا يدلُّ على السَّفر في حقِّه؛ لأنَّ اسم السَّفرجل في لغة الفرسِ إنَّما هو «بهي»(26) وهذا بعينه اسمٌ للخيريَّة. انتهى.


[1] «غلام»: ليست في (ص).
[2] «لم»: ليست في (ع)، وفي (ص): «لن».
[3] في (د): «أنه».
[4] في (د) زيادة: «جهنم».
[5] في (ص): «حجره»، وفي (د): «حجارة».
[6] في (د): «التي تعلق فيها».
[7] في (ع) و(ص): «أسفل».
[8] في (ع): «تأويل».
[9] في (ع): «قول».
[10] في (د): «يلحق».
[11] «المسيحي»: ليست في (ع).
[12] في (د): «فإنها تختلف».
[13] في (ع): «والأديان».
[14] في (ع) و(د): «حافظًا للأمثال».
[15] في (د): «ويأخذ اشتقاق».
[16] في (ع): «الخفية».
[17] في (ع): «جزء من»، وفي (د): «جزء».
[18] في (د): «السوس».
[19] في (ع): «شرّ».
[20] «لأن السوسن أول جزء منه سو»: ليست في (د).
[21] في (د): «لأن السوء».
[22] «والجزء الثاني سن»: ليست في (د).
[23] في (د): «يفسرها».
[24] في (د): «لا تدل».
[25] في (ع) و(د): «يستوطن».
[26] في (ع): «سهى»، وفي (س): «بِهِ»، وبيَّض لها في (ص).