التلقيح لفهم قارئ الصحيح

باب مناقب المهاجرين وفضلهم

          (بابُ مَنَاقِبِ الْمُهَاجِرِينَ وَفَضْلِهِمْ؛ مِنْهُمْ: أَبُو بَكْرٍ...) إلى آخر الترجمة... وإلى (مَنَاقِبِ عُمَرَ ابْنِ الْخَطَّابِ ☺).
          قوله: (بابُ مَنَاقِبِ الْمُهَاجِرِينَ): (المناقب): جمع (منقَبَة)؛ بفتح القاف والموحَّدة؛ وهي المَفْخَرَة.
          تنبيه: وإنَّما قدَّم المهاجرين؛ لأنَّهم أفضل من الأنصار، وسيأتي الكلام على تقديمه جعفرًا بعد الخلفاء الأربعة [خ¦62/10-5569].
          فإن قيل: لمْ يَذْكُر في المهاجرين إلَّا جماعةً يسيرةً؟
          والجواب: أنَّه ذَكَر ما وقع له على شرطه مِن الأحاديث التي رواها، وهو في حقِّ ذلك الصحابيِّ منقَبَةٌ، والله أعلم.
          فائدة: قال المازريُّ: (اختَلف النَّاسُ في تفضيل بعض الصَّحابة على بعض؛ فقالت فرقة: لا نُفاضِل بل نُمسِك عن ذلك، وقال الجمهور بالتفضيل، ثمَّ اختلفوا، فقال أهل السُّنَّة: أفضلُهم أبو بكر الصِّدِّيق، وقالت الخطَّابية: أفضلُهم عمرُ بن الخطَّاب، وقالت الرَّاونديَّة: أفضلُهم العبَّاسُ، وقالت الشِّيعة: أفضلُهم عليٌّ، واتَّفق أهلُ السُّنَّة على أنَّ أفضلَهم أبو بكر، ثمَّ عُمَر، ثمَّ قال جمهورُهم: ثمَّ عثمانُ، ثمَّ عليٌّ)، وقال بعض أهل السُّنَّة من أهل الكوفة بتقديم عليٍّ على عثمان، والصَّحيح المشهور: تقديم عثمان، وسأذكر قريبًا هذه المسألة في حديث ابن عمر في (فضل الصِّدِّيق)، وأذكر كلام من ذُكِر فيه الإجماع؛ أعني: في أفضلية أبي بكر، ثمَّ عمر [خ¦3655]، قال أبو منصور البغداديُّ: أصحابنا مُجمِعون على أنَّ أفضلَهم الخلفاءُ الأربعةُ على الترتيب المذكور، ثمَّ بقيَّة العشرة، ثمَّ أهل بدرٍ، ثمَّ أُحُدٍ، ثمَّ بيعة الرضوان، وممَّن له مزيَّةٌ أهلُ العقَبتين مِن الأنصار، وكذلك السابقون الأوَّلون؛ وهم ممَّن صلى القِبلتين في قول ابنِ المُسَيِّـَب وطائفةٍ، وفي قول الشَّعْبيِّ: أهل بيعة الرضوان، وفي قول عطاء ومحمَّد بن كعب: أهل بدرٍ، وفي المسألة قولٌ رابعٌ رواه سنيدٌ بإسنادٍ صحيحٍ إلى الحسن قال: فرق ما بينهم فتح مكَّة، انتهى، وقال القاضي عياض: (وذهبت طائفة _منهم: ابن عبد البَرِّ_ إلى أنَّ مَن توفِّي مِن الصَّحابة في حياة النَّبيِّ صلعم أفضلُ ممَّن بقي بعده)، وهذا الإطلاق غير مرضيٍّ ولا مقبول.
          واختَلف العلماء في أنَّ التفضيل المذكور هل هو قطعيٌّ أم لا؟ وهل هو في الظاهر والباطن أم في الظاهر خاصَّة؟ وممَّن قال بالقطع: أبو الحسن الأشعريُّ، وعليه يدلُّ قول مالك في «المدوَّنة»، والذي مال إليه القاضي أبو بكر واختاره إمام الحرمين في «الإرشاد»: أنَّه ظنِّيٌّ، وبه جزم صاحب «المفهِم»، انتهى، قال القاضي عياض: (وهم في التفضيل على ترتيبهم في الإمامة، وممَّن قال بأنَّه اجتهادٌ ظنِّيٌّ: أبو بكر بن الباقلانيِّ، وذكر / ابن الباقلانيِّ اختلافَ العلماء في أنَّ التفضيل هل هو في الظاهر أم في الظاهر والباطن جميعًا؟ وكذلك اختلفوا في عائشة وخديجة أيُّهما أفضلُ؟ وفي عائشة وفاطمة، ♥)، وفي كلام أبي منصور البغداديِّ: أنَّه جعل أهل أُحُدٍ قبل أهل بيعة الرضوان، وقال ابن عبد البَرِّ ما يخالفه، قال ابن عبد البَرِّ في أواخر ديباجة «الاستيعاب» ما لفظه: (وليس في غزواته ما يُعدَل بها _يعني: بدرًا_ في الفضل ويقرب منها إلَّا غزوة الحديبية حيث كان بيعة الرضوان)، انتهى.
          وأمَّا خديجة وعائشة؛ فسأذكر تفصيلًا لأبي العبَّاس ابن تيمية في ذلك، وهو حسنٌ يأتي في مكانه، وأذكر كلام غيره [خ¦62/29-5643] [خ¦62/30-5645].
          تنبيه: لم أرَ مَن تعرَّض للسِّتَّة الباقين مِن العشرة أيُّهم أفضل، والذي ظهر لي أنَّهم في الفضيلة كما عدَّدهم النَّبيُّ صلعم في حديث سعيدِ بن زيد بن عمرو بن نُفيل _الذي أذكره في (مناقب عبد الله بن سلام) إن شاء الله تعالى [خ¦3812]، وأذكره هنا أيضًا_ قال: سمعتُ رسولَ الله صلعم يقول: «أبو بكرٍ في الجنَّة، وعُمَرُ في الجنَّة، وعثمانُ في الجنَّة، وعليٌّ في الجنَّة، وطلحةُ في الجنَّة، والزُّبيرُ في الجنَّة، وسعدُ بن مالك في الجنَّة، وعبدُ الرحمن بن عوف في الجنَّة، وأبو عبيدة في الجنَّة»، وسكت _يعني: سعيدًا_ عن العاشر، فقالوا: مَنِ العاشر؟ قال: سعيدُ بن زيدٍ؛ يعني: نفسَه، قال التِّرمذيُّ: (حسنٌ صحيحٌ).
          ويحتمل أن يُقال: أفضلُ السِّتَّة أسبقُهم سبقًا إلى الإسلام، ويحتمل أن يُقال: أفضلُهم أقربُهم إليه ◙ مِنَ الرِّجال أو مِنَ النِّساء، وعلى الاحتمال الأول(1) يُقال: قد أسلم بدعاء أبي بكرٍ ☺ عثمانُ، والزُّبيرُ، وسعدُ بنُ أبي وقَّاص، وطلحةُ بن عُبَيد الله، وعبدُ الرَّحمن بنُ عوفٍ، ثمَّ أسلم أبو عُبَيدة، وسعيدُ بن زيد بن عَمرو بن نُفيل، فاجتمع من الذين سبقوا إلى الإسلام ثمانية أشخاص غير خديجة: عليٌّ، وزيد بن حارثة، وأبو بكر، وعثمان، والزُّبير، وعبد الرحمن، وسعد بن أبي وقَّاص، وطلحة ابن عُبيد الله، وقد روى أبو عُمَرَ ابنُ عبدِ البَرِّ في «استيعابه» بإسناده إلى عبد الله _يعني: ابن مسعود_ قال: كان أوَّل مَن أظهر الإسلام سبعة _فذكر رسولَ الله صلعم، وليس هذا المراد_: أبو بكر، وعَمَّار، وسُمَيَّة، وصُهَيب، وبلال، والمقداد، قال ابنُ عبدِ البَرِّ: (ويَروِي منصورٌ عن مجاهدٍ قال: أوَّلُ مَن أظهر الإسلام سبعةٌ...؛ فذكر معنى حديثِ ابنِ مسعودٍ، إلَّا أنَّه لم يذكرِ المقدادَ، وذكر موضعَه خبَّابًا).
          غريبةٌ: العشرة المشهود لهم بالجنَّة لا أعلم فيهم خلافًا، وهم الذين ذكرتهم، وهم معروفون للناس الخاصِّ والعامِّ إلَّا ما رأيتُه في «تاريخ صاحب حماة» في سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة ذَكَرَ ابنَ مسعودٍ، فقال عن بعضهم: (إنَّه عدَّه من العشرة، والذي عدَّه أسقط أبا عبيدة)، وهذا غريبٌ جدًّا، وأبو عبيدة قرابة النَّبيِّ صلعم، وأسلم قبل ابن مسعود.
          وقد تُؤخَذ هذه المسألة من «الاستيعاب» من ترجمة ابن مسعود، فإنَّه ذكر حديثًا عن سعيد بن زيد قال: كنَّا مع النَّبيِّ صلعم على حراء، فذكرَ عشرةً في الجنَّة: «أبو بكر، وعمر...» إلى أن قال: «وعبد الله بن مسعود»، ولم يذكر فيهم أبا عبيدة، والظاهر أنَّه لم يكن حاضرًا، وفي سند هذا الحديثِ أبو حذيفة موسى بنُ مسعودٍ، قال الدَّارَقُطْنِيُّ: (تفرَّد به أبو حذيفةَ عنِ الثَّوريِّ بأن جعل العاشرَ ابنَ مسعودٍ) انتهى، وأبو حذيفةَ هذا أحدُ شيوخِ البخاريِّ، صدوقٌ يَهِمُ، تكلَّم فيه أحمدُ، وضعَّفه التِّرمذيُّ، وقال ابنُ خزيمةَ: (لا أحتجُّ به)، له ترجمةٌ في «الميزان»، والله أعلم.
          وقد تؤخذ أيضًا من «الاستيعاب» من ترجمة أبي عبيدة، فإنَّه قال فيها: (وهو أحد العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلعم بالجنَّة، جاء ذكره فيهم في بعض الروايات، وفي بعضها: «ابن مسعود»، وفي بعضها: «النَّبيّ صلعم»، ولم تختلف تلك الآثار في التِّسعة)، انتهى.
          قوله: (مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ التَّيْمِيُّ ☺): ما قاله البخاريُّ في اسمه هو الصَّحيح المشهور، وقيل في اسمه: عتيق، والصواب: أنَّ عتيقًا لقبٌ، لا اسم، ولُقِّب عتيقًا؛ لعتقه من النار، وقد روى التِّرمذيُّ بإسناده إلى عائشة رفعته: «أبو بكر عتيقُ الله مِنَ النار»، فمِن يومئذٍ سُمِّي عتيقًا، أو لُقِّب به لحُسْنِ وجهه وجمالِه، أو لأنَّ نسبَه ليس فيه شيءٌ يُعاب به، وقيل: كان له أخٌ يُسَمَّى عتيقًا، فمات قبله، فسُمِّيَ به، وقيل: لأنَّه قديمٌ في الخير، وقيل: إنَّ أمَّه لمَّا ولدته قالت: اللهمَّ هذا عتيقك من الموت ابن أبي قحافة عثمانَ.
          وأبو قُحَافة أسلم وصَحِب ☺، وتُوُفِّيَ سنة ░14هـ▒ بعد ابنِه أبي بكرٍ، ابن عامر بن عَمرو بن كعب بن سعد بن تَيْم بن مُرَّةَ بنِ كعبِ بن لُؤَيِّ بن غالب القرشيُّ التيميُّ، يلتقي أبو بكرٍ معه ◙ في مُرَّةَ ابنِ كعب بن لُؤَيٍّ.
          أمُّ أبي بكر: أمُّ الخير، قيل: سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مُرَّةَ، أسلمت أيضًا وصحبت، قال أبو نُعَيمٍ الأصبهانيُّ: (إنَّها ورثت أبا بكر)، انتهى، فعلى هذا لا يُعرَف خليفة ورثه أبواه إلَّا هو، انتهى، ولا يُعرَف أربعةٌ متناسلون بعضهم من بعض صحبوا إلَّا آل أبي بكر؛ وهم: عبد الله بن الزُّبير، وأمُّه أسماء، وأبو بكر، وأبو قحافة، وذكر موسى بن عقبة: أبا عتيق محمَّد ابن أبي بكر بن أبي قحافة، وفيه وقفةٌ؛ لأنَّ أبا عتيق محمَّدًا له رؤيةٌ فقط، وعبدُ الله بنُ الزُّبير له رؤيةٌ وروايةٌ، ولهم ثالثٌ ورابعٌ ذكرتهما في غير هذا الموضع.
          مناقبُ الصِّدِّيقِ وترجمتُه معروفان، أشهرُ مِن أن يُذكَرا، ومِن مناقبه ما ذكره شيخُنا المؤلِّفُ، فإنَّه قال ما لفظُه: (ورُوِيَ من حديث عِمران مرفوعًا: «مَن رأى أبا بكر في المنام؛ فقد رآه، فإنَّ الشيطانَ لا يتمثَّلُ به»، وهو غريبٌ مِن حديث أيُّوب، تفرَّد به ابن أبي عائشة عبيد الله ابن عمر)، قال: (وله خصائصُ أُخَرُ نحو الثلاثين ذكرتُها في «العُدَّة في رجال العمدة»)، انتهى، وشبَّهه النَّبيُّ صلعم بالخليل إبراهيمَ في عفوِه ووقارِه، وبميكائيل رأفةً ورحمةً، تُوُفِّيَ ☺ يوم الاثنين لثمانٍ _وقيل: لثلاث_ بقين مِن جمادى الأولى سنة ثلاثَ عشرةَ، وله حين تُوُفِّيَ ثلاثٌ وستُّون سنةً؛ كرسول الله صلعم وعُمَرَ وعليٍّ، واختُلِف في السبب الذي مات منه؛ فذكر الواقديُّ: أنَّه اغتسل في يوم بارد؛ فحُمَّ، ومرض خمسةَ عشرَ يومًا، وقال الزُّبيريُّ: كان به طرفٌ من السِّلِّ، ورُوِيَ عن سلَّام ابن أبي مطيع: أنَّه سُمَّ، فالله أعلم.


[1] في (أ): (الثاني).