شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا أحصر المعتمر

          ░1▒ باب: إِذَا أُحْصِرَ الْمُعْتَمِرُ
          فيه: ابْنُ عُمَرَ: (أنَّهُ خَرَجَ مُعْتَمِرًا في الْفِتْنَةِ، فَقَالَ: إِنْ صُدِدْتُ عَنِ الْبَيْتِ صَنَعْنَا كَمَا صَنَعْنَا مَعَ النَّبيِّ صلعم فَأَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مِنْ أَجْلِ أَنَّ النَّبيَّ صلعم كَانَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ). [خ¦1806]
          وقال أيضًا: (خَرَجْنَا مَعَ النَّبيِّ صلعم فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ دُونَ الْبَيْتِ، فَنَحَرَ النَّبيُّ صلعم هَدْيَهُ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ عُمْرَةَ إِنْ شَاءَ اللهُ، أَنْطَلِقُ فَإِنْ خُلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْبَيْتِ طُفْتُ، وَإِنْ حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَعَلْتُ كَمَا فَعَلَ النَّبيُّ ◙، فَأَهَلَّ بِعُمْرَةِ مِنْ ذي الْحُلَيْفَةِ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، فَقَالَ: إِنَّمَا شَأْنُهُمَا وَاحِدٌ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ حَجَّةً مَعَ عُمْرَتِي، فَلَمْ يَحِلَّ مِنْهُمَا حَتَّى يَوْمَ النَّحْرِ وَأَهْدَى، وَكَانَ يَقُولُ لا يَحِلُّ حَتَّى يَطُوفَ طَوَافًا وَاحِدًا يَوْمَ يَدْخُلُ مَكَّةَ). [خ¦1807]
          وفيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: (قَدْ أُحْصِرَ الرَّسُولُ صلعم فَحَلَقَ وحَلَّ مع نِسَائِهِ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ، حَتَّى اعْتَمَرَ عَامًا قَابِلًا عِوَضَهُ). [خ¦1809]
          في هذه التَّرجمة: رَدُّ قول من يقول أنَّ من أحصر في العمرة بعدوٍّ أنَّه لابدَّ له من الوصال إلى البيت والاعتمار؛ لأنَّ السَّنَةَ كُلَّها وقت للعمرة بخلاف الحجِّ، ولا إحصار في العمرة، ويقيم على إحرامه أبدًا، وهو قول لبعض السَّلف، وهو مخالف لفعل الرَّسول؛ لأنَّه كان مُعْتمرًا بالحديبية وهو وجميع أصحابه حَلُّوا دون البيت، والفقهاء على خلافه، حكم الإحصار في الحجِّ والعمرة عندهم سواء.
          واختلف فيمن أحصر بعدوٍّ، فقال مالك والشَّافعيُّ: لا حصر إلَّا حصر العدوِّ. وهو قول ابن عبَّاسٍ وابن عمر، ومعنى ذلك أنَّه لا يحلُّ للمحصر أن يحلَّ دون البيت إلَّا من حَصَره العدوِّ، كما فعل النَّبيُّ، وكان حصره بالعدوُّ، واحتجَّ الشَّافعيُّ فقال: على النَّاس إتمام الحجِّ والعمرة، ورخَّص الله في الإحلال للمحصر بعدوٍّ، فقلنا في كُلٍّ بأَمْر الله، ولم نَعْدُ بالرُّخصة موضعها، كما لم نَعْدُ بالرُّخصة المسح على الخفَّين، ولم نجعل عمامة ولا قفَّازين قياسًا على الخفِّين.
          وخالف الشَّافعيُّ مالكًا فأوجب عليه الهدي، ينحره في المكان الذي حُصر فيه وقد حَلَّ، كما فعل النَّبيُّ صلعم بالحديبية، وهو قول أشهب، وقال أبو حنيفة: الهدي واجبٌ عليه أن ينحره في الحرم وقد حَلَّ.
          واحتجُّوا بإيجاب الهدي عليه بقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}[البقرة:196]الآية فأجابهم الكوفيُّون أنَّ هذا إحصار مرض، ولو كان إحصار عدوٍّ لم يكن في نحر أهل الحديبية حجَّة؛ لأنَّ ما كان معهم من الهدي لم يكونوا ساقوه لما عرض لهم من حصر العدوِّ؛ لأنَّ الرَّسول صلعم لم يعلم حين قلَّده أنَّه يُصَدُّ، وإنَّما ساقه تطوُّعًا، فلمَّا صُدَّ أخبر الله تعالى عن صدِّهم وحبسهم الهدي عن بلوغ محلِّه، وكيف يجوز أن ينوب هدي قد ساقه ◙ قبل أن يُصَدَّ عن دم وجب بالصَّدِّ، ولم يأمرهم ◙ بدمٍ لحصرهم، قاله جابر بن عبد الله، ولو وجب عليهم الهدي لأمرهم به كما أمرهم بالحلق الذي وجب عليهم، فكيف يُنقل الحلق ولا يُنقل إيجاب الهدي، وهو يحتاج إلى بيان من معه هدي ما حكمه؟ ومن لا هدي معه ما حكمه؟
          وأمَّا قول أبي حنيفة: ينحره في الحرم، فقوله تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ}[الفتح:25]يدلُّ أنَّ التَّقصير عن بلوغ المحلِّ سواء كان ذلك في الحلِّ أو الحرم اسم التَّقصير واقع عليه إذا لم يبلغ مكَّة؛ لقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ}[المائدة:95] / وقول ابن عمر: (إنَّما شَأنُهُما واحِدٌ) يعني: الحجَّ والعمرة في اجتناب ما يجتنبه المحرم بالحجِّ وفي العمل لهما؛ لأنَّ طوافًا واحدًا وسعيًا واحدًا يجزئ القارن عنده.
          واختلفوا فيمن أحصر بمرض، فقال مالك: لا يجوز لمن أحصر بمرض أن يحلَّ دون البيت بالطَّواف والسَّعي الذي هو عمل العمرة، ثمَّ عليه حجَّ قابل والهدي. وهو قول الشَّافعيِّ وأحمد وإسحاق، وروي عن ابن عمر وابن عبَّاسٍ.
          وقال أبو حنيفة: المحصر بالمرض الذي حيل بينه وبين البيت، وحكمه حكم المحصر بالعدوِّ، فعليه أن يبعث بهديه إلى الحرم، فإذا عَلم أنَّه قد نُحر عنه حَلَّ في مكانه من غير عمل عَمْرة، وإنَّما لم يَرَ عليه عَمْرة؛ لأنَّه محرم، والعمرة تحتاج إلى إحرام مستأنف، ولا يدخل إحرام على إحرام. وهو قول النَّخَعِيِّ وعطاء والثَّوريِّ.
          واحتجُّوا بحديث الحجَّاج بن أبي عثمان الصَّواف، عن يحيى بن أبي كثيرٍ قال: حدَّثنا عِكْرِمَة قال: حدَّثني الحجَّاج بن عَمْرٍو قال: سمعت النَّبيَّ صلعم يقول: ((من كُسر أو عرج فقد حَلَّ)) يحتمل أن يكون معناه: فقد حلَّ له أن يحلَّ إذا نحر الهدي في الحرم، لا على أنَّه قد حَلَّ بذلك من إحرامه، كما يقال: حَلَّتْ فلانة للرَّجل، إذا خرجت من عدَّتها، ليس على معنى أنَّها قد حلَّت للأزواج، فيكون لهم وطؤها، ولكن على معنى أنَّهم قد حلَّ لهم تزويجها، فيحلُّ لهم حينئذٍ وطؤها.
          هذا سائغ في الكلام، وهذا يوافق معنى حديث ابن عمر أنَّ النَّبيَّ صلعم لم يحلَّ من عمرته بحصر العدوِّ إيَّاه حتَّى نحر الهدي، ومعنى هذا الحديث عند أهل المقالة الأولى ((فَقد حلَّ)) يعني: إذا وصل البيت فطاف وسعى، حلًّا كاملًا، وحَلَّ له بنفس الكسر والعرج أن يفعل ما شاء من إلقاء التَّفث ويفتدي، وليس للصَّحيح أن يفعل ذلك.
          فقال التَّرمذيُّ: سألت البخاريَّ عن هذا الحديث فقال: رواه عكرمة، عن عبد الله بن رافع، عن الحجاجِّ بن عَمْرو، عن النَّبيِّ صلعم وهو يروى(1) عن عِكْرِمَة، عن الحجَّاج.
          قال إسماعيل بن إسحاق: وهذا إسناد(2) صالح من أسانيد الشُّيوخ، ولكن أحاديث الثِّقات تضعِّفه.
          وذلك ما حدَّثنا سليمان بن حرب، حدَّثنا حماد بن زيد، عن أيُّوب، عن أبي قِلابة قال: خرجت معتمرًا حتَّى إذا كنت بالدَّثِينَة وقعت عن راحلتي فانكسرت، فأرسلت إلى ابن عبَّاسٍ وابن عمر أسألهما فقالا: ليس لها وقت كوقت الحجِّ، يكون على إحرامه حتَّى يصل إلى البيت.
          وحدَّثنا عليٌّ، حدَّثنا سفيان قال عَمْرو: أخبرني ابن عبَّاسٍ قال: لا حصر إلَّا حصر العدوِّ. ورواه ابن جُريج ومعمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عبَّاسٍ.
          قال إسماعيل: فقد بان بما رواه الثِّقات عن ابن عبَّاس في هذا الباب أنَّه خلاف لما رواه حجَّاج الصَّواف عن يحيى بن أبي كثيرٍ؛ لأنَّ ابن عبَّاس حصر الحصر بالعدوِّ دون غيره، فبان أنَّ مذهبه كمذهب ابن عمر.
          قال غيره: من الحجَّة لمالك في أنَّ المحصر بمرض لا يحلُّه إلَّا البيت قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ}[الفتح:25]فأعلمنا تعالى أنَّهم حبسوا الهدي عن بلوغ محلِّه، فينبغي أن يكون بلوغ محلُّه شرطًا فيه مع القدرة عليه، وأمَّا قوله: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ}[المائدة:95]وقوله: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}[الحج:33]. فالمخاطب بذلك: الآمن الذي يجد السَّبيل إلى الوصول إلى البيت، والمريض آمن يمكنه ذلك، وقول الكوفيِّين ضعيف وفيه تناقض؛ لأنَّهم لا يجيزون لمحصرٍ بعدوٍّ ولا بمرضٍ أن يحلَّ حتَّى ينحر في الحرم، وإذا أجازوا للمحصر بمرض أن يبعث هديه، ويواعد حامله يومًا ينحره فيه فيحلق ويحلُّ، أجازوا له الإحلال على غير يقين، من نحر الهدي وبلوغه فحملوه على الإحلال بالظُّنون فالعلماء متَّفقون أنَّه لا يجوز لمن لزمه فرض أن يخرج منه بالظَّنِّ، والدَّليل على أنَّ ذلك ظنٌّ قولهم أنَّه لو عطب الهدي أو ضلَّ أو سُرِقَ فحلَّ مرسله، وأصاب النِّساء وصَادَ، أنَّه يعود حرامًا، وعليه جزاء ما صاد، وأباحوا له فساد الحجِّ بالجماع، وألزموه / ما يلزم من لم يحلَّ من إحرامه، وهذا تناقض لا شكَّ فيه. واحتجَّ الكوفيُّون بحديث ابن عبَّاس وقوله: (حتَّى اعتمر عامًا قابلًا).
          في وجوب قضاء الحجِّ والعمرة على من أحصر في أحدهما بعدوٍّ.
          وقال أهل الحجاز: معنى قوله: (حتَّى اعتمرَ عامًا قابِلًا) هو ما عقده معهم في صلح الحديبية ألَّا يمنعوه البيت عامًا قابلًا، ولا يحال بينهم وبينه، فإمَّا أن يكون ما فعلوه من العُمَر قضاء عن عمرة الحديبية، ففيه التَّنازع فيحتاج إلى دليل، وسيأتي ما للعلماء في ذلك في باب: من قال ليس على المحصر بدل إن شاء الله. [خ¦1813] وقول ابن عبَّاس: (قَد أُحصِرَ رسولُ اللهِ) حجَّة على من قال: لا يقال: أحصره العدوُّ، وإنَّما يقال: حصره العدوُّ، وأحصره المرض، واحتجَّ بقول ابن عبَّاسٍ: لا حصر إلَّا حصر العدوِّ. واحتجَّ به ابن القصَّار، فيقال له: هذا ابن عبَّاس قد قال: (أحصِرَ رسولُ اللهِ صلعم) وأجمع المسلمون أنَّ النَّبيَّ صلعم لم يُحصر بمرض، وإنَّما أحصر بعدوٍ عام الحديبية، فثبت أنَّه قال: حصره العدوُّ، وأحصره القتال، وقوله: (أشهِدُكُم أنِّي قد أوجَبتُ حَجَّةً مَعَ عُمرَتي) فهو حجَّة لمن قال: إنَّ الحجَّ يرتدف على العمرة.
          روى معمر عن منصور، عن مالك بن الحارث قال: ((لقيت عليًّا وقد أهللت بالحجِّ، فقلت له: هل أستطيع أن أضيف مع حجَّتي عُمْرة؟ قال: لا، ذلك لو كنت بدأت بالعمرة ضممت إليها حجًّا)). وهذا قول مالك وأبي حنيفة، قالا: ويصير قارنًا.
          قال مالك: ولا تدخل العمرة على الحجِّ، وهو قول أبي ثور وإسحاق، وقال الكوفيُّون: يجوز ذلك ويصير قارنًا. وقال الشَّافعيُّ بالعراق كقول الكوفيِّ، وقال بمصر: أكثر من لقيت يقول لي: ليس له ذلك.
          قال ابن المنذر: والحجَّة لقول مالك أنَّ أصل الأعمال ألَّا يدخل عمل على عمل، ولا صلاة على صلاة، ولا صوم على صوم، ولا حجَّ على حجٍّ، ولا عُمْرة على عُمْرة، إلَّا ما خصَّت السُّنَّة من إدخال الحجِّ على العمرة، وعلى أنَّ الذي يحرم بعمرة إذا ضمَّ إليها حجًّا، فقد ضمَّ إلى العمل الذي كان دخل فيه وألزمه نفسه أعمالًا لم تكن لزمته حين أحرم بالعمرة، مثل: الخروج إلى منى، والوقوف بالموقفين، ورمي الجمار، والمقام بمنى، وغير ذلك من أعمال الحجِّ، والذي يضمُّ إلى الحجِّ عمرة لم يضمَّ إليها عملًا؛ لأنَّ عمل المنفرد والقارن واحد، والذي يعتمد عليه في هذا الباب السُّنَّة وإجماع الأمَّة.


[1] في (ص): ((يرويه))والمثبت من المطبوع.
[2] في (ص): ((أشياخ)) والمثبت من المطبوع.