شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما يجوز من اللو

          ░9▒ بَابُ: مَا يَجُوزُ مِنَ اللَّوْ. وَقَوْلِهِ تعالى: {لَوْ أَنَّ لي بِكُمْ قُوَّةً}[هود:80].
          فيهِ: ابنُ عَبَّاسٍ، ذَكَرَ المُتَلاعِنَيْنِ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ شَدَّادٍ: هِيَ الَّتي قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا امْرَأَةً مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ) قَالَ: لَا، تِلْكَ امْرَأَةٌ أَعْلَنَتْ. [خ¦7238]
          وفيهِ: ابنُ عَبَّاسٍ: (أَعْتَمَ النَّبيُّ صلعم بِالعِشَاءِ، فَخَرَجَ عُمَرُ، فَقَالَ: الصَّلاةَ يَا رَسُولَ اللهِ، رَقَدَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَخَرَجَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ، يَقُولُ: لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأمَرْتُهُمْ بِالصَّلَاةِ هَذِهِ السَّاعَةَ). [خ¦7239]
          وفيهِ: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ: (لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأمَرْتُهُمْ(1) بِالسِّوَاكِ). [خ¦7240]
          وفيهِ: أَنَسٌ: (وَاصَلَ النَّبيُّ صلعم آخِرَ الشَّهْرِ، وَوَاصَلَ نَاسٌ مِنَ النَّاسِ، فَبَلَغَ النَّبيَّ صلعم، فَقَالَ(2): لَوْ مُدَّ في الشَّهْرِ لَوَاصَلْتُ وِصَالًا يَدَعُ المُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ. الحديثَ(3). وَقَالَ مَرَّةً: لَوْ تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُمْ، كَالْمُنَكِّلِ بِهِمْ(4)). [خ¦7241]
          وفيهِ: عَائِشَةُ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لَوْلا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالجَاهِلِيَّةِ، فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أَجْعَلَ الجَدْرَ في البَيْتِ، وَأَنْ أَلْصِقْ بَابَهُ في الأرْضِ(5)). [خ¦7242]
          وفيهِ: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ صلعم: (لَوْلا الهِجْرَةُ؛ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا، وَسَلَكَتِ الأنْصَارُ وَادِيًا أَوْ شِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأنْصَارِ أَوْ شِعْبَ الأنْصَارِ). [خ¦7244]
          وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ زَيْدٍ، مِثْلُهُ(6). [خ¦7245]
          (لو) تدلُّ عند العرب على امتناع الشَّيء لامتناع غيرِه كقولِه: لو جاءني زَيْدٌ لأكرمتك. معناه: أنَّي امتنعت مِن كرامتك لامتناع زَيْدٍ مِن المجيء.
          وقولُه: {لَوْ أَنَّ لي بِكُمْ قُوَّةً}[هود:80]جواب لو محذوفٌ كأنَّه قال: لحلت بينكم وبين ما جئتم له مِن الفساد، وحذفُه أبلغ، لأنَّه يحصر النَّفي ضروب(7) المنع، فإن قيل: لم قال: {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيْدٍ}[هود:80]مع أنَّه يأوي إلى الله ╡؟ فالجواب: أنَّه إنَّما أراد العِدَّةَ مِن الرِّجال، وإلَّا فله ركنٌ وثيقٌ مع معونة الله ونصرُه، وتضمَّنت(8) الآية البيان عمَّا يوجبُه حال المحقِّ إذا رأى منكرًا لا يمكنُه إزالتُه مع التَّحسُّر على قوَّةٍ أو معينٍ على دفعِه لحرصِه على طاعة ربِّه، وجزعِه مِن معصيتِه، فامتنع مِن الانتقام مِن قومه لامتناع مَن يعينُه على ذلك.
          وقولُه صلعم: (لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا امْرَأَةً بغَيْرِ(9) بَيِّنَةٍ) امتنع مِن رجم المرأة لامتناع وجود البيِّنة، وكذلك امتنع مِن معاقبتِهم بالوصال لامتناع امتداد الشَّهر، ومثله: ((لَو سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ)) قال المُهَلَّبُ: وإنَّما قال ذلك النَّبيُّ صلعم للأنصار تأنيسًا لهم ليغبطَهم بحالِهم، وأنَّها مرضيَّةٌ عندَه وعند ربِّهم، لكنَّه أعلمَهم بأنَّه امتنع مِن أن يساويهم في حالهم لوجود الهجرة الَّتي لا يمكنُه تركُها. وسائر ما في الباب مِن الأحاديث، فإنَّها بلفظ لولا الَّتي تدلُّ على امتناع الشِّيء لوجود غيرِه كقولِه: (لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالصَّلَاةِ هَذِهِ السَّاعَةَ)، و(لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ) فامتنع(10) مِن أمرِهم بذلك لوجود المشقَّة بهم عند امتثالِهم أمرَه.
          وقولُه: (لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيْثٌ عَهْدُهُمْ بِالكُفْرِ(11) فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوْبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الجُدْرَ فِي البَيْتِ) فامتنع صلعم مِن هدم البيت وبنيانِه على قواعد إبراهيمَ مِن أجل الإنكار الحاصل لذلك.
          قال الطَّبَرِيُّ: فإن قال قائلٌ: فقد روى ابنُ عُيَيْنَةَ عن ابنِ عَجْلَانَ عن الأَعْرَجِ عن أبي هريرةَ أَنَّ النَّبيَّ صلعم قال: ((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، واسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ، فَإِنْ أَصَابَكَ شَيءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قَدَّرَ اللهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ مِفْتَاحُ الشَّيْطَانِ)). فنهى عن لو في هذا الحديث، وهذا(12) معارضٌ لما جاء مِن إباحة لو في كتاب الله ╡ وفي الأحاديث المرويَّة في ذلك.
          قيل له: لا تعارض بين شيءٍ مِن ذلك، ولكلٍّ وجهٌ ومعنًى غير معنى صاحبِه؛ فأمَّا نهيُه عن اللو في حديث ابنِ عَجْلَانَ فمعناه: لا تقل أنِّي لو فعلت كذا لكان كذا على القضاء والحتم، فإنَّه كائنٌ لا محالة، فأنت غير مضمرٍ في نفسك شرط مشيئة الله، هذا الَّذي نهى عنه، لأنَّه قد سبق في علم الله تعالى كلُّ ما ينالُه المرء(13). قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ في الأَرْضِ وَلَا في أَنفُسِكُمْ إِلَّا في كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا}[الحديد:22]. /
          فأمَّا إذا كان قائلُه ممَّن يوقن بأنَّ الشَّرط إذا وجد لم يكن المشروط إلَّا بمشيئة الله وإرادتِه فذلك هو الصَّحيح مِن القول، وقد قال أبو بَكْرٍ الصِّدِّيْقُ ☺ للنَّبيِّ صلعم وهو في الغار: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ رَفَعَ قَدَمَهُ أَبْصَرَنَا. فقَالَ: ((يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ باثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا)) ولم يُنكر ذلك عليه صلعم، إذ كان عالمًا بمخرج كلامِه، وأنَّه إنَّما قال ذلك على ما جرت به العادة، واستعملَه النَّاس على ما الأغلب كونُه عند وقوع السَّبب الَّذي ذكرَه، وإن كان(14) قد كان جائزٌ أن يرفع جميع المشركين الَّذين كانوا فوق الغار أقدامَهم ثمَّ ينظروا فيحجب الله تعالى أبصارَهم عن رسولِه صلعم وعن صاحبِه فلا يراهما منهم أحدٌ(15)، وكان جائزٌ أن يُحْدِثَ اللهُ تعالى عمًى في أبصارِهم فلا يبصرونهما، مع أسبابٍ غير ذلك كثيرةٍ، وأنَّ أبا بَكْرٍ لم يقل ذلك إلَّا على إيمانٍ منه بأنَّهم لو رفعوا أقدامَهم لم يُبصروا رَسُولَ اللهِ صلعم إلَّا أن يشاء الله ذلك، فهذا مُفَسِّرًا لحديث ابنِ عَجْلَانَ ونافٍ للتَّعارض في ذلك، والله الموفِّق.


[1] قوله: ((بالصلاة هذه الساعة... أمتي لأمرتهم)) ليس في (ص).
[2] زاد في (ص): ((النَّبيُّ)).
[3] قوله: ((الحديث)) ليس في (ت) و (ص).
[4] في (ت) و (ص): ((لهم)).
[5] في (ت) و (ص): ((بالأرض)).
[6] قوله: ((وعن عبد الله بن زيد، مثله)) ليس في (ت) و(ص).
[7] في (ص): ((بضروب)).
[8] في (ت): ((تضمَّنت)).
[9] قوله: ((امرأة)) ليس في (ت).
[10] قوله: ((من الأحاديث فإنَّها...كُلِّ صَلَاةٍ فامتنع)) ليس في (ت) و(ص).
[11] لفظ الحديث: ((بالجاهليَّة)).
[12] في (ت) و(ص): ((هذا)).
[13] قوله: ((المرء)) ليس في (ص).
[14] قوله: ((كان)) ليس في (ت) و(ص).
[15] قوله: ((أحد)) ليس في (ت) وفي (ص): ((ولا تراهم أعينهم)).