التلقيح لفهم قارئ الصحيح

باب مناقب فاطمة

          قوله: (بابُ مَنَاقِبِ فَاطِمَةَ ♦): إن قيل: قد ذكر مناقبها بعد (مناقب العبَّاس) [خ¦62/12-5574]؟
          والجوابُ: على تقدير ثبوت ذلك هناك، وقد تَقَدَّم أنَّه الذي يترجَّح في النظر أنَّه ذكر منقبتها هناك ضمنًا ومعطوفة أيضًا؛ لأنَّه عطفها على مناقب قرابة رسول الله صلعم، فقال: (باب مناقب قرابة رسول الله صلعم، ومنقبة فاطمة)، وهنا ذكرها مفردة؛ للاهتمام بها ولشأنها، والله أعلم.
          قال الإمام العلامة أبو الحسن عليُّ بن عبد الكافي السُّبْكي في «المسائل الحلبيَّة» ما لفظُه: (والذي نَدينُ اللهَ به أنَّ فاطمة أفضلُ، ثمَّ خديجة، ثمَّ عائشة، ولم يخفَ علينا الخلافُ في ذلك، ولكن إذا جاء نهر الله؛ بطل نهر مَعْقِل)، ثمَّ ذكر الحجَّة في تفضيل فاطمة ♦.
          ورأيتُ عن ابن قيِّم الجوزيَّة في كون عائشة أفضل أو فاطمة قال: (إذا حُرِّر محلُّ التفضيل؛ صار وفاقًا، فالتفضيل بدون التفصيل لا يستقيم، فإن أُريد بالفضل كثرة الثواب عند الله؛ فذلك أمرٌ لا يُطَّلع عليه إلَّا بالنصِّ؛ لأنَّه بحسب تفاضل أعمال القلوب، لا بمجرَّد أعمال الجوارح، وكم من عاملَينِ أحدهما أكثر عملًا بجوارحه، والآخر أرفع درجة منه في الجنَّة، وإن أريد بالتفضيل التفضيل بالعلم؛ فلا ريب أنَّ عائشة أعلم وأنفع للأمَّة، وأدَّت إلى الأمَّة من العلم ما لم يؤدِّ غيرها، واحتاج إليها خاصُّ الأمة وعامَّتُها، وإن أُريد بالتفضيل شرف الأصل وجلالة النسب؛ فلا ريب أنَّ فاطمة أفضل، فإنَّها بضعةٌ من النَّبيِّ صلعم، وذلك اختصاصٌ(1) لم يَشْرَكها فيه غير أخواتها، وإن أُريد السِّيادة؛ ففاطمة سيِّدة نساء الأمَّة، وإذا ثبتت وجوه التفضيل ومواد الفضل وأسبابه؛ صار الكلام بعلمٍ وعدلٍ، وأكثر الناس إذا تكلَّم في التفضيل؛ لم يفصِّل جهات الفضل، ولم يوازن بينهما، فيبخس الحقَّ، وإنِ انضاف إلى ذلك نوع تعصُّب وهوًى لمن(2) يفضِّله؛ تكلَّم بالجهل والظُّلم، وقد سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن مسائل من مسائل التفضيل؛ فأجاب فيه بالتفصيل الشافي)، انتهى.
          فائدة: قال السُّهيليُّ في «رَوضه»: (وروى حَمَّاد بن سلمة، عن عليِّ بن زيد، عن عليِّ بن الحسين: أنَّ فاطمة أرادت حَلَّه _يعني: حَلَّ أبي لبابة حين ربط نفسَه بساريةٍ من سواري المسجد_ حين نزلت توبته، فقال: قد أقسمتُ ألَّا يحلَّني إلَّا رسولُ الله صلعم، فقال رسول الله صلعم: «إنَّ فاطمة مضغةٌ مني»، فصـلَّى الله عليه وسلم وعلى فاطمة، فهذا حديثٌ يدلُّ على أنَّ من سبَّها؛ فقد كفر، وأنَّ من صلَّى عليها؛ فقد صلَّى على أبيها صلعم) انتهى، وقد تَقَدَّم قريبًا [خ¦3714]، وهذا حديثٌ مرسَل، / وفيه: عليُّ بن زيد ابن جُدْعان، وهو مُتَكَلَّم فيه، أخرج له مسلم والأربعة، حافظ ليس بثبتٍ.
          تنبيه: ذكر بعضُهم فيما بلغني عنه: أنَّ فاطمة لم تَحِضْ قطُّ، وهذا يردُّه قول جعفر بن محمَّد عن أبيه: (أنَّ بين الحسن والحسين طهرًا واحدًا)، والطُّهر ضدُّ الحيض، ولو كان ذلك صحيحًا؛ لكان أزواجُه صلعم أولى بذلك؛ لئلا يتعطَّل البعلُ عن الوطء وإن كانت فاطمة أفضلَ منهنَّ، ولا أستحضر خلافًا أنَّها أفضل ممَّن عدا عائشة وأمِّها، والله أعلم، وإن وقع في كلام الرافعيِّ تفضيل زوجاته ◙ على سائر النساء، وهذا لفظُه، وقد عُرِف الخلافُ في خديجة وفاطمة، وفي عائشة وفاطمة، واشتُهِر خلافُ النَّاس في مريم هل هي نبيَّة؟ وقد قدَّمتُ أنَّ الصَّحيح أنَّها ليست بنبيَّة [خ¦60/44-5264].
          ثمَّ إنِّي رأيت في «موضوعات أبي الفرج ابن الجوزيِّ» حديثًا في فضائلها _أعني: فاطمة_ وأنَّها لا تحيضُ، قال الخطيبُ: (إسنادُ هذا الحديث فيه غير واحدٍ من المجهولين، وليس بثابت) انتهى.
          تنبيه: لم أرَهم ذكروا تفضيلًا بين بقيَّة بناته ◙ وبقيَّة أزواجه، والذي يظهر أنَّ بقيَّة البنات أفضل منهنَّ؛ لأنَّ كلَّ واحدةٍ منهنَّ بضعةٌ منه صلعم، ويشدُّه حديث في «مسند أبي يعلى»: (تَزوَّجُ حفصةُ خيرًا من عثمان، ويُزوَّجُ عثمان خيرًا من حفصة، فزوَّجه ◙ ابنته) [خ¦6]؛ يعني: أمَّ كلثوم، والله أعلم.
          تنبيه: أفضل بناته ◙ فاطمة، كما هو مشهورٌ؛ لأنَّهنَّ في ميزانه ◙، وهو في ميزانها، وأمَّا ما رواه الطحاويُّ وأخرجه الحاكم في ترجمتها مطوَّلًا بإسناده إلى عائشة ♦: أنَّ النَّبيَّ صلعم قال لزيد بن حارثة: «ألا تنطلق فتجيء بزينب؟» يعني: ابنته لمَّا خرجت من مكَّة، وأدركها هبَّار بن الأسود حتَّى ألقت ما في بطنها، وأعطاه خاتمه، وجاء إلى راعي غنمٍ لها، فأعطاه الخاتم واستكتمه، فأعطاها الخاتم، فعرفته، حتَّى إذا كان الليلُ؛ خرجت إليه، فقال لها: اركبي بين يدي، قالت: لا، لكن اركب أنت، فركب وركبَتْ وراءه حتَّى أتت النَّبيَّ صلعم، فقال النَّبيُّ صلعم: «هي أفضلُ بناتي أُصيبت فيَّ»؛ فجوابُه _وقد قال الحاكم: على شرط البُخاريِّ ومسلم_: قال الذَّهبيُّ في «تلخيصه»: ([قال المؤلِّف]: العرب تقول: أفضل؛ تريدُ: مِن أفضل)، ثمَّ قال الذَّهبيُّ: (خبرٌ مُنكَرٌ، ويحيى ليس بالقويِّ) انتهى، وقد رواه الحاكم بسنده إلى يحيى بن أيُّوب: (حدَّثنا ابن الهادي: حدَّثني عمر ابن عبد الله بن عروة، عن عروة، عن عائشة ♦...) فذكره، وقد ذكره الحاكم مطوَّلًا في أوَّل (كتاب الطَّلاق) بالسند، قال الذَّهبيُّ: (ويحيى بن أيُّوب فيه كلامٌ) انتهى، ويحيى أخرج له الأئمة السِّتَّة، وفيه كلامٌ، وله ما يُنكَر، وإن صحَّ؛ فيُحمَل على أنَّه كانت ذلك الوقت أفضلَ، ثمَّ وهب الله لفاطمة من الأعمال الصالحة والأحوال السَّنيَّة والكمال ما لم يشركها فيه أحد من بناته سواها، وأجاب الطحاويُّ عن مجيء زينب مع زيد: بأنَّ زيدًا [كان] في حكم التبنِّي أخًا لزينب مَحْرمًا لها جائزًا له السفر بها؛ كما يجوز لأخ لو كان لها، والله أعلم.


[1] في (أ): (اختصاصًا)، والمثبت من مصدره.
[2] في (أ): (لم)، والمثبت من مصدره.