الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلعم؟

          ░░1▒▒ <باب> أصله بَوب قُلبت الواو ألفًا، لفتح ما قبلها، بدليل جمعه على أبواب، كذا في العَينيِّ.
          قال القاري في «شرح الشَّمائل»: هو لغةً اسمٌ لمَدخل الأمكنة، كباب البلد وباب الدَّار، وعند البُلغاء: يقال لِما يُتوصَّل منه إلى المقصود، وهو هاهنا: معرفةُ أحاديثَ جاءت في هذا المعنى، ونوقش أنَّ الباب اسمٌ لطائفة مِنَ الكتاب، له أوَّل وآخر معلومان، وليس مدخلًا لشيء، بل هي بيتٌ مِنَ المعاني، نعم، لو كان الباب اسمًا للجزء الأوَّل منه(1)، لكان له وجه، فالأوجَهُ أن يقال: إنَّه بمعنى الوجه، إذ هو مِنْ معانيه، كما في «القاموس» إذ قال: كلُّ بابٍ وجهٌ مِنْ وجوه الكلام، سمِّي بابًا للاختلاف بينه وبين باب آخر، كاختلاف الوجوه. والأظهر عندي أنَّ الكتاب بمنزلة الجِنس، والباب بمنزلة النَّوع، والفصل بمنزلة الصِّنف، ومِنْ باب التَّشبيه بالمحسوس أنَّ الكتاب بمنزلة الدَّار المتضمِّنة للبيوت، فكلُّ نوعٍ مِنَ المسائل كبيتٍ، وأوَّلُه كبَابِه(2). انتهى مختصرًا.
          قال القَسْطَلَّانيُّ: الكتاب مِنَ الكَتْبِ وهو الجَمْعُ والضَّمُّ، ومِنْ ثَمَّ استُعْمِل جامعًا للأبواب. انتهى.
          فيطلق الكتاب على مختلف الأنواع، والباب على متَّحد الأنواع، والفصل على متَّحد الأصناف.
          قال الكَرْمانيُّ: فيه وفي نظائره ثلاثةُ أوجه: رفعٌ مع التَّنوين، أو بدون التَّنوين على الإضافة، وعلى هذين الوجهين هو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، أي هذا بابٌ، والثَّالث بالوقف على سبيل التَّعداد، فلا إعرابَ له(3). انتهى.
          وأَورد القاري في «شرح الشَّمائل» على هذا الأخير أنَّ التَّعداد في عرف البُلَغاء إنَّما يكون لضبط العدد مِنْ غير فصلٍ بين أجزاء المعدود بشيء آخر، فضلًا عن إيراد الأحوال الكثيرة بين المعدودات(4). انتهى.
          وأجملَ الكلامَ في «اللَّامع» على إضافة الباب إلى (كيف كان بدء الوحي؟)، وقَطْع الإضافة، فارجِعْ إليه.
          ثمَّ لم يترجم المصنِّف بلفظ الكتاب، واختار لفظ الباب، بل ليس في بعض النُّسخ الباب أيضا، بل بدأ بـ(كيف كان بدء الوحي؟) إلى آخره.
          وذكر في هامش «المطبوعة الهنديَّة»: لم يَذكر كتاب بدء الوحي، لأنَّه ليس تحته أبواب.
          قال الحافظ: هكذا في رواية أبي ذرٍّ، والأَصيليِّ، بغير <باب>، وثبت في رواية غيرهما. انتهى.
          وهذا على النُّسخ الَّتي بأيدينا، وأمَّا على ما(5) في نسخة «فتح الباري» فليس فيها <باب> أيضًا، فقال في مقدِّمة «الفتح»: قال شيخنا البُلْقِينيُّ: لم يقل فيه الإمام الكتاب ولا الباب، لأنَّ (بدء الوحي) مِنْ باب(6) ما يشتمل عليه الوحي.
          قال الحافظ: ويظهر لي أنَّما عرَّاه مِنْ باب لأنَّ كلَّ باب يأتي بعده ينقسم منه، فهو أمُّ الأبواب، فلا يكون قسيمًا لها وبداية(7)، لأنَّه منبع الخيرات وبه قامت الشَّرائع. انتهى.
          وقد أجاد ما أفاده مولانا محمَّد يوسف البنوري% في أوَّل أبواب التِّرمذيِّ في «معارف السُّنن» إذ قال: ويظهر فقهُ المحدِّث مِنْ تراجمه، كما قيل: فقهُ البخاريِّ في تراجمه، ولهذا القولِ عند شيخنا / يعني مولانا العلَّامة محمَّد أنور شاه الكَشْمِيريَّ مَحْمَلان:
          الأوَّل: أنَّ المسائل الَّتي اختارها مِنْ حيث الفِقهُ أظهرُ مِنْ تراجمه.
          والثَّاني: أنَّ تفقُّهَهُ وذكاءه ودقَّة فكره يظهر في تراجمه، قال شيخنا: الإمام البخاريُّ هو سياق(8) الغايات في وضع التَّراجم، بحيث ربَّما تنقطع دون فهمها مطامعُ الأفكار.
          قال: ثمَّ يتلوه في التَّراجم أبو عبد الرَّحمن النَّسائيُّ، وربَّما أرى في مواضع أنَّ تراجمهما تتوافق كلمةً كلمة، وأظنُّ أنَّ النَّسائيَّ تلقَّاها مِنْ شيخه البخاريِّ، حيث إنَّ التَّوارد يُستبعد في مثل هذا، ولا سيَّما إذا كان البخاريُّ مِنْ شيوخه، ثمَّ يتلوه تراجمُ أبي داود، وتراجمُ أبي داود أعلى مِنْ تراجم التِّرمذيِّ، نعم، إنَّ أسهل التَّراجم وأقربَها إلى الفهم تراجم التِّرمذيِّ.
          قال الشَّيخ: وأمَّا الإمام مسلمٌ فلم يَصنع(9) [هو] نفسُه التَّراجم، والتَّراجم الموجودة في كتابه مِنْ وضع شارحِه الإمام [النَّوويِّ] النَّوويِّ(10). انتهى.
          (كيف كان) إلى آخره، وأشكل على تقدير إضافة الباب بأنَّ لفظ (كيف) يقتضي الاستئناف.
          قال القَسْطَلَّانيُّ تَبَعًا للحافظ: لا تخرج بذلك عن الصَّدْريَّة، لأنَّ المراد مِنْ كون الاستفهام له الصَّدْريَّة(11): أن يكون في صدر الجملة الَّتي هي فيها... إلى آخر ما بسطه(12).
          قال النَّوويُّ: لا بدَّ مِنْ تقدير المضاف، أي باب جواب كيف كان...، لأنَّ المذكور في الباب جواب (كيف كان؟) لا سؤال (كيف كان؟).
          ثمَّ لا يذهب عليك ما في «هامش اللَّامع» وهو: اعلم أنَّ الإمام البخاريَّ ☺ بدأ أبوابه بلفظ (كيف) في سائر كتابه في ثلاثين موضعًا أصالةً، العشرون منها في النِّصف الأوَّل، والعشرة في النِّصف الثَّاني، والمراد بقولي: أصالةً إخراج ما ذكرها تبعًا، وأكثرُ المواضع مِنْ هذه الثَّلاثين خالية عن ذكر الكيفيَّة، فما يخطر بالبال بمطالعة هذه الأبواب كلِّها أنَّ غرض الإمام فيها ليس إثباتَ الكيفيَّة، حتَّى يجهد في إثبات الكيفيَّة في كلِّ حديث [حديثٍ]، بل الغرض عندي الإشارةُ والتَّنبيه إلى اختلاف العلماء، أو اختلاف الرِّوايات في كيفيَّة هذه الأمور الَّتي ترجم عليها بلفظ (كيف) فتأمَّل فإنَّ خاطري أبو عُذْرِهِ.
          ثمَّ رأيت أنَّ شيخَ مشايخنا الشَّاهَ وليَّ الله الدِّهْلويَّ ☺ أشار إلى ذلك في «تراجمه» إذ قال: قوله: (بدء الوحي) مِنَ البداية، وتخصيصه أنَّ إيراد (كيف) في التَّرجمة مِنْ قَبيل إيراد التَّنبيه في أثناء الباب أفادت زيادة فائدة على أصل المقصود مِنَ الباب، إذا المقصودُ إثباتُ أصل الوحي(13).
          ويمكن أن يقال: إنَّ المراد بالوحي الحديثُ، وبدؤُه: مبدؤه الَّذي صدر منه، وهو الله تعالى، فمعنى (كيف كان بدء الوحي؟)، أي كيف كان مبدأ ما رُوي عنه صلعم؟ فأثبت بأحاديث الباب أنَّه كان بالوحي، وتوسُّط المَلَك، فكأنَّه أثبت: أنَّا أخذنا الحديث عن رسول الله صلعم، وهو عن جبريل ◙، وهو عن الله تعالى، فبهذين الوجهين ينحلُّ ما يُورَد هاهنا، مِنْ أنَّه ليس في أكثر أحاديث الباب إثباتُ كيفيَّة بدء الوحي، بل ذكرُ أصلِه، وإنَّما هو في حديث [واحد]، فتذكَّر. انتهى.
          وفي «تراجم شيخ الهند» قُدِّس سرُّه ما تعريبه ملخَّصًا: إنَّا قد قدَّمنا في الأصول أنَّ المصنِّف قد لا يقصد بالتَّرجمة مدلولها المطابقيَّ، بل يشير إلى غرضٍ خاصٍّ يقصد إثباته بأحاديث الباب، كما فعل هاهنا، ويظهر ذلك بأمرين:
          الأوَّل: أنَّه صدَّر الكتاب بـ(باب بدء الوحي)، مع أنَّه ذكر (كتاب فضائل القرآن) في محلِّه كما ذكره المحدِّثون في كتبهم، وأورد هناك عدَّة أبواب تتعلَّق بنزول الوحي، فما الَّذي ألجأه إلى إفراد هذا الباب هاهنا مِنْ تلك الأبواب؟ وما الَّذي حرَّضه على اختيار هذا الطَّريق / الجديد؟ فالَّذي يظهر مِنْ أدنى عنايةٍ أنَّ جميعَ الأصول والفروع الإسلاميَّة حتَّى نبوَّة النَّبيِّ صلعم، لمَّا كانت يتوقَّف(14) صحَّته على الوحي كان ذكرُه في أوَّل الكتاب حتَّى قبل الإيمان والعلم أنسبَ، كما نبَّه عليه بعضُ الشُّرَّاح المحقِّقين، فاستبان بذلك أنَّ غرض المؤلِّف في هذا الباب أنَّ الوحي لمَّا كان مدار الأمور الإسلاميَّة، وهو الدَّليل الحقُّ الَّذي لا يأتيه الباطل مِنْ بين يديه ولا مِنْ خلفه، ولو أنَّ جميع العقلاء والحكماء، بل جميع الخلق، اجتمعوا على أن يأتوا بما يُعارض حكمًا مِنْ أحكامه لَمَا قدروا على ذلك، وهو المحلُّ(15) الكاملُ المعيار(16)، الَّذي يُعرَف به الجيِّدُ مِنَ الرَّديء، والصَّوابُ مِنَ الخطأ، فكلُّ ما وافقه فهو الصَّواب، وكلُّ ما خالفه فهو الباطل، سواء كانت العقائد أو الأعمال، أو الفروع أو الأصول، أو العبادات أو المعاملات، أو الأخلاق أو الأحوال.
          فالوحي هو البرهان السَّاطع، والدَّليل القاطع، الَّذي لا يُعْتبر بجنبه أيُّ دليل، فلذا قدَّم المصنِّفُ الوحيَ، ويَذْكُر صِدقه، وعظمته، وعصمته، ثمَّ يذكر سائر الأمور، فإنَّ كلَّها مأخوذة مِنَ الوحي، حتَّى إنَّ الأحوال المتعلِّقة بالوحي أيضًا تكون مأخوذة مِنَ الوحي، فإنَّه المعتمَد في الباب.
          والأمر الثَّاني: أنَّ المصنِّف أورد في الباب ستَّة أحاديث، ولا يناسب بظاهر التَّرجمة إلَّا حديث واحد، فالَّذي يظهر أنَّ غرضه ليس هو ظاهر التَّرجمة، بل هو أمر آخر ينبغي استخراجُه مِنَ النَّظر في أحاديث الباب، ويكون ذلك الأمر مشتركًا في الكلِّ مناسبًا بالمقام، فالَّذي يظهر بالتَّأمُّل أنَّ المصنِّف بصدد بيان عظمةِ الوحي، كما لا يخفى على المتأمِّل المتفطِّن.
          ثمَّ البدءُ عامٌّ، البدءُ الزَّمانيُّ والمكانيُّ، كما يظهر مِنَ الأحاديث، وكذا الوحي يعمُّ المتلوَّ وغيره، كما صرَّح به الشَّاه وليُّ الله، بل المقصود الأعظم هو الوحيُ غيرُ المتلوِّ، بل لو أُريدَ به الوحيُ المتلوُّ لكان منافيًا لغرض المصنِّف، مع كونه يُخِلُّ في المطابقة بالأحاديث، فالحذرَ كلَّ الحذرِ.
          والخلاصة أنَّ هذا الباب مقدِّمة الكتاب، وتتلوه المقاصد. انتهى.
          وأفاد عزيزي مولانا محمَّد يونس شيخ الحديث بمظاهر علوم بسهارنفور ما نصُّه: والَّذي كان يخطر ببالي منذ زمان أنَّ غرض الإمام البخاريِّ بهذا الباب بيانُ كيفيَّة ابتداء الوحي، وما صادف الوحيُ في بدئه مِنَ الأمور والوقائع والأحوال والكيفيَّات والأزمان، فيعمُّ البدْء ابتداءَه مِنَ الله تبارك وتعالى ووصولَه إلى النَّبيِّ صلعم، وما عَرَض له صلعم مِنَ الخَوف والدَّهش، ورجف البوادر، وتحريك الشَّفتين، وإتيان الوحي في صورة الصَّلْصَلة، وكذا يعمُّ ما عرض للوحي بعد ظهوره في النَّاس مِنْ تكذيبهم، ومخالفتهم، وتمادي ذلك إلى صلح الحُدَيبية، ففي البدء امتداد، وليس المراد بدءًا آنيًّا، وما يتعلَّق بالحصَّة الابتدائيَّة، كما يقال: كان الإسلام في أوَّل أمره غريبًا، لا يقبله إلَّا واحدٌ بعد واحد، ويخالفهم الأكثرون، ويؤذونهم، ويخرجونهم مِنْ أوطانهم وغير ذلك.
          وعلى هذا فمطابقة آية {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء:163] ظاهرة، لأنَّ قومَه كذَّبوه وخالفوه، وهكذا الأممُ بعدهم.
          ثمَّ راجعتُ الكَرْمانيَّ ففيه ما يؤيِّده أو يصرِّح به، حيث قال: والمراد مِنْ حال ابتداء الوحي حالُه مع كلِّ ما يتعلَّق بشأنه، أيَّ تَعَلُّقٍ كان، كما في التَّعلُّق الَّذي للحديث الهِرَقْليِّ، وهو أنَّ القصَّة وقعتْ في أحوال البعثة ومبادئها(17). انتهى.
          (بدء الوحي) قال الحافظ: قال عِياض: رُوِيَ بالهمز مع سكون الدَّال مِنَ الابتداء، وبغير همزٍ مع ضمِّ الدَّال / وتشديد الواو، مِنَ الظُّهور.
          قال الحافظ: ولم أرَه مضبوطًا في شيء مِنَ الرِّوايات الَّتي اتَّصلت بنا، إلَّا إنَّه وقع في بعضها: <كيف كان ابتداء الوحي؟> فهذا يرجِّح الأوَّل.
          ثمَّ الوحي لغة: الإعلام الخفيُّ، وشرعًا: إعلامٌ بالشَّرع. وقد يُطلق الوحيُ ويرادُ به اسمُ المفعول منه، أي الموحَى، وهو كلامُ الله تعالى، المنزلُ على النَّبيِّ صلعم. وبسط في «هامش اللَّامع» الكلام على أنواع الوحي، وقال الحَليميُّ: أنواعه ستَّة وأربعون.
          وقال السُّهيليُّ: سبعة، الأولى: المنام، والثَّانية: كصلصلة الجرس، والثَّالثة: أن ينفُث في رُوعه، والرَّابعة: أن يتمثَّل الملَكُ رجلًا، والخامسة: أن يتراءى جبريلُ ◙ في صورته الَّتي خلقها(18) الله تعالى(19) له ستُّ مئة جناح، والسَّادسة: أن يكلِّمه الله تعالى مِنْ وراء حجاب، السَّابعة: وحي إسرافيل. انتهى. مختصرًا(20).
          قلت: السَّابعة داخلة في الرَّابعة والخامسة، وإلَّا فوحي الملائكة غيرِ إسرافيل أيضًا ثابتٌ في الرِّوايات كمَلَكِ الجبال وغيره، فالأوجَهُ عندي اقتصارها على أربعة، أحدها: سماع الكلام القديم، الثَّانية: بواسطة الملَك، الثَّالثة: التَّلقِّي بالقلب، الرَّابعة: وحيُ مَنام، وباقي الأقسام يرجع إلى هذه الأربعة.
          وما قيل: إنَّها تبلغ إلى ستَّة وأربعين نوعًا، مستدلًّا بحديث ((الرُّؤيا الصَّالحة جزءٌ مِنْ ستَّة وأربعين جزءًا مِنَ النُّبوَّة))، وقد بُسط الكلام على هذا الحديث في «الأوجز» أشدَّ البسط، يُشْكِل عليه أنَّ هذه الرُّؤيا الَّتي رُئِيت ستَّة أشهر، كانت قبل النُّبوَّة، فكيف عُدَّت مِنْ أجزائها؟ ويمكن التَّفصِّي(21) عنه أنَّهم قالوا: بدء النُّبوة في ربيعٍ الأوَّل سنة أربعين مِنْ مولده، ففي «الأوجز» وقد كان ابتدأ الوحيُ على رأس الأربعين مِنْ عمره صلعم، كما جَزم به ابن إسحاق وغيره، [و]ذلك في ربيعٍ الأوَّل، ونزول جبريل ◙ [إليه] وهو في غار حراء كان في رمضان، وبينهما ستَّة أشهر. انتهى.
          ثمَّ قدَّم الإمامُ الوحيَ على الإيمان أيضًا، إشارةً إلى أنَّ كلَّ ما يأتي مِنَ العقائد والأحكام وغيرها، كلُّها متفرِّع على(22) الوحي ومرتَّبٌ عليه.
          وأيضًا: فإنَّ الوحي قَطْعيٌّ، لكونه منه عزَّ اسمُه، فالثَّابت به كلُّه قَطْعيٌّ.
          ومِنَ المناسِبات أن يقال: إنَّ المصنِّف صدَّر ببدء الوحي، ثمَّ ذكر الإيمان، ثمَّ العلم، ثمَّ الطَّهارة، لأنَّه جمع في هذا الكتاب وحي السُّنَّة، الَّتي هي ينبوع الشَّريعة، وكأنَّ(23) الوحي لبيان الأحكام الشَّريعة(24)(25) [الشَّرعيَّة]، صدَّره بحديث الأعمال، والعمل يحتاج إلى العلم، والعلم لا يُعْتَبر به إلَّا بعْد الإيمان، فلذا عقَّب الوحي بالإيمان، ثمَّ عقَّبَه بالعلم، ثمَّ عقَّبَه بالطَّهارة، الَّتي هي شرط لأفضلِ الأعمال، وهي الصَّلاة.
          وممَّا يجبُ التَّنبيه عليه أيضًا أنَّه سيأتي في آخر التَّفسير (باب: كيف نزل الوحي؟)، قال الحافظ: التَّرجمة الثَّانية أخصُّ مِنَ الأولى. وعندي: ما أفاده الحافظ نوَّر الله مرقده متعلِّق بالجزء الثَّاني مِنَ التَّرجمة.
          والظَّاهر عند هذا العبد الضَّعيف أنَّ بين التَّرجمتين: بين قوله (كيف كان بدء الوحي؟) وبين قوله (كيف نزل الوحي؟) عمومًا وخصوصًا مِنْ وجه، فإنَّ المنظور في الأوَّل بدء الحديث أعمُّ مِنْ أن يكون قرآنًا أو غيره، والمنظور هناك كيفيَّة نزول القرآن، كما يدلُّ عليه ذكره في كتاب فضائل القرآن، أعمُّ مِنْ أن يكون بدأ أو لا(26)، كما يظهر مِنْ ملاحظة الرِّوايات الواردة في الباب، فتدبَّرْ.
          وقد تقدَّم في مبدأ الباب، وكذا في الأصول، أنَّ التَّرجمة عند شيخ الهند مِنَ الأصل الحادي والعشرين، وليس غرضُه إلَّا بيان عظمة الوحي على طريق الالتزام، واستنبط ذلك أيضًا بقوله(27) تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [النساء:163 / إذ ذكره بلفظ صيغة الجمع الدَّالَّة على التَّعظيم، وقد بُسط الكلام على ذلك في الأصل الحادي والعشرين مِنْ أصول التَّراجم.
          (إلى رسول الله صلعم) الإضافة للعهد الخارجيِّ، والمراد سيِّدنا محمَّد رسول الله صلعم، والجملة وإن كانت خبريَّة لكنَّها بمعنى الإنشاء، وينبغي الصَّلاة عليه صلعم كلَّما ذُكر، والخلاف في ذلك مشهور، والأصل الاختلاف في مؤدَّى قوله عزَّ اسمُه: {صَلُّوا عَلَيْهِ} [الأحزاب:56] أنَّ الأمر للتَّكرار أم لا؟ وبُسط الكلام على ذلك في «الأوجز»، وفيه قال الحافظ في «الفتح»: أمَّا حكمها: فحاصلُ ما وقفتُ عليه مِنْ كلام العلماء فيه عشرةُ مذاهب(28). انتهى.
          (وقولُِ الله ╡) بالرَّفع على حذف الباب عطفًا على الجملة، لأنَّها في محلِّ الرَّفع، وكذا على تنوين (بابٌ)، وبالجرِّ عطفًا على (كيف)، وإثبات (بابٌ) بغير تنوين، والتَّقدير باب: معنى قول الله تعالى [كذا]، أو الاحتجاج بقوله تعالى كذا، ولا يصحُّ تقدير كيفيَّة قوله تعالى، لأنَّ كلامه تعالى لا يكيَّف، قاله عِياض. ويجوز الرَّفع على القَطع وغيرِه، كذا في «الفتح».
          ({إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا} [النساء:163]) مناسبة الآية بالتَّرجمة واضحة مِنْ جهة أنَّ صفة الوحي إلى نبيِّنا صلعم تُوافِقُ صفةَ الوحي إلى مَنْ تقدَّمه مِنَ النَّبيِّين، ومِنْ جهة أنَّ أوَّل أحوال النَّبيِّين في الوحي بالرُّؤيا، كما رواه أبو نُعيم في «الدَّلائل» كذا في «الفتح»، أو التَّشبيه في وحي الرِّسالة، فيكون بدؤه كبدء وحيهم، كذا في «اللَّامع». أو احتراز عن وحي غير الرِّسالة، كما في قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل:68] كذا في حاشية «اللَّامع» عن السِّنْديِّ. أو بيان لمرسِل الوحي، وهو الله ╡، فإنَّ الوحي يتضمَّن ثلاثة أشياء:1-المرسِل، 2-والواسطة، 3-والمرسَل إليه، فهذا بيان للثَّلاثة، فالأوَّل(29): أي مبدأ الوحي بقوله {إِنَّا}، وللثَّالث بقوله {إِلَيْكَ}، وللواسطة بقوله {كَمَا أَوْحَيْنَا}، فإنَّ الوحي إلى الأنبياء كان عامًّا بواسطة المَلَكِ، وعندي التَّشبيه في جميع أنواع الوحي مِنَ المنام والتَّكلُّم مِنَ وراء حجاب وغيرهما، فالمعنى: إنَّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى جميعهم، بجميع أنواع الوحي.
          وقال الكَرْمانيُّ: ذكر البخاريُّ الآية الكريمة لأنَّ عادته أن يستدلَّ للتَّرجمة بما وقع [له] مِنْ قرآن أو سنَّة مسنَدة وغيرها، وأراد أنَّ الوحي سنَّة الله في أنبيائه، وقال ابن بطَّالٍ: معنى هذه الآية أنَّ الله تعالى أوحى إلى محمَّد صلعم كما أوحى إلى سائر الأنبياء وحيَ رسالة، لا وحيَ إلهام، لأنَّ الوحي تنقسم(30) إلى وجوه)). انتهى.
          ({إلى نوح}...) إلى آخره التَّشبيه بنوح لا يُخرج غيرَه، كما أنَّ تشبيه الأَسْوَدِ بالغراب لا يُخْرِجُ تشبيهَه بالفَحْم وغيرِه، أو التَّشبيه بأُولي العزم مِنَ الرُّسل، فإنَّ ما قبل نوح كانوا أنبياءَ، واختُلف في كونهم رسلًا، أو التَّشبيه بكونه رسولًا إلى الكفَّار، فإنَّ الكفر قبل نوحٍ لم يَشِعْ كشيوعه في زمان نوح، كذا في «اللَّامع»، أو لأنَّه أوَّلُ رسولٍ آذاه قومُه، كما وقع مثلُه لنبيِّنا صلعم، كذا في القَسْطَلَّانيِّ، أو لأنَّه أوَّل الآباء بعد الطُّوفان، ذكره العَينيُّ، أو لأنَّ الوحي إلى نوح ومَنْ بعده كان في الأحكام الشَّرعيَّة، وقبله كان في الأحكام المدنيَّة، والوحي إليه صلعم كان مِنْ قَبيل الأوَّل دون الثَّاني، فإنَّهم قالوا: إنَّ العالَم كلَّه / بمنزلة شخصٍ، كان إلى زمن نوح زمان الطُّفوليَّة، ولذا كان الوحي مِنْ قَبيل الزِّراعة والصِّناعة، وكان زمنُ نوحٍ ومَنْ بعدَه زمانَ الشَّباب والتَّكليف، وزمانُ إبراهيم ومَنْ بعدَه زمانَ الكهولة(31)، ولذا خُلق في هذا الزَّمان الفلاسفةُ واليونانيُّون، كذا أفاده شيخ الإسلام مولانا حسين أحمد المدنيُّ نوَّر الله مرقده في «تقريره».
          وقد سبق إليه شيخُ الهند في «تراجمه» مختصرًا، وفي «الفيض» خصَّ نوحًا ◙ بذكرٍ دون آدم، لأنَّ الوحي قبله كان في الأمور التَّكوينيَّة، ولم يكن فيه كثيرٌ مِنْ أحكام الحلال والحرام، كما ذكره الشَّاهُ وليُّ الله في «رسالته في(32) تأويل الحديث»، وذكر الشَّاه عبد العزيز ☼ أنَّه لمَّا هَبط آدمُ ◙ مِنَ الجنَّة أُعطي بزورًا(33) للزَّرع، وأكثرُ أحكامه كان مِنْ هذا القَبيل، ثمَّ تغيَّرت شاكلتُه مِنْ زمن نوحٍ، فنزلت الأحكامُ والشَّرائع، كما يُعلم مِنَ التَّفاسير أنَّ الكفر إنَّما ظهر في السَّبط السَّادس مِنْ قابيل، وأوَّل رسول بعثه الله لزَهْقِهِ هو نوح عليه الصَّلاة السَّلام، ولم يكن قبله كفرٌ، ومِنْ هاهنا صار لقبُه نبيَّ الله، فإنَّه أوَّل نبيٍّ بُعث لإزهاق الكفر، والنَّاس كلُّهم الآن مِنْ نَسْلِه، فهو آدمُ [الثَّاني] ومنه نُشر العالم بعد لَفِّه، كذا ذكره المؤرِّخون. انتهى.
          ({وَالنَّبِيِّينَ}) والجمع المحلَّى باللَّام يفيد الاستغراق، فأشار إلى أنَّ جميع أنواع الوحي إلى جميع الأنبياء يوحَى إليك.


[1] في (المطبوع): ((منها)).
[2] الكواكب الدراري:1/ص13
[3] جمع الوسائل في شرح الشمائل:1/ص8
[4] معارف السنن:1/23
[5] قوله: ((على ما)) ليس في (المطبوع).
[6] في (المطبوع): ((بعض)).
[7] في (المطبوع): ((وبدأ به)).
[8] في (المطبوع): ((سباق)).
[9] في (المطبوع): ((يضع)).
[10] إرشاد الساري:1/48 بتصرف
[11] في (المطبوع): ((الصدر)).
[12] شرح تراجم أبواب البخاري: ص23
[13] الكواكب الدراري:1/15
[14] في (المطبوع): ((تتوقف)).
[15] في (المطبوع): ((المحك)).
[16] في (المطبوع): ((والمعيار)).
[17] الروض الأنف:2/258
[18] في (المطبوع): ((خلقه)).
[19] زاد في (المطبوع): ((عليها)).
[20] أَصل التَّفَصِّي: أَن يَكُونَ الشَّيْءُ فِي مَضِيقٍ ثمَّ يَخْرُجَ إلى غَيْرِهِ، ابْنُ الأَعرابي: أَفْصَى إذا تَخَلَّصَ مِنْ خَيْرٍ أَو شَرٍّ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: أَصل الفَصْيَة الشَّيْءُ تَكُونُ فِيهِ ثمَّ تخرج مِنْهُ، وَيُقَالُ: مَا كِدْتُ أَتَفَصَّى مِنْ فُلَانٍ أَي مَا كِدْتُ أَتخلَّص مِنْهُ. وتَفَصَّيْتُ مِنَ الدُّيُونِ إذا خَرَجْتَ مِنْهَا وَتَخَلَّصْتَ. وتفَصَّيت مِنَ الأَمر تَفَصِّيًا إذا خَرَجْتَ مِنْهُ وَتَخَلَّصْتَ. لسان العرب:15/157.
[21] هكذا وردت في الأصل والمثبت بين معقوفتين أوضح والله أعلم
[22] في (المطبوع): ((عن)).
[23] في (المطبوع): ((وكان)).
[24] في (المطبوع): ((الشرعية)).
[25] فتح الباري11/152
[26] في (المطبوع): ((بدءًا أولًا)).
[27] في (المطبوع): ((من قوله)).
[28] المنهاج شرح صحيح مسلم:13/54
[29] في (المطبوع): ((فللأول)).
[30] في (المطبوع): ((ينقسم)).
[31] في (المطبوع): ((الكهولية)).
[32] قوله: ((في)) ليس في (المطبوع).
[33] في (المطبوع): ((بذورًا)).