شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الإحصار في الحج

          ░2▒ باب: الإحْصَارِ في الْحَجِّ
          فيه: ابْنُ عُمَرَ(1): (أَلَيْسَ حَسْبُكُمْ سُنَّةَ رَسُولِ اللهِ صلعم إِنْ حُبِسَ أَحَدُكُمْ عَنِ الْحَجِّ طَافَ بِالْبَيْتِ وَبِينَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَحُجَّ عَامًا قَابِلا، فَيُهْدِي أَوْ يَصُومُ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا). [خ¦1810]
          واحتجَّ ابن عمر فيمن أحصر في الحجِّ أنَّه يلزمه ما يلزم من أحصر في العمرة، وحكم الحجِّ والعمرة في الإحصاء سواء، وقاس الحجَّ على العمرة، والنَّبيُّ صلعم لم يحصر في حجٍّ، إنَّما حصر في عُمْرة، هذا أصل في إثبات القياس لاستعمال الصَّحابة له وقوله: (طَافَ بِالبيتِ) يعني: فيطوف بالبيت وبين الصَّفا والمروة، ثمَّ يحلُّ ويكون محصرًا بمكَّة.
          واختلف العلماء فيمن أحصر بمكَّة، فقال الشَّافعيُّ وأبو ثور: حكم الغريب والمكِّيِّ سواء، ويطوف ويسعى ويحلُّ، ولا عُمْرة عليه على ظاهر حديث ابن عمر. وأوجبها مالك على المحصر المكِّيِّ، وعلى من أنشأ الحجَّ من مكَّة، وقال: لابدَّ لهم من الخروج إلى الحلِّ لاستئناف عُمْرة التَّحلُّل؛ لأنَّ الطَّواف الأوَّل لم يكن نواهُ للعمرة، فلذلك يعمل بهذا.
          وفرق بين هؤلاء وبين الغريب يدخل من الحلِّ محرمًا فيطوف ويسعى، ثمَّ يحصره العدوُّ عن الوقوف بعرفة، أنَّه لا يحتاج إلى الخروج إلى حلٍّ؛ / لأنَّه منه دخل ولم يحلَّ من إحرامه فيتحلَّل بعمرة يُنْشِئُها من مكَّة، قال أبو حنيفة: لا يكون مُحْصَرًا من بلغ مكَّة؛ لأنَّ الإحصار عنده من مُنع من الوصول إلى مكَّة، وحِيل بينه وبين الطَّواف والسَعي، فيفعل ما فعل النَّبيُّ صلعم من الإحلال بموضعه.
          وأمَّا من بلغ مكَّة فحكمه عنده حكم من فاته الحجُّ، يحلُّ بعمرة وعليه الحجُّ من قابل، ولا هدي عليه؛ لأنَّ الهدي لجبر ما أدخله على نفسه، ومن حُبس عن الحجِّ فلم يدخل على نفسه نقصًا.
          وقال الزُّهريُّ: إذا أحصر المكِّيُّ فلابدَّ له من الوقوف بعرفة وإن تَعَسَّ بِعَساء(2)، وفي حديث ابن عمر ردٌّ على ابن شهابٍ؛ لأنَّ المحصر لو وقف بعرفة لم يكن محصرًا؛ ألا ترى قول ابن عمر: فطاف بالبيت وبين الصَّفا والمروة، ولم يذكر الوقوف بعرفة، وفيه أيضًا رَدُّ قول أبي حنيفة أنَّ من كان بمكَّة لا يكون محصرًا، وقد استدلَّ ابن عمر على أنَّه يكون محصرًا بقوله: (أليسَ حَسبُكُم سنَّةَ رَسُولِ الله إِنْ حُبِسَ أَحَدُكُم عَنِ الحَجِّ) والحبس عن الحجِّ هو الإحصار عند أهل اللُّغة، وقول ابن عمر: (ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيءٍ حتَّى يحجَّ عامًا قابلًا ويُهدي هَديًا) معناه عند الحجازيِّين: إن كان صُدَّ ومرض(3)، ومعنى الهدي للمصدود إذا قضى الحجَّ إنَّما هو من أجل وقوع الحجِّ الذي كان يقع له في سفرٍ واحدٍ في سفرين، وكذلك معنى هدي الإحصار بمرض.


[1] في (ص): ((ابن عباس)) والمثبت من المطبوع.
[2] كذا في (ص) والمطبوع، وفي عمدة القاري: ((وإن تعسر بعشي)) وفي الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: ((وإن نعش نعشًا)) وشرحه العبارة بأنه يحضر المشاهد وإن نعش نعشا لقرب المسافة، ولعله الصواب.
[3] كذا ترجحت قراءتنا لها في (ص)، وبيض لها في المطبوع. وفي التوضيح: ((إن كان ضرورة ومعنى الهدي للضرورة)).