التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب العمل في العشر الأواخر من رمضان

          ░5▒ بَابُ العَمَلِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ
          2024- ذَكَرَ فِيْهِ حَدِيْثَ عَائِشَةَ: (كَانَ النَّبِيُّ صلعم إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ).
          هَذَا الحديثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا بِلَفْظِ: ((وَجَدَّ وَشَدَّ المِئْزَرَ))، وفي آخَرَ: ((كَانَ يَجْتَهِدُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ)) وفي إسنادِه: أَبُو يَعْفُور _وهُوَ الصَّغِيرُ_ وهُوَ عبدُ الرَّحمَنِ بنُ عُبَيْدِ بن نِسْطَاسَ.
          ورَوَى ابنُ أَبِي عَاصِمٍ مِنْ حَدِيْثِ عليٍّ: ((كَانَ صلعم إِذَا دَخَلَ العَشْرُ أَيْقَظَ أَهْلَهُ وَرَفَعَ المِئْزَرَ)) يَعنِي: اعتزلَ النِّسَاءَ، وإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ أُخْبِرَ أنَّ ليلةَ القَدْرِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ، فَسَنَّ لأمَّته الأخذَ بالأحوطِ فِي طَلَبِهَا فِي العَشْرِ كلِّه، لِئَلَّا تَفُوتَ إذْ قَدْ يمكنْ أَنْ يَكُوْنَ الشَّهرُ ناقصًا، وأنْ يَكُوْنَ كاملًا، فمَنْ أَحيَا لَيَالِيَ العَشْرِ كلَّها لم يَفُتْهُ مِنْهَا شَفْعٌ ولَا وَتْرٌ، ولو أعلمَ اللهُ عِبَادَه أنَّ فِي لَيَالِي السَّنَةِ كلِّها مثلَ هَذِهِ اللَّيلَةِ وأَوجَبَ عَلَيْهِمْ أنْ يُحْيُوا اللَّيَالِي كلَّها فِي طَلَبِهَا، فذلكَ يَسِيرٌ فِي جَنْبِ غُفرَانِه والنَّجَاةِ مِنْ عَذابهِ، فَرَفَقَ تَعَالَى بعبادِه وجَعَلَ هَذِهِ اللَّيلَةَ الشَّرِيفَةَ موجودةً فِي عَشْرِ ليالٍ، ليدركَها أهلُ الضَّعْفِ وأهلُ الفُتُورِ فِي العملِ منَّا، مِنَّةً ورحمةً.
          قال سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: مَعنَى ((شَدَّ المِئْزَرَ)) هُنَا: لم يَقْرَبِ النِّسَاءَ، وهُوَ مِنْ ألطفِ الكِنَايَاتِ، قُلْتُ: قَدْ أسلفنا في قولِه: (أَيْقَظَ أَهْلَهُ) مِنَ الفقهِ: أنَّ لِلرَّجُلِ أن يحُضَّ أهلَه عَلَى عَمَلِ النَّوَافِلِ، ويأمرَهم بغيرِ الفرائضِ مِنْ أعمالِ البِرِّ ويَحْمِلَهم عَلَيْهَا، وقَدْ رَوَى ابنُ أَبِي عَاصِمٍ مِنْ حَدِيْثِ ابنِ عَبَّاسٍ: أنَّه ◙ كَانَ يَرُشُّ عَلَى أهلِه الماءَ ليلةَ ثلاثٍ وعِشرِينَ.
          والمِئْزَرُ والإِزَارُ: مَا ائتَزَرَ الرَّجُلُ بِهِ مِنْ أسفلِه، وهُوَ يُذَكَّرُ ويُؤَنَّثُ / وهُوَ هُنَا كنايةٌ عَنِ الجِدِّ والتَّشْمِيرِ فِي العبادةِ.
          ونَقَلَ القُرْطُبِيُّ عَنْ بَعْضِ أئمَّتِهم أنَّه عبارةٌ عَنِ الاعتكافِ ثُمَّ اسْتَبْعَدَهُ، لِقَوْلِهِ: (أَيْقَظَ أَهْلَهُ) فإنَّه يَدُلُّ عَلَى أنَّه كَانَ معهم فِي البيتِ وهُوَ كَانَ فِي حَالِ اعتكافِه فِي المسجدِ، ومَا كَانَ يخرجُ مِنْهُ إلَّا لحاجةِ الإنسانِ، عَلَى أنَّه يصحُّ أنْ يُوقِظَهُنَّ مِنْ مَوْضِعِهِ مِنْ بابِ الخَوخَةِ الَّتِي كَانَتْ لَهُ في بيتِه فِي المسجدِ. قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَمْرُه بِهِ، أو يوقِظَ المعتَكِفَةَ مَعَهُ فِي المسجد، أو إِذَا دَخَلَ البيتَ لحَاجَتِهِ.
          وقولُه: (وَأَحْيَا لَيْلَهُ) يَعْنِي: باجتهادِه فِي العَشْرِ الأخيرِ مِنْ رَمَضَانَ، لاحتمالِ أَنْ يَكُوْنَ الشَّهرُ إمَّا ناقصًا وإمَّا تَامًّا، فإذا أَحيَا لياليَه كلَّها لم يَفُتْهُ مِنْهَا شَفْعٌ ولَا وَتْرٌ، وقِيْلَ: لأنَّ العَشْرَ آخِرُ العَمَلِ فينبغي أنْ يَحرِصَ عَلَى تجويدِ الخاتمةِ.