التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر

          ░3▒ بَابُ تَحَرِّي لَيْلَةِ القَدْرِ فِي الوِتْرِ مِنَ العَشْرِ الأَوَاخِرِ
          فِيْهِ عَنْ عُبَادَةَ. /
          2018- 2019- 2020- 2021- 2022- ثُمَّ ذَكَرَ فِيْهِ حَدِيْثَ عَائِشَةَ مِنْ طريقينِ وأَبِي سَعِيْدٍ السَّالِفَ وابنِ عَبَّاسٍ: (التَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَةَ القَدْرِ فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى)، تَابَعَهُ عَبْدُ الوَهَّابِ عَنْ أَيُّوْبَ.
          وعَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ التَمِسُوهَا فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِيْنَ، وفي روايةٍ: (هِيَ فِي العَشْرِ) يَعنِي هِيَ فِي سَبْعٍ يَمْضِينَ أَوْ فِي سَبْعٍ يَبْقَيْنَ، يَعْنِي لَيْلَةَ القَدْرِ.
          الشَّرْحُ: حَدِيْثُ ابنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وفي بعضِ طُرًقِ البُخَارِيِّ: <كَانُوا لَا يَزَالُونَ يَقُصُّونَ عَلَى النَّبيِّ صلعم الرُّؤيَا أنَّها فِي اللَّيلَةِ السَّابِعَةِ مِنَ العَشْرِ الأَوَاخِرِ>، وقَالَ: العَشْرُ بَدَلَ السَّبْعِ فيهما، وفي روايةٍ لمُسْلِمٍ: ((أنَّ لَيْلَةَ القَدْرِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وعِشْرِيْنَ))، ولَهُ: ((الْتَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ، فَإِنْ ضَعُفَ أَحَدُكُمْ أَوْ عَجَزَ، فَلَا يُغْلَبَنَّ عَلَى السَّبْعِ البَوَاقِي)).
          وحديثُ أَبِي سَعِيْدٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا، وسَلَفَ في الصَّلاةِ فِي بابِ: السُّجُودِ عَلَى الأَنْفِ فِي الطِّيْنِ [خ¦813]، وحديثُ عُبَادَةَ وهُوَ مِنْ أَفْرَادِهِ، وسَاقَهُ فِي البابِ الآتي بعدَه [خ¦2023]، وفي لفظٍ آخرَ: ((فَالْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ وَالتِّسْعِ وَالخَمْسِ))، وحديثُ عَائِشَةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا، ولَمْ يَذْكُرْ: ((فِي الوِتْرِ)) وحَدِيْثُ ابنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَفْرَادِهِ ولَمْ يُخَرِّجْ مًسْلِمٌ عَنْهُ ولَا عَنْ عَبَادَةَ فِي ليلةِ القَدْرِ شيئًا.
          وقولُه: (تَابَعَهُ عَبْدُ الوَهَّابِ...) إِلَى آخِرِهِ أَخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيْثِ إِسْحَاقَ بنِ الحَسَنِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ مُوْسَى بنِ إسماعيلَ عَنْهُ.
          وانفَرَدَ مسلمٌ عَنْهُ بحديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا: ((أُرِيتُ لَيْلَةَ القَدْرِ، ثُمَّ أَيْقَظَنِي بَعْضُ أَهْلِي، فَنُسِّيتُهَا فَالْتَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الغَوَابِرِ)).
          وبحديثِ عبدِ اللهِ بنِ أُنَيْسٍ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ: ((أُرِيتُ لَيْلَةَ القَدْرِ، ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، وَأَرَانِي فِي صَبِيحَتِهَا أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ فَمُطِرْنَا لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِيْنَ، فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلعم فَانْصَرَفَ وَإِنَّ أَثَرَ المَاءِ وَالطِّينِ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بنُ أُنَيْسٍ يَقُولُ: ثَلَاثٍ وَعِشْرِيْنَ))، ولَمْ يُخَرِّجِ البُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ هَذَا شيئًا فِي «صحيحِه».
          وبحديثِ زِرِّ بنِ حُبَيْشٍ قَالَ: سَأَلْتُ أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ فَقُلْتُ: إنَّ أَخَاكَ عبدَ اللهِ بنَ مَسْعُوْدٍ يَقُولُ: مَنْ يَقُمِ الحولَ يُصِبْ ليلةَ القَدْرِ، فقَالَ: ☼ أَرَادَ أَلَّا يَتَّكِلَ النَّاسُ، أَمَا إنَّه قَدْ عَلِمَ أنَّها فِي رَمَضَانَ، وأنَّها فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ، وأنَّها ليلةُ سبعٍ وعِشرِينَ، فَقُلْتُ: بأيِّ شيءٍ تَقُولُ ذَلِكَ يا أَبَا المُنْذِرِ؟ قَالَ: بالعَلَامَةِ أو بالآيَةِ الَّتِي أَخْبَرَنَا رَسُوْلُ اللهِ صلعم أنَّها تَطْلُعُ يَوْمَئِذٍ لَا شُعَاعَ لَهَا، ثُمَّ حَلَفَ _لا يَستَثنِي_ أنَّها ليلةُ سبعٍ وعِشرِينَ. ولَهُ مِنْ حَدِيْثِ شُعْبَةَ: هِيَ اللَّيلَةُ الَّتِي أَمَرَنَا رَسُوْلُ اللهِ صلعم بقِيَامِها، هِيَ ليلةُ سبعٍ وعِشرِينَ، شَكَّ شُعْبَةُ فِي هَذَا الحَرفِ هِيَ الَّتِي أَمَرَنَا رَسُوْلُ اللهِ بقِيَامِها، فَهَذِهِ ثَلَاثُ طُرُقٍ ليستْ فِي «البُخَارِيِّ»، المجموعُ ثمانيةٌ.
          ورَوَى البُخَارِيُّ عَنْ بِلَالٍ مَرْفُوْعًا: ((هِيَ فِي السَّبْعِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ))، ولأَبِي نُعَيْمٍ الحَافِظِ: ((أَنَّها أَوَّلُ السَّبْعِ مِنَ العَشْرِ الأَوَاخِرِ))، ولِلطَّبَرانيِّ مِنْ حَدِيْثِ ابنِ لَهِيْعَةَ: ((لَيْلَةُ القَدْرِ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِيْنَ))، ولِلْحَاكِمِ _عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ_ مِنْ حَدِيْثِ عَاصِمِ بنِ كُلَيبٍ عَنْ أَبِيْهِ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ: ((إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يَذْكُرُ السَّبْعَ، فَذَكَرَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ وَخَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ سَبْعٍ وَنَبْتُ الأَرْضِ مِنْ سَبْعٍ، فَقَالَ عُمَرُ: وَاللهِ إِنِّي لَأَرَى القَوْلَ كَمَا قُلْتَ)).
          وفي البابِ أحاديثُ أُخَرُ أَحَدُهَا: حديثُ جابرِ بنِ سَمُرَةَ أَخْرَجَهُ ابنُ أَبِي شَيْبَةَ بِلَفْظِ: ((التَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ))، زَادَ أحمدُ: ((فِي وَتْرٍ، فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُهَا فَأُنْسِيتُهَا، وَهِيَ مَطَرٌ وَرِيحٌ)) أَوْ قَالَ: ((قَطْرٌ وَرِيحٌ)).
          ثَانِيْهَا: حديثُ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ أَخْرَجَهُ ابنُ أَبِي عَاصِمٍ بمثلِه وبزيادةِ أنَّها: ((لَيْلَةٌ طَلْقَةٌ بَلْجَةٌ، لَا حَارَّةٌ وَلَا بَارِدَةٌ، كَأَنَّ فِيْهَا قَمَرًا، لَا يَخْرُجُ شَيْطَانُهَا حَتَّى يُضِيءَ فَجْرُهَا)).
          ثَالِثُهَا: عَنْ عَاصِمِ بن كُلَيبٍ عَنْ خَالِه لُقْمَانَ _يُقَالُ: اسمُه الفَلَتَانُ_ قَالَ: أَتَيتَ رَسُولَ اللهِ صلعم. وفي آخِرِهِ: ((فَالْتَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ))، أَخْرَجَهُ أَبُو زُرْعَةَ عبدُ الرَّحمَنِ بنُ عَمْرٍو البَّصْرِيُّ فِي «العَاشِرِ» مِنْ حديثِه.
          رَابِعُهَا: عَنْ أَنَسٍ: ((الْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالخَامِسَةِ))، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، ورَوَاهُ ابنُ أَبِي عَاصِمٍ مِنْ حَدِيْثِ خالدِ بن مَجْدُوْجٍ عَنْهُ مَرْفُوْعًا: ((الْتَمِسُوهَا فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، أَوْ فِي تِسْعٍ، أَوْ فِي أَرْبَعَ عَشْرَةَ، أَوْ فِي إِحْدَى وَعِشْرِيْنَ، أَوْ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ)) قَالَ: ولَا نعلمُ أحدًا قَالَ: ((أَوَّلِ لَيْلَةٍ)) إلَّا هَذَا.
          خَامِسُهَا: أَبُو بَكْرَةَ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ: ((التَمِسُوهَا فِي تِسْعٍ يَبْقَيْنَ، أَوْ سَبْعٍ يَبْقَيْنَ، أَوْ خَمْسٍ يَبْقَيْنَ، أَوْ آخِرِ لَيْلَةٍ)) ثُمَّ صَحَّحَهُ، وكَذَا الحاكمُ.
          سَادِسُهَا: ابنُ مَسْعُوْدٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِلَفْظِ: ((اطْلُبُوهَا لَيْلَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ، وَلَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِيْنَ، وَثَلَاثٍ وَعِشْرِيْنَ)) وفي إسنادِه مَقَالٌ.
          سَابِعُهَا: مُعَاوِيَةُ بنُ أبي سُفْيَانَ أَخْرَجَهُ أَيْضًا بِلَفْظِ: ((لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِيْنَ)).
          ثامنُها: أَبُو ذرٍّ أَخْرَجَهُ الحَاكِمُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ: ((الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ)).
          تاسعُها: النُّعْمَانُ بنُ بَشِيرٍ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ: ((قُمْنَا مَعَهُ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِيْنَ وَخَمْسٍ وَعِشْرِيْنَ وَسَبْعٍ وَعِشْرِيْنَ)).
          زَادَ أحمدُ: فأمَّا نحنُ فنَقُولُ: ليلةُ سَبْعٍ وعِشرِينَ، وأَنْتُمْ تَقُولُونَ: ليلةُ ثلاثٍ وعِشرِينَ السَّابِعَةُ، فَمَنْ أَصْوَبُ نَحْنُ أو أَنْتُمْ؟
          عاشرُها: مُعَاذٌ أَخْرَجَهُ ابنُ أَبِي عَاصِمٍ، ولَهُ مِنْ حَدِيْثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ بإسنادٍ ضعيفٍ: ((الْتَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَإِنَّ اللهَ ╡ يَفْرُقُ فِيْهَا كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، وَفِيهَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالزَّبُورُ وَصُحُفُ مُوسَى والقُرْآنُ العَظِيمُ، وَفِيهَا غَرَسَ اللهُ الجَنَّةَ، وَجَبَلَ طِينةَ آدَمَ)) ورُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيْثِ عَلِيٍّ.
          إِذَا تَقَرَّرَ ذلكَ: فحَاصِلٌ مَا فِيْهَا مِنَ الخِلَافِ، واعلمْ قبلَه أنَّه أجمعَ مَنْ يُعتَدُّ بِهِ فِي الإجماعِ عَلَى بقائِها إِلَى يومِ القيامةِ، وشَذَّتِ الرَّوَافِضُ فقَالُوا: رُفِعَتْ، واختُلِفَ فِي مَحَلِّهَا فَقِيْلَ بانتقالِها فِي لَيَالِي العَشْرِ، / وبِهِ قَالَ مَالِكٌ وأحمدُ وابنُ خُزَيْمَةَ والمُزَنِيُّ. وهُوَ قَوِيٌّ يُجْمَعُ بِهِ بينَ أحاديثِ البابِ، وإِنَّمَا تَنْتَقِلُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ، وقِيْلَ: فِي كلِّه، وقِيْلَ: تلزمُ ليلةً بِعَيْنِها وقيلَ: هِيَ فِي السَّنةِ كلِّها، وهُوَ قَوْلُ ابنِ مَسْعُوْدٍ وأَبِي حَنِيْفَةَ وصَاحِبَيهِ، وقِيْلَ: بَلْ فِي كلِّ رَمَضَانَ وهُوَ قَوْلُ ابنِ عُمَرَ وجماعةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وقِيْلَ: أَوَّلُ ليلةٍ مِنْهُ، وقِيْلَ: فِي العشرِ الأوسطِ والآخرِ، وقِيْلَ: فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ، وقِيْلَ: يختصُّ بأوتارِ العَشْرِ الأَوَاخِرِ، وقِيْلَ: بأشفاعِها، وقِيْلَ: فِي ثلاثٍ وعِشرِينَ أو سبعٍ وعِشرِينَ، وهُوَ قَولُ ابنِ عَبَّاسٍ، وقِيْلَ: بَلْ تُطلَبُ فِي ليلةِ سبعَ عشرةَ أو إِحْدَى وعِشرِينَ، وهُوَ مَحكِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وابنِ مَسْعُوْدٍ، وقِيْلَ: ليلةَ ثلاثٍ وعِشْرِيْنَ، وهُوَ قَوْلُ كثيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وغيرِهم.
          وقِيْلَ: ليلةَ إِحْدَى وعِشرِينَ، وقِيْلَ: ليلةَ أربعٍ وعِشرِينَ ليلةَ يومِ بدرٍ، وقِيْلَ: ليلةَ خمسٍ وعِشرِينَ، وقِيْلَ: ليلةَ سبعٍ وعِشرِينَ، وهُوَ قَوْلُ جماعةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وادَّعَى الرُّوْيَانيُّ فِي «الحليةِ» أنَّه قولُ أكثرِ العلماءِ، وقِيْلَ: ليلةَ سبعَ عشرةَ، وقِيْلَ: ثمانِ عشرةَ، وقِيْلَ: ليلةَ تسعَ عشرةَ، وقِيْلَ: آخرَ ليلةٍ مِنَ الشَّهرِ، حَكَى هَذِهِ الأقوالَ أجمعَ القَاضِي عِيَاَضٌ فِي «شرحِه» وادَّعَى المَاوَرْدِيُّ أنَّه لَا خِلَافَ أنَّها فِي العَشْرِ الأخيرِ.
          وقَالَ القَاضِي: مَا فِي ليلةٍ مِنْ لَيَالِي العشرِ إلَّا وَقَدْ رُوِيَ أنَّها هِيَ، لكنَّ لَيَالِي الوترِ أَرجَاهَا، وفي «شرحِ الهدايةِ» ذَهَبَ أَبُو حَنِيْفَةَ إِلَى أنَّها فِي رَمَضَانَ تتقدَّمُ وتتأخَّرُ، وعندَهما لَا تتقدَّمُ ولَا تتأخَّرُ لكنْ غيرُ مُعَيَّنَةٍ، وقِيْلَ: هِيَ عندَهما فِي النِّصفِ الأخيرِ مِنْ رَمَضَانَ، وقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازيُّ: هِيَ غيرُ مخصوصةٍ بشهرٍ مِنَ الشُّهُور، وبِهِ قَالَ الحَنَفِيُّونَ، وفي قَاضِي خانَ: المشهورُ عَنْ أَبِي حَنِيْفَةَ أنَّها تَدُورُ فِي السَّنَةِ كلِّها، وقَدْ تَكُونُ فِي رَمَضَانَ وقَدْ تَكُونُ فِي غيرِه وَصَحَّ ذَلِكَ عَنِ ابنِ مَسْعُوْدٍ، وقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: السُّورَةُ ثَلَاثُونَ كلمةً فَإِذَا وَصَلْتَ إِلَى قولِه: {هِيَ} [القدر:5] فهي سابعةٌ وعِشْرُوْنَ منها، وأُجِيبَ بأنَّ قولَه: {لَيْلَةِ القَدْرِ} نصٌّ عَلَى عَينِها وهِيَ الكلمةُ الخامسةُ، و{هِيَ} كنايةٌ فَإِذَا لم يَدُلَّ الصَّرِيحُ فالكنايةُ أَولَى، وقِيْلَ: إنَّها فِي ليلةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ.
          وقَالَ ابنُ حَزْمٍ: إنْ كَانَ الشَّهرُ ناقصًا فهِيَ أَوَّلُ العشرِ الآخِرِ مِنْ غيرِ شَكٍّ، فهِيَ إمَّا فِي ليلةِ عِشرِينَ أو ثَانِيهِ أو أربعٍ أو سِتٍّ أو ثمانٍ، وإنْ كَانَ كاملًا فأوَّلُ العَشْرِ الأَوَاخِرِ بلَا شَكٍّ، إمَّا ليلةُ إِحْدَى أو ثلاثٍ أو خمسٍ أو سبعٍ أو تسعٍ فِي وترِها، وعِنْدَ جمعٍ مِنَ الصُّوفِيَّةِ: أنَّه إِذَا وَافَقَ الوترُ ليلةَ جمعةٍ مِنَ العشرِ الأخيرِ كَانَتْ هِيَ ليلةُ القَدْرِ.
          تنبيهاتٌ وفَوَائِدُ: الأوَّلُ: قولُه فِي حديثِ ابنِ عُمَرَ: ((فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ)) يُرِيدُ فِي ذَلِكَ العَامِ الَّذِي تَوَاطَأَتْ فِيْهِ الرُّؤيَا عَلَى ذَلِكَ وهِيَ ليلةُ ثلاثٍ وعِشرِينَ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيْدٍ: ((الْتَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ فِي الوَتْرِ فَمُطِرْنَا لَيْلَة إِحْدَى وَعِشْرِيْنَ))، وكَانَتْ لَيْلَةُ القَدْرِ فِي ذَلِكَ العامِ فِي غيرِ السَّبعِ الأَوَاخِرِ ولَا تَتَضَادُّ الأخبارُ.
          وفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيْدٍ زيادةُ مَعنًى أنَّها تَكُونُ فِي الوترِ، وحديثُ عبدِ اللهِ بنِ أُنَيسٍ السَّالِفُ دالٌّ أنَّها ليلةُ ثلاثٍ وعِشرِينَ أَيْضًا، فَقَالَ رَجُلٌ: هَذَا أوَّلُ ثمانٍ فقَالَ: ((بَلْ أَوَّلُ تِسْعٍ، لِأَنَّ الشَّهْرَ لَا يَتِمُّ))، فثَبَتَ بِهَذَا أنَّها فِي السَّبعِ الأَوَاخِرِ، وأنَّه قَصَدَ ليلةَ ثلاثَ وعِشرِينَ، لأنَّ ذَلِكَ الشَّهرَ كَانَ ناقصًا، فَدَلَّ هَذَا أنَّها قَدْ تَكُونُ فِي غيرِها مِنَ السِّنِينِ بخلافِ ذَلِكَ.
          ثَانِيْهَا: مَنْ ذَهَبَ إِلَى قَولِ ابنِ مَسْعُوْدٍ وتَأَوَّلَ مِنْهُ أنَّها فِي سَائِرِ السَّنَةِ، فلَا دليلَ لَهُ إلَّا الظَّنَّ مِنْ دَوَرَانِ الزَّمَانِ بالزِّيَادَةِ والنُّقصَانِ فِي الأَهِلَّةِ وذَلِكَ فاسدٌ، لِأَنَّهُ مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ تعليقُها بليلةٍ فِي غيرِ شهرِ رَمَضَانَ، كَمَا لم يُعَلِّقْ صِيَامَهُ بأَيَّامٍ معلومةٍ تَدُورُ فِي العامِ كلِّه بالزِّيَادَةِ والنُّقصَانِ فِي الأَهِلَّةِ، فيَكُونُ صَومُ رَمَضَانَ فِي غيرِه، فكَذَلِكَ لَا يَجِبُ أَنْ تَكُوْنَ ليلةُ القَدْرِ فِي غيرِ رَمَضَانَ.
          وفي القرآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى أنَّها فِي رَمَضَانَ خَاصَّةً، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} الآية [الدُّخان:3] فأخبرَ أنَّ اللَّيلَةَ الَّتِي يُفْرَقُ فِيْهَا كُلُّ أمرٍ حكيمٍ هِيَ ليلةُ القَدْرِ، وهِيَ اللَّيلَةُ الَّتِي أَنْزَلَ اللهُ فِيْهَا القرآنَ حَيْثُ قَالَ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيْهِ القُرْآنُ} [البقرة:185] فثَبَتَ لذلك أنَّ تلكَ اللَّيلَةَ فِي شهرِ رَمَضَانَ، وقَالَ الدَّاوُدِيُّ: أَرَادَ بِهِ تحريضَ النَّاسِ عَلَى العَمَلِ فِي السَّنَةِ كلِّها وهُوَ مِنَ المَعَارِيضِ، لأنَّ قولَه: ((فِي)) يُوجِبُ البعضَ، فمعناهُ: أنَّها فِي السَّنَةِ فِي العشرِ الأَوَاخِرِ، فَسَكَتَ لِيُجْتَهَدَ فِي طَلَبِهَا. قَالَ: والَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الأحاديثُ الصَّحِيحَةُ أنَّها فِي وترِ العشرِ الأَوَاخِرِ وأنَّها تنتقلُ.
          ثَالِثُهَا: القَزَعُ _المذكورُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيْدٍ الآتي في بابِ: الاعتكافِ وخُرُوجِ النَّبيِّ صلعم صَبِيحَةَ عشرينَ_ قِطَعٌ مِنْ سَحَابٍ دِقَاقٍ قَالَهُ فِي «العينِ» والتَّحَرِّي: القَصْدُ، يُقَالُ: تَحَرَّيْتُ الشَّيءَ: إِذَا قَصَدْتُه وتَعَمَّدْتُه.
          و(تَوَاطَتْ): قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: المُحَدِّثُونَ يَروُونَه كذلكَ، وإِنَّمَا هُوَ تَوَاطَأَتْ _بالهمزِ_ مِنْ قولِه: {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ} [التَّوبة:27]، ومِنْ قولِه: {أَشَدُّ وَطْئًا} [المزمِّل:6]، ولكنَّه يَجُوزُ فِي كَلَامِ كثيرٍ مِنَ العَرَبِ حذفُ الهمزةِ، ومَعنَى (تَوَاطَأَتِ) اتَّفَقَتْ واجتَمَعَتْ عَلَى شيءٍ واحدٍ، والتَّوطِئَةُ: التَّليِينُ، يُقَالُ: وَطَّأْتُ لفُلَانٍ هَذَا الأمرَ إِذَا سَهَّلتَهُ ولَيَّنتَه.
          رَابِعُهَا: قَالَ الطَّبَرِيُّ: أجمعَ الجميعُ أنَّها فِي وترِ العَشْرِ الأَوَاخِرِ ثُمَّ لَا حَدَّ فِي ذَلِكَ خَاصٌّ لليلةٍ بِعَيْنِها لَا يَعْدُوهَا لغيرِها، لِأَنَّهُ لو كَانَ محصورًا عَلَى ليلةٍ بِعَيْنِهَا لكَانَ أَولَى النَّاسِ بمعرفتِها سَيِّدُ الأُمَّةِ مَعَ جِدِّهِ فِي أمرِها ليُعَرِّفَهَا أُمَّتَه، فَلَمْ يُعَرِّفَهم مِنْهَا إلَّا الدِّلَالَةَ عَلَيْهَا أنَّها ليلةٌ طَلْقَةٌ، وأنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ فِي صَبِيحَتِها بيضاءَ لَا شُعَاعَ لها، ولأنَّ فِي دلالتِه أُمَّتَه عَلَيْهَا بالآياتِ دُونَ توقيفِه عَلَى ليلةٍ بِعَيْنِها دليلٌ واضحٌ عَلَى كَذِبِ مَنْ زَعَمَ أنها تُظْهِرُ تلكَ اللَّيلَةُ للعُيُونِ مَا لَا يَظهَرُ فِي سَائِرِ السَّنَةِ مِنْ سُقُوطِ الأشجارِ / إِلَى الأرضِ ثُمَّ رُجُوعِها قائمةً إِلَى أماكنِها، إذْ لو كَانَ ذَلِكَ حقًّا لم يَخفَ عَنْ بَصَرِ مَنْ يَقُومُ لَيَالِيَ السَّنَةِ كلَّها، كيفَ لَيَالِي شهرِ رَمَضَانَ؟!
          خَامِسُهَا: خُصَّتْ هَذِهِ اللَّيلَةُ بأنَّها خيرٌ مِنْ ألفِ شهرٍ بنصِّ القرآنِ، ويُستَجَابُ فِيْهَا الدَّعَاءُ مَا لم يَدْعُ بإثمٍ أو قطيعةَ رحمٍ، وهِيَ أفضلُ لَيَالِيَ السَّنَةِ وهِيَ مِنْ خَوَاصِّ هَذِهِ الأُمَّةِ، وقَدْ سَلَفَ مِنْ علامتِها أنَّها طَلْقَةٌ، وأنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ في صَبِيحَتِها لَا شُعَاعَ فيها، وفِيْهِ حديثٌ أَخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ فِي «فضائلِ الأوقاتِ» ثُمَّ قَالَ: وقَدْ رُوِيَ فِي حديثينِ ضعيفينِ فِي صِفَةِ الهواءِ ليلةَ القَدْرِ فَقَالَ فِي أحدِهما: ((إِنَّهَا لَيْلَةٌ سَمْحَةٌ طَلْقَةٌ لَا حَارَّةٌ وَلَا بَارِدَةٌ تُصْبِحُ شَمْسُهَا صَبِيحَتَهَا ضَعِيفَةً حَمْرَاءَ)) وفي الآخَرِ معناهُ، ثُمَّ رَوَى عَنِ الأَوْزَاعِيِّ عَنْ عَبْدَةَ بنِ أَبِي لُبَابَةَ قَالَ: ((ذُقْتُ مَاءَ البَحْرِ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، فَإِذَا هُوَ عَذْبٌ))، ورُوِيَ فِي «دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ» فِي آخِرِهِ فِي بَابِ: مَا جَاءَ فِي رُؤيَا ابنِ عَبَّاسٍ فِي منامِه عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ: أنَّ الشَّيطَانَ يَطلُعُ مَعَ الشَّمْسِ كلَّ يومٍ إلَّا ليلةَ القَدْرِ وَذَلِكَ أنَّها تَطلُعُ يَوْمَئِذٍ لَا شُعَاعَ لها.
          سَادِسُهَا: مِنْ أهمِّ الدُّعَاءِ فِي هَذِهِ اللَّيلَةِ: ((اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي))، فيُسْتَحَبُّ الإكثارُ مِنْهُ، قَالَ البَيْهَقِيُّ فِي «فضائلِ الأوقاتِ»: طَلَبُ العفوِ مِنَ اللهِ مُستَحَبٌّ فِي جميعِ الأوقاتِ وخَاصَّةً فِي هَذِهِ اللَّيلَةِ، ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ إِلَى أَبِي عَمْرِو بنِ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ سَعِيدَ بنَ إسماعيلَ كثيرًا يَقُولُ فِي مجلسِه وفي غيرِ المجلسِ: عَفوَكَ ثُمَّ يَقُولُ: عَفوَكَ يا عَفُوُّ، عَفْوَكَ فِي المَحيَا عَفوَكَ وفي القيامةِ عَفوَكَ وفي مناقشةِ الحسابِ عَفوَكَ؛ قَالَ أَبُو عَمْرٍو: فَرُئِيَ أَبُو عُثْمَانَ فِي المنامِ بعدَ وَفَاتِه بأيَّامٍ فَقِيْلَ لَهُ: مَاذَا انتَفَعتَ مِنْ أعمالِك؟ قَالَ: بقولِي: عَفوَكَ عَفوَكَ.
          سَابِعُهَا: الحكمةُ فِي إخفائِها أنْ يجتهدَ النَّاسُ فِي طَلَبِهَا رَجَاءَ إصابتِها كَمَا فِي ساعةِ الإجابةِ يومَ الجمعةِ وغيرِها، ويُسَنُّ لِمَنْ رَآهَا كَتمُها، صَرَّحَ بِهِ المَاوَرْدِيُّ، والمعروفُ أنَّها تُرَى حقيقةً، وقَولُ المُهَلَّبِ: إنَّه لَا يمكنُ رؤيتُها حقيقةً غلطٌ جدًّا.
          ثَامِنُها: قَالَ مَالِكٌ: فِي قولِه: ((الْتَمِسُوهَا فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى)) هِيَ ليلةُ إِحْدَى وعِشْرِيْنَ، ((وَسَابِعَةٍ تَبْقَى)) ليلةُ ثلاثٍ وعِشرِينَ، ((وَخَامِسَةٍ تَبْقَى)) ليلةُ خمسٍ وعِشرِينَ، وإِنَّمَا يصحُّ معناهُ ويُوَافِقُ ليلةَ القَدْرِ وترًا مِنَ اللَّيَالِي عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الحَدِيْثِ إِذَا كَانَ الشَّهرُ ناقصًا، فأمَّا إنْ كَانَ كاملًا فإنَّها لَا تَكُونُ إلَّا فِي شَفْعٍ، فتَكُونُ التَّاسِعَةُ الباقيةُ ليلةَ ثنتينِ وعِشرِينَ، والخامسةُ الباقيةُ ليلةَ سِتٍّ وعِشرِينَ، والسَّابِعَةُ الباقيةُ ليلةَ أربعٍ وعِشرِينَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ البُخَارِيُّ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ، فلَا يُصَادِفُ واحدةٌ مِنْهُنَّ وترًا، وهَذَا دَالٌّ عَلَى الانتقالِ كَمَا اختَرنَاهُ مِنْ وَتْرٍ إِلَى شَفْعٍ وعكسِه، لِأَنَّهُ ◙ لم يَأْمُرْ أُمَّتَهُ بالتِمَاسِهَا فِي شهرٍ كاملٍ دونَ ناقصٍ، بَلْ أطلقَ طلبَها فِي جميعِه الَّتِي قَدَّرَ بها اللهُ تَعَالَى عَلَى التَّمَامِ مَرَّةً وعكسِه، فثَبَتَ انتقالُها فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ، قيل: وإِنَّمَا خَاطَبَهم بالبعضِ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى تَمَامِ الشَّهرِ عَلَى يقينٍ.
          تاسعُها: قولُ ابنِ عَبَّاسٍ فِي حديثِه السَّالِفِ: (هِيَ فِي سَبْعٍ يَمْضِينَ) أو (سَبْعٍ يَبْقَيْنَ) هُوَ شَكٌّ مِنْهُ، أو مِنْ غيرِه فِي أيِّ اللَّفظَينِ قَالَهُ النَّبيُّ صلعم، ودَلَّ قَولُه ◙ فِي الحَدِيْثِ الآخِرِ: (فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى) أنَّ الصَّحِيحَ مِنْ لفظِ الشَّكِّ قولُه: (فِي سَبْعٍ يَبْقَيْنَ) عَلَى طريقةِ العَرَبِ فِي التَّارِيخِ إِذَا جَاوَزُوا نِصْفَ الشَّهرِ إنَّما يُؤَرِّخُونَ بالبَاقِي لَا بالماضي، ولِهَذَا المَعنَى عَدُّوا (تَاسِعَةٍ تَبْقَى) ليلةَ إِحْدَى وعِشرِينَ، ولَمْ يَعُدُّوها ليلةَ تسعٍ وعِشرِينَ، وعَدُّوا (سَابِعَةٍ تَبْقَى) ليلةَ أربعٍ وعِشرِينَ، ولَمْ يَعُدُّوها ليلةَ سبعٍ وعِشرِينَ لَمَّا لم يَأْخُذُوا العَدَدَ مِنْ أَوَّلِ العَشْرِ، وإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ ذَلِكَ لو قَالَ ◙: فِي تاسعةٍ تَمضِي.
          ولَمَّا قَالَ ◙: ((الْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالخَامِسَةِ)) وكَانَ كلامًا مُجمَلًا يحتملُ مَعَانِي، وخَشِيَ ◙ التباسَ معناهُ عَلَى أُمَّتِه بَيَّنَ الوجَه المرادَ بِهِ، فقَالَ: (فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى، وَفِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، وَفِي خَامِسَةٍ تَبْقَى) ليَزُولَ الإشكالُ فِي ذَلِكَ.
          عاشرُها: مَعنَى (وَكَفَ) سَالَ، قَالَ صَاحِبُ «الأفعالِ»: وَكَفَ المَطرُ والدَّمْعُ والبيتُ وُكُوفًا ووَكِيفًا ووَكَفَانًا: سَاَل.
          وقولُه: (أَرَى رُؤْيَاكُمْ) هَكَذَا يَروِيهِ المُحَدِّثُونَ بتوحيدِ الرُّؤيَا وهُوَ جائزٌ، لأنَّ رُؤيَا مَصْدَرٌ، وأفصحُ مِنْهُ رُؤَاكُمْ جمعَ رُؤيَا، ليكونَ جمعًا فِي مقابلةِ جمعٍ، وهُوَ الأشبهُ بكلامِ الشَّارِعِ، نَبَّهَ عَلَيْهِ ابنُ التِّيْنِ.
          الحادي عشرَ: حَدِيْثُ ابنِ عُمَرَ دالٌّ أنَّ رُؤْيَاهُمُ اختَلَفَتْ، فقَولُه: (التَمِسُوهَا فِي العَشْرِ) يَجُوزُ أَنْ يَكُوْنَ أُعْلِمَ أوَّلًا أنَّها بالعَشْرِ فأَخْبَرَ بِذَلِكَ، ثُمَّ فِي السَّبْعِ فأَخْبَرَ بِهِ، ويَجُوزُ أَنْ يَكُوْنَ حَضَّ عَلَى العَشْرِ مَنْ بِهِ قُوَّةٌ، وعَلَى السَّبْعِ مَن لم يَقْدِرْ عَلَى العَشْرِ.
          وقولُه فِي حَدِيْثِ أَبِي سَعِيْدٍ الأَوَّلِ: (فَخَرَجَ صَبِيحَةَ عِشْرِيْنَ فَخَطَبَنَا) وَجْهُه _كَمَا قَالَ ابنُ التِّيْنِ_ أنَّه أَخْرَجَ قُبَّتَهُ أو خَرَجَ هُوَ إِلَى موضعٍ آخَرَ، وأمَّا هُوَ فَلَيْسَ بوقتِ خُرُوجٍ مِنَ الاعتكافِ، ولَا يَخرُجُ مَنِ اعتَكَفَ وَسَطَ الشَّهْرِ إلَّا بمغيبِ الشَّمْسِ مِنْ ليلةِ إِحْدَى وعِشرِينَ، قُلْتُ: فِي حَدِيْثِ أَبِي سَعِيْدٍ بَيَانُ ذَلِكَ؛ ففي «الصَّحِيحِ»: ((فَإِذَا كَانَ مِنْ حِينِ تَمْضِي عِشْرُونَ لَيْلَةً، وَيَسْتَقْبِلُ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِيْنَ رَجَعَ إِلَى مَسْكَنِهِ))، وفي أُخْرَى _وهِيَ أَيْضًا لمُسْلِمٍ_ ((اعْتَكَفَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ عَلَى سُدَّتِهَا حَصِيرٌ، قَالَ: فَأَخَذَ الحَصِيرَ بِيَدِهِ فَنَحَّاهَا فِي نَاحِيَةِ القُبَّةِ، ثُمَّ أَطْلَعَ رَأْسَهُ فَكَلَّمَ النَّاسَ، فَدَنَوْا مِنْهُ))، قَالَ ابنُ عَبْدِ البَرِّ: والوَجْهُ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أنَّه أَرَادَ أنَّه خَطَبَهُمْ غَدَاةَ عِشرِينَ، لِيُعَرِّفَهُمْ أنَّه اليَومُ الآخِرُ مِنِ اعتِكَافِهِ، وأنَّ اللَّيلَةَ الَّتِي تَلِي تلكَ الصَّبِيحَةَ هِيَ ليلةُ إِحْدَى وعِشرِينَ وهِيَ المطلوبُ فِيْهَا ليلةُ القَدْرِ، وقَالَ المُهَلَّبُ: لَيْسَ بين الرِّوَايَتَينِ تَعَارُضٌ، لأنَّ يومَ عِشرِينَ مُعْتَكَفٌ فِيْهِ، وبِهِ تَتِمُّ العشرةُ أيَّامٍ، لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي أوَّلِ / اللَّيلِ فيخرجُ في أوَّلِهِ، فيَكُونُ مَعنَى قولِهِ: فِي ليلةِ إِحْدَى وعِشرِينَ وهِيَ الَّتِي يخرُجُ مِنْ صَبِيْحَتِهَا، يُرِيدُ الصَّبِيحَةَ الَّتِي تَلِي قبلَ ليلةِ إِحْدَى وعِشرِينَ، وأضافَها إِلَى اللَّيلَةِ كَمَا تُضَافُ أَيْضًا الصَّبِيحَةُ الَّتِي بعدَها إِلَى اللَّيلَةِ، وكلُّ مُتَّصِلٍ بِشَيْءٍ فَهُوَ مُضَافٌ إِلَيْهِ سَوَاءٌ أَكَانَ فِيْهِ أو بعدَه، وإنْ كَانَتِ العبادةُ فِي نسبةِ الصَّبِيحَةِ إِلَى اللَّيلَةِ الَّتِي قَبلَها لتَقَدُّمِ اللَّيلِ عَلَى النَّهارِ فإنَّ نسبةَ الشَّيءِ إِلَى مَا بعدَه جائزٌ.
          الثَّانِي عشرَ: قولُه (ثُمَّ أُنْسِيتُهَا أَوْ نُسِّيتُهَا): هُوَ شَكٌّ مِنَ المُحَدِّثِ أيَّ الكلمتينِ قَالَ، ومَعنَى (يُجَاوِرُ) فِي حديثِ عَائِشَةَ: يَعْتَكِفُ.
          وقولُه: (فَخَطَبَ النَّاسَ) فِيْهِ أنَّه كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يؤكِّدَ أمرًا خَطَبَ، وجَازَ النِّسْيانُ فِي هَذَا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لم يُؤْمَرْ بأنْ يُبَلِّغَهُ أُمَّتَهُ، لِأَنَّهُ معصومٌ مِنْ ضِدِّهِ، ومَعنَى (اسْتَهَلَّتْ) أَمطَرَتْ، يُقَالُ: استَهَلَّتِ السَّمَاءُ بالمَطَرِ، وهُوَ شِدَّةُ انصِبَابِه، وقولُه بعدَه: (فَأَمْطَرَتْ) تأكيدٌ، وسَلَفَ مَعنَى: (وَكَفَ).
          وقولُ ابنِ عَبَّاسٍ: ((الْتَمِسُوهَا فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِيْنَ)) رَوَى أَنَسٌ أنَّه ◙: ((كَانَ يَتَحَرَّى لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِيْنَ وَلَيْلَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِيْنَ)) قَالَ ابنُ حَبِيْبٍ: يَتَحَرَّى أي يَتِمُّ الشَّهْرُ أو يَنْقُصُ، فيَتَحَرَّاهَا فِي ليلةٍ مِنَ السَّبْعِ البَوَاقِي، فإنْ كَانَ تَامًّا فهِيَ ليلةُ أربعٍ وعِشرِينَ، أو ناقصًا فثَلَاثٌ، قَالَهُ الدَّاوُدِيُّ، ولَعَلَّ ابنَ عَبَّاسٍ إنَّما قَصَدَ فِي الأربعِ احتياطًا كَمَا فِي حديثِ أَنَسٍ فَنَسِيَ النَّاقِلُ ذِكْرَ ليلةِ ثلاثٍ وعِشرِينَ.