التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب رفع معرفة ليلة القدر لتلاحي الناس

          ░4▒ بَابُ رَفْعِ مَعْرِفَةِ لَيْلَةِ القَدْرِ لِتَلَاحِي النَّاسِ
          2023- ذَكَرَ فِيْهِ حَدِيْثَ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ قَالَ: (خَرَجَ النَّبِيُّ صلعم لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ القَدْرِ فَتَلَاحَى رَجُلاَنِ مِنَ المُسْلِمِينَ فَقَالَ: خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ، فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُوْنَ خَيْرًا لَكُمْ، فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالخَامِسَةِ)، وقَدْ سَلَفَ أنَّ هَذَا الحديثَ مِنْ أفرادِ البُخَارِيِّ، وفي لفظٍ لَهُ: ((فَالْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ وَالتِّسْعِ وَالخَمْسِ))، ومَعنَى (تَلَاحَا) تَمَارَيَا أو تَسَابَّا.
          قَالَ ابنُ فَارِسٍ: اللِّحَا: المُلَاحَاةُ وهِيَ المسارَعةُ، وقَالَ الهَرَوِيُّ: هُمَا كالسِّبَابِ، ومَعنَى (فَرُفِعَتْ): أي رُفِعَ تَعْيِنُهَا بدليلِ قولِه: (فَالْتَمِسُوهَا)، فرُفِعَ عِلْمُها عَنْهُ بسَبَبِ تَلَاحِيهما، فحُرِمُوا بركةَ تعينِها، وهُوَ دَالٌّ عَلَى أنَّ المُلَاحَاةَ والخَلَافَ تَصْرِفُ فضائلَ كثيرٍ مِنَ الدِّينِ وتَحْرِمُ أجرًا عظيمًا، لأنَّ اللهَ لم يُرِدِ التَّفَرُّقَ مِنْ عِبَادِه، إنَّما أَرَادَ الاعتصامَ بحبلِه، وجَعَلَ الرَّحْمَةَ مقرونةً بالاعتصامِ بالجماعةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:118-119]، وقْد يُذْنِبُ القَومُ فتتعدَّى العقوبةُ إِلَى غيرِهم، وهذا فِي الدُّنيَا، وأمَّا الآخرةُ فلا تَزِرُ وازرةٌ وِزْرَ أُخْرَى.
          وقَدْ رُوِيَ وَجْهٌ آخرُ فِي رفعِ معرفتِها مِنْ حَدِيْثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أنَّ رَسُولَ الله صلعم قَالَ: ((أُرِيْتُ لَيْلَةَ القَدْرِ، ثُمَّ أَيْقَظَنِي بَعْضُ أَهْلِي، فَنُسِّيتُهَا فَالْتَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الغَوَابِرِ))، ويَجُوزُ أَنْ يَكُوْنَ هَذَا مَرَّةً والمُلَاحَاةُ أُخْرَى، وقَدْ يتذكَّرُ الرُّؤيَا مَنْ يُوقَظُ مِنْ نَوْمِهِ.
          و((الغَوَابِرِ)) البَوَاقِي فِي آخِرِ الشَّهرِ، ومِنْهُ {إِلَّا عَجُوزًا فِي الغَابِرِينَ} [الشُّعراء:171] يَعْنِي الباقينَ الَّذِينَ أَتَتْ عَلَيْهِمُ الأَزْمِنَةُ، وقَدْ تَجعَلُهُ العَرَبُ بمَعنَى المَاضِي أحيانًا، وهُوَ مِنَ الأضدادِ، ومَعنَى قوله: (وَعَسَى أَنْ يَكُوْنَ خَيْرًا لَكُمْ) يُرِيْدُ أنَّ البحثَ عَنْهَا والطَّلَبَ لَهَا بكثيرٍ مِنَ العَمَلِ هُوَ خيرٌ مِنْ هَذِهِ الجهةِ، قَالَهُ ابنُ بَطَّالٍ، وقَالَ ابنُ التِّيْنِ: لَعَلَّه يُرِيدُ أنَّه لو أُخبِرتُم بِعَيْنِهَا لأَقْلَلْتُمْ مِنَ العَمَلِ فِي غيرِها، وأكثرتمُوه فِيْهَا، وإِذَا غُيِّبَتْ عَنْكُمْ أكثرتُم العَمَلَ فِي سَائِرِ اللَّيَالِي رَجَاءَ مُوَافَقَتِها، قَالَهُ ابنُ حَبِيبٍ وغيرُه.