التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو

          ░4▒ بَابُ الصَّلاةِ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ الحُصُونِ وَلِقَاءِ العَدُوِّ.
          (وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: إِنْ كَانَ تَهَيَّأَ الفَتْحُ، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلَاةِ صَلَّوْا إيماءً). إلى أَنْ قال: (وَبِهِ قَالَ مَكْحُولٌ. وَقَالَ أَنَسٌ: حَضَرْتُ مُنَاهَضَةَ حِصْنِ تُسْتَرَ...) إلى آخِرِه.
          945- ثُمَّ ذَكَرَ حديثَ جابرِ بن عبد الله قال: (جَاءَ عُمَرُ يَوْمَ الخَنْدَقِ، فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ) الحديث. وقد سَلَفَ / في مواضِعَ منها بابُ مَن صلَّى بالنَّاسِ جماعةً بعدَ ذهابِ الوقتِ [خ¦596].
          وشيخُ البُخاريِّ فيه (يَحْيَى) قال الجَيَّانيُّ: نَسَبَهُ ابنُ السَّكَنِ يَحيى بن موسى الحُدَّانيُّ، ونَسَبَهُ أبو ذرٍّ عن المستَمْلِي: يحيى بن جعفر البَلْخيُّ. ورَوَى الكَلَاباذيُّ أنَّ يَحيى بن موسى ويَحيى بن جعفر يرويانِ جميعًا عن وكيع في الجنائز، وبخطِّ الدِّمياطيِّ الحافظ: هُوَ خَتٌّ، وقيل: خَتٌّ أبوهُ موسى. مات سنة تسع وثلاثين ومئتين.
          إذا عرفْتَ ذلك، فالصَّلاةُ عندَ مناهضَةِ الحُصونِ ولقاءِ العَدُوِّ فهيَ صلاةُ حالِ المسَايَفَة والقتالِ الَّتي تقدَّمَ ذِكْرُها في بابِ صلاةِ الخوفِ رِجَالًا ورُكبانًا.
          وحديثُ جابرٍ هو حُجَّة الأوزاعيِّ ومكحولٍ أنَّ مَن لم يقدِرْ على الإيماءِ أخَّرَ الصَّلاةَ حتَّى يُصلِّيَها كاملةً، ولا يُجزئُ عنها تسبيحٌ ولا تهليلٌ؛ لأنَّه صلعم قدْ أخَّرَها يومَ الخندقِ، وإن كان ذلك قبلَ نزولِ صلاةِ الخوفِ فإنَّ فيه مِن الاستدلالِ أنَّ الله تعالى لم يَعِبْ تأخيرَه لها لِمَا كانَ فيه مِن شُغْلِ الحرْبِ، فكذا الحالُ الَّتي هي أشدُّ من ذلك، إلَّا أنَّه استدلالٌ ضعيفٌ مِن أجْلِ أنَّ سُنَّةَ صلاةِ الخوفِ لم تكُنْ نزلَتْ قبْلَ ذلك.
          فأمَّا قولُ الأوزاعِيِّ: (فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا صَلَّوْا رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ) فقدْ رُوِيَ مِثْلُه عن الحسن البصريِّ وقتادةَ وهو قول مكحولٍ، وعن الحسن أنَّ الإمام يُصلِّي رَكعتين والمأمومَ ركعةً، فَلَعَلَّه اختَلَفَ قولُه فيه أو تكونُ صلاةُ المسايَفَةِ تخالفُ غيرَها، ويحتمل أنَّ مستنَدَ ذلك قولُ مجاهدٍ عن ابنِ عبَّاسٍ: صلاةُ الخوفِ رَكعةٌ.
          قال الطَّحاويُّ: وهذا الحديثُ يعارضُه القرآنُ وذلك أنَّه تعالى قال: {وَإِذَاكُنْتَ فِيهِمْ} الآية [النساء:102] ففَرَضَ اللهُ صلاةَ الخوفِ ونصَّ فرْضَهَا في كتابِه هكذا، وجَعَلَ صلاةَ الطَّائفةِ الأُخرَى بعدَ تمامِ الرَّكعةِ الأُولَى مع الإمام، فَثَبَتَ بهذا أنَّ الإمامَ يصلِّيها في حالِ الخوفِ رَكعتين، وقد رَوَى عُبيدُ الله عن ابنِ عبَّاسٍ خلافَ ما رَوَى عنه مجاهدٌ وقد سَلَفَ.
          والفقهاءُ وأكثَرُ الصَّحابةِ على أنَّ القَصْر في الخوفِ ليس بقَصْرِ عددٍ وإنَّما هو قَصْرُ هيئةٍ، وأمَّا التَّكبيرُ فقد رُوي عن مجاهدٍ أنَّه قال: صلاةُ المسَايَفَةِ بِتكبيرةٍ واحدةٍ.
          وعن سعيدِ بن جُبَيرٍ وأبي عبدِ الرَّحمن قال: الصَّلاةُ عندَ المسَايَفَة تهليلٌ وتسبيحٌ وتمجيدٌ وتكبيرٌ. وذَكَرَ ابنُ المنذِرِ عن إسحاقَ: تُجزئُكَ رَكعةٌ تومِئُ بها، فإنْ لم تقدِرْ فسجدةٌ واحدةٌ، فإن لم تقدِرْ فتكبيرةٌ واحدةٌ لأنَّه ذِكْرُ الله. وقال الحسَنُ بن حَيٍّ: يكبِّر مكانَ كلِّ ركعةٍ تكبيرةً. وقد سَلَفَ. وأمَّا أئمةُ الفتوى فلا يُجزِئُ عندَهم التَّكبيرُ مِن الرُّكوعِ والسُجودِ؛ لأنَّ التَّكبيرَ لا يُسمَّى بركُوعٍ ولا سجودٍ، وإنَّما يجزِئُ الإتيانُ بأيسرِهما، وأقلُّ الأعمالِ النَّائبةِ عنهما الإشارةُ والإيماءُ الدَّالُّ على الخضوعِ لله تعالى فيهِما.
          قال الأَصِيلِيُّ: ومعنى قولِ أنس: (فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلاَةِ) فإنَّهم لم يجِدُوا السَّبيلَ إلى الوُضوءِ مِن شِدَّةِ القِتَالِ، فأخَّرُوا الصَّلاةَ إلى وجودِ الماءِ، ويحتمل أن يكونَ تأخيرُه صلعم يومَ الخندقِ حتَّى غربت لأنَّه لم يجِدِ السَّبيلَ إلى الوضوءِ. قلتُ: ويحتملُ النَّسيان، ولِأَجْلِ الخوفِ والشُّغلِ بحربِ المشركينَ.
          وقوله: (لَمْ نُصَلِّ إِلَّا بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ) قال خليفةُ بنُ خيَّاطٍ في «تاريخه»: حدَّثنا ابن زُرَيع عن سعيدٍ عن قتادةَ عن أنسٍ قال: لم نُصَلِّ يومئذٍ الغَدَاةَ حتَّى انتصفَ النَّهارُ. قال خليفةُ: وذلكَ في سنةِ عشرين.
          وقوله: (مَا يَسُرُّنِي بِتِلْكَ الصَّلاَةِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) وفي روايةِ خليفةَ: الدُّنيا كلُّهَا، بمعنى أنَّهم أَتَوْا بها في وقتِها لم يفرِّطُوا، ولم يكن عليهم أكثرُ مِن ذلك. وقيل: يريدُ لو كانتْ في وقتِها كانَ أحبَّ إِلَيَّ مِن الدُّنيا وما فيها.
          وقولُ الأَوزاعِيِّ: (فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الإِيمَاءِ أَخَّرُوا الصَّلاَةَ حَتَّى يَنْكَشِفَ القِتَالُ) فيه مخالفةٌ لقولِ مالكٍ؛ لأنَّه لا يُعجِزُهُ عن الإيماء طالبِين ولا مطلوبِين، ولا يمنعهم مُسَايَفَةً.
          وقوله: (لاَ يُجْزِئُهُمُ التَّكْبِيرُ) قد سَلَفَ ما فيه.