شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب النحر قبل الحلق في الحصر

          ░3▒ باب: النَّحْرِ قَبْلَ الْحَلْقِ في الْمَحَصْرِ
          فيه: الْمِسْوَرُ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ). [خ¦1811]
          وقالَ: ابْنُ عُمَرَ: (خَرَجْنَا مَعَ النَّبيِّ صلعم مُعْتَمِرِينَ، فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ دُونَ الْبَيْتِ، فَنَحَرَ النَّبيُّ صلعم بُدْنَهُ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ). [خ¦1812]
          قال ابن المنذر: النَّحر قبل الحلق للمحصر وغيره من ظاهر كتاب الله قال الله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}[البقرة:196]إلَّا أنَّ سنَّة المحصر أن ينحر هديه حيث أُحصِر، وإن كان في الحلِّ؛ اقتداءً بما فعل النَّبيُّ صلعم في الحديث، قال الله تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ}[الفتح:25]أي: محبوسًا، ولمَّا سقط عنه ◙ أن يبلغ محلَّه سقط من هديه، وأمَّا قوله: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ}[المائدة:95]وقوله: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}[الحج:33]فقد ذكرنا قبل هذا أنَّ المخاطب به الآمن الذي يجد السَّبيل إلى الوصول إلى البيت والله أعلم، وليس للمحصَر بعدوٍّ أن يفعل شيئًا ممَّا يحرم على المحرمين حتَّى ينحر هديه، كما فعل النَّبيُّ صلعم، فإن فعل شيئًا من ذلك فعليه الفدية، استدلالًا بأن النَّبيَّ صلعم أمر كعب بن عجرة بالفدية لمَّا حلق، وهذا قول مالك والشَّافعيِّ.
          قال الطَّحاويُّ: واختلفوا في المحصَر إذا نحر هديه، هل يحلق رأسه أم لا؟ فقال قوم: ليس عليه أن يحلق؛ لأنَّه قد ذهب عنه النُّسك كلُّه. هذا قول أبي حنيفة ومحمَّد، وقال آخرون: بل يحلق؛ فإن لم يحلق فلا شيء عليه. هذا قول أبي يوسف.
          وقال آخرون: يحلق ويجب عليه ما يجب على الحاجِّ والمعتمر، وهو قول مالك، فكان من حجَّة أبي حنيفة في ذلك أنَّه قد سقط عنه بالإحصار جميع مناسك الحجِّ من الطَّواف والسَعي بين الصَّفا والمروة، وذلك ممَّا يحلُّ به المحرم من إحرامه، ألا ترى أنَّه إذا طاف بالبيت يوم النَّحر حلَّ له أن يحلق، فيحلُّ له بذلك الطِّيب واللِّباس، فلمَّا كان ذلك ممَّا يفعله حين يحلُّ فسقط ذلك عنه بالإحصار سقط عنه سائر ما يحلُّ به المحرم بسبب الإحصار.
          وكان من حجَّة الآخرين عليهم في ذلك أنَّ تلك الأشياء من الطَّواف بالبيت والسَّعي بين الصَّفا والمروة ورمي الجمار قد صُدَّ عنه المحرم، وحيل بينه وبينه، فسقط عنه أن يفعله، والحلق لم يحل بينه وبينه، وهو قادر على فعله، فما كان يصل إلى فعله فحكمه فيه في حال الإحصار كحكمه فيه في غير حال الإحصار، وما لا يستطيع أن يفعله في حال الإحصار فهو الذي يسقط عنه، وقد ثبت عنه ◙ أنَّه حلق حين صُدَّ في حديث ابن عمر والمسور، وليس لأحد قياس مع وجود السُّنَّة الثَّابتة.
          وقد دعا رسول الله للمحلِّقين يوم الحديبية ثلاث مرات، ودعا للمقصِّرين مرَّةً واحدةً، فقيل له: يا رسول الله، لم ظاهرت التَّرحُّم على المحلِّقين؟! قال: ((لأنَّهم لم يَشْكُّوا)) فثبت بتفضيل رسول الله من حلق على من قصَّر أنَّه قد كان عليهم الحلق والتَّقصير، كما يكون عليهم لو وصلوا إلى البيت، ولولا ذلك لما كانوا فيه إلَّا سواء، ولا كان لبعضهم في ذلك فضيلة على بعض، فبان أنَّ حكم الحلق والتَّقصير لا يزول بالإحصار.