إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: بني الإسلام على خمس

          8- وبالسَّند إلى المؤلِّف قال: (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ) بالتَّصغير، وفي الفرع خلافًا لأصله: ”وحدَّثنا محمَّد بن إسماعيل _يعني البخاريَّ_ حدَّثنا عبيد الله“ (بْنُ مُوسَى) بن باذام؛ بالمُوحَّدة والذَّال المُعجمَة آخره ميمٌ، العَبْسيُّ؛ بفتح المُهمَلة وتسكين المُوحَّدة، الشِّيعيُّ الغير داعيةٍ، المُتوفَّى بالإسكندريَّة سنة ثلاثَ عشْرةَ أو أربعَ عشْرَة أو خَمْسَ عَشْرةَ ومئتين (قَالَ: أَخْبَرَنَا) وفي رواية الهرويِّ: ”حدَّثنا“ (حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ) بن عبد الرَّحمن الجمحيُّ المكيُّ القرشيُّ، المُتوفَّى سنة إحدى وخمسين ومئةٍ (عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ) يعني: ابن العاصي المخزوميِّ القرشيِّ، المُتوفَّى بمكَّة بعد عطاءٍ، وهو تُوفِّي سنة / أربع عشرة أو خمس عشرة ومئة (عَنِ ابْنِ عُمَرَ) بن الخطَّاب عبد الله ( ☻ ) هاجر به أبوه، واستُصغِر يومَ أحدٍ، وشهد الخندق وبيعة الرِّضوان والمشاهد، وكان واسعَ العلم، متينَ الدِّين، وافرَ الصَّلاح، وتُوفِّي سنة ثلاثٍ وسبعين، وله في «البخاريِّ» مئتان وسبعون حديثًا (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : بُنِيَ الإِسْلَامُ) الذي هو الانقياد (عَلَى خَمْسٍ) أي: خمسِ دعائمَ، وقال بعضهم: «على» بمعنى «مِن» أي: بني الإسلام من خمسٍ، وبهذا يحصل الجواب عمَّا يُقَال: إنَّ هذه الخمس هي الإسلام، فكيف يكون الإسلام مبنيًّا عليها؟! والمبنيُّ لابدَّ أن يكون غير المبنيِّ عليه، ولا حاجة إلى جواب الكِرمانيِّ: بأنَّ الإسلام عبارةٌ عن المجموع، والمجموع غير كلِّ واحدٍ من أركانه: (شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَ) شهادةِ (أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وإِقَامِ الصَّلَاةِ) أي: المُداوَمة عليها، والمُرَاد: الإتيان بها بشروطها وأركانها (وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) أي: إعطائها مستحقِّيها بإخراج جزءٍ من المال على وجهٍ مخصوصٍ، كما سيأتي البحث فيه _إن شاء الله تعالى_ في محلِّه بعون الله تعالى (وَالحَجِّ) إلى بيت الله الحرام (وَصَوْمِ) شهر (رَمَضَانَ) بخفض «شهادة» على البدل من «خمسٍ»، وكذا ما بعدها، ويجوز الرَّفع خبر مبتدأٍ محذوفٍ، أي: وهي، والنَّصب بتقدير: أعني، قال البدر الدَّمامينيُّ: أمَّا وجه الرَّفع فواضحٌ، وأمَّا وجه الجرِّ فقد يُقال فيه: إنَّ البدل من «خمسٍ» هو مجموع(1) المجرورات المتعاطفة، لا كلُّ واحدٍ منها، فإن قلت: يكون كلٌّ منها بدلَ بعضٍ؛ قلت: حينئذٍ يحتاج إلى تقدير رابطٍ. انتهى .
          و«لا» في قوله: «لا إله إلَّا الله» هي النَّافية للجنس، و«إله» اسمها مُركَّبٌ معها تركيبَ مَزْجٍ كأحدَ عَشَرَ، وفَتْحَتُه فتحةُ بناءٍ، وعند الزَّجَّاج: فتحةُ إعرابٍ؛ لأنَّه عنده منصوبٌ بها لفظًا، وخبرُها محذوفٌ اتِّفاقًا، تقديره: موجودٌ، و«إلَّا» حرف استثناءٍ، و«الاسم الكريم» مرفوعٌ على البدليَّة من الضَّمير المستتر في الخبر، وقِيل: مرفوعٌ على الخبريَّة لقوله: «لا»، وعليه جماعةٌ، وفي هذه المسألة مباحثُ ضربتُ عليها(2) بعد أن أَثْبَتُّها خوفَ الإطالة، ثمَّ إنَّ مثل هذا التَّركيب عند علماء المعاني يفيد القصر، وهو في هذه الكلمة من باب قصر الصِّفة على الموصوف، لا العكس، فإنَّ «إلهَ» في معنى الوصف، فإن قلت: لِمَ قُدِّمَ النَّفيُ على الإثبات؟ فقِيلَ: لا إله إلَّا الله، ولم يُقَلْ: الله لا إله(3) إلَّا هو؛ بتقديم الإثبات على النَّفي؟ أُجِيب: بأنَّه إذا نفى أن يكون ثَمَّ إلهٌ غير الله؛ فقد فرَّغ قلبه ممَّا سوى الله تعالى بلسانه ليواطئ القلب، وليس مشغولًا بشيءٍ سوى الله تعالى، فيكون نفي الشَّريك عن الله تعالى بالجوارح الظَّاهرة والباطنة، ووجه الحصر في الخمسة: أنَّ العبادة؛ إمَّا قوليَّةٌ أو غيرها، الأولى: الشَّهادتان، والثَّانية: إمَّا تَرْكيَّةٌ أو فعليَّةٌ؛ الأولى: الصَّوم، والثَّانية: إمَّا بدنيَّةٌ أو ماليَّةٌ؛ الأولى: الصَّلاة، والثَّانية: الزَّكاة، أو مُركَّبةٌ منهما؛ وهي الحجُّ، وقد وقع ذكره مقدَّمًا على الصَّوم، وعليه بنى المصنِّف ترتيب(4) جامعه هذا، لكن عند مسلمٍ من رواية سعد(5) بن عبيدة عن ابن عمر تأخير(6) الصَّوم عن الحجِّ، فقال رجلٌ _وهو يزيد بن بشرٍ السَّكسكيُّ_: والحجُّ وصوم رمضان، فقال ابن عمر: «لا، صيام رمضان والحجُّ» هكذا سمعته من رسول الله صلعم ، فيحتمل أن يكون حنظلة رواه هنا بالمعنى لكونه لم يسمع رَدّ ابن عمر على يزيد، أو سمعه ونسيه. نعم؛ رواه ابن عمر في «مسلم» من أربع طرقٍ، تارةً بالتَّقديم، وتارةً بالتَّأخير، فإن قلت: لِمَ لَمْ يذكر الإيمان بالأنبياء والملائكة وأسقط الجهاد؟ أُجِيب: بأنَّ الجهاد فرضُ كفايةٍ، ولا يتعيَّن إلَّا في بعض الأحوال، وإنَّما لم يذكر الإيمان بالأنبياء والملائكة؛ لأنَّ المُرَادُ بالشَّهادة تصديقُ الرَّسول فيما جاء به، فيستلزم جميع ما ذُكِرَ من المعتقدات(7).
          وفي قوله: «بُنِيَ...» إلى آخره، استعارةٌ بأن يقدِّر الاستعارة في «بُنِيَ»، والقرينة في «الإسلام»؛ شبَّه ثبات الإسلام واستقامته على هذه الأركان الخمسة ببناء الخباء على هذه الأعمدة الخمسة، ثمَّ تسري الاستعارة من المصدر إلى الفعل، أو تكون مكنيَّةً بأن تكون الاستعارة(8) في الإسلام، والقرينةُ «بُنِيَ» على التَّخييل بأن شبَّه الإسلام بالبيت، ثمَّ خُيِّل كأنَّه بيتٌ على المُبالغَة، ثمَّ أطلق الإسلام على ذلك المُخيَّل، ثمَّ خُيِّل له ما يلازم الخباء المُشبَّه به من البناء، ثمَّ أثبت له ما هو لازمُ البيتِ من البناء على الاستعارة التَّخييليَّة، ثمَّ نسبه إليه؛ ليكون قرينةً مانعةً من إرادة الحقيقة / ، ويجوز أن تكون استعارة بالكناية لأنَّه شبَّه الإسلام بمبنًى له دعائمُ، فَذَكَرَ المُشبَّه، وطوى ذِكْرَ المُشبَّه به، وذكر ما هو من خواصِّ المشبَّه به، وهو البناء، ويُسمَّى هذا استعارةً ترشيحيَّةً، ويجوز أن تكون استعارةً تمثيليَّةً؛ فإنَّه مثَّل حالة الإسلام مع أركانه الخمسة بحالة خباءٍ أُقِيمَ على خمسة أعمدةٍ، وقطبُها التي تدور عليه هو شهادة أنْ لا إله إلَّا الله، وبقيَّةُ شعب الإيمان كالأوتاد للخباء(9)، وقال في «الفتح»: فإن قلت: الأربعة المذكورة بعد الشَّهادة مبنيَّةٌ على الشَّهادة؛ إذ لا يصحُّ شيءٌ منها إلَّا بعد وجودها، فكيف يُضمُّ مبنيٌّ إلى مبنيٍّ عليه في مسمًّى واحدٍ؟ أُجِيب: بجواز ابتناء أمرٍ على أمرٍ، يُبتَنى على الأمرين أمرٌ آخرُ، فإن قلت: المبنيُّ لابدَّ أن يكون غير المبنيِّ عليه، فالجواب: أنَّ المجموع غيرٌ من حيث الانفراد، عينٌ من حيث الجمع، ومثاله: البيت من الشَّعر، يُجعل على خمسة أعمدةٍ، أحدها أوسطُ، والبقيَّة أركانٌ، فما دام الأوسط قائمًا فمُسمَّى البيت موجودٌ ولو سقط مهما سقط من الأركان، فإذا سقط الأوسط سقط مُسمَّى البيت، فالبيت بالنَّظر إلى مجموعه شيءٌ واحدٌ، وبالنَّظر إلى أفراده أشياءُ، وأيضًا: فبالنَّظر إلى أسِّه وأركانه: الأسُّ أصلٌ والأركان تَبَعٌ وتكملةٌ له(10)، والله سبحانه الموفِّق.
           ومن لطائف إسناد هذا الحديث: جمعه للتَّحديث والإخبار والعنعنة، وكلُّ رجاله مَكِّيُّون إلَّا عبيد الله فإنَّه كوفيٌّ، وهو من الرُّباعيَّات، وأخرج متنه المؤلِّف أيضًا في «التَّفسير» [خ¦4514]، ومسلمٌ في «الإيمان» خماسيَّ الإسناد. انتهى.


[1] في (م): «جميع».
[2] في (م): «أضربت عنها».
[3] في (ص): «واحد».
[4] في (ص): «تركيب».
[5] في (ص): «سعيد»، وهو تحريفٌ.
[6] كذا، وفي الفتح: «تقديم» وكذا الرواية في مسلم.
[7] في (ب) و(س): «الاعتقادات».
[8] قوله: «ثمَّ تسري الاستعارة من المصدر إلى الفعل، أو تكون مكنيَّةً بأن تكون الاستعارة» سقط من (ص) و(م).
[9] قوله: «وفي قوله: بُنِيَ... إلى آخره استعارة؛... وبقيَّةُ شعب الإيمان كالأوتاد للخباء» ليس في (م).
[10] زاد في نسخة (ج) هنا: «كذا أجاب غير واحد من الشراح، وهذا لفظ الفتح والله الموفق».