عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب ما يجوز من الاشتراط والثنيا في الإقرار
  
              

          ░18▒ (ص) بابُ مَا يَجُوزُ مِنَ الاِشْتِرَاطِ وَالثُّنْيَا فِي الإِقْرَارِ، وَالشُّرُوطِ الَّتِي يَتَعَارَفُهَا النَّاسُ بَيْنَهُمْ، وَإِذَا قَالَ: مِئَةٌ إِلَّا وَاحِدَةً أَوِ اثنَتَيْنِ.
          (ش) أَي: هَذَا بابٌ فِي بيانِ ما يَجوز مِنَ الاشْتِرَاطِ، وقال ابن بَطَّالٍ: وقع فِي بعض النُّسَخ: <باب ما لا يجوز فِي الاشتراط والثُّنْيَا> قال: وهو خطأ، والصواب: «باب ما يجوز» وَالْحَدِيث الَّذِي ذكره البُخَاريُّ بَعْدُ يدلُّ على صِحَّتِهِ.
          قَوْلُهُ: (وَالثُّنْيَا) بِضَمِّ الثاء المُثَلَّثة وسُكون النُّون بَعْدَهَا يَاء آخِرَ الْحُرُوف، مَقْصُورٌ؛ أَي: الاستثناء فِي الإقرار، سَوَاءٌ كَانَ اسْتِثْنَاء قليلٍ مِن كَثِيرٍ، أو بالعَكْسِ، فالأَوَّل لَا خِلَافَ فِيهِ أنَّهُ يَجُوز، والثاني مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
          وحَدِيثُ البابِ يَدلُّ عَلَى جَوَاز اسْتِثْنَاءِ القَليِل مِن الكَثِير، وَهَذَا جائزٌ عِنْدَ أهل اللغة والفقه وَالْحَدِيث، قال الداوديُّ: أجمعوا أنَّ مَن اسْتَثْنَى فِي إِقْرَارِهِ مَا بَقِيَ بَعْدهُ بَقِيَّة ما أَقَرَّ بِهِ أَنَّ لَهُ ثُنْيَاهُ، فَإِذَا قال لَهُ: عَلَيَّ أَلْفٌ إِلَّا تُسْعُ مِئَة وَتِسْعَة وتِسْعَيْنَ، صَحَّ ولَزِمَهُ وَاحِدٌ، قال: وكذلك لو قال: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاثةً إلَّا اثنتين؛ لِقَوْله تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا}[العنكبوت:14]، قال ابن التِّينِ: وَهَذَا الَّذِي ذكَرَهُ الداوديُّ أنَّهُ إِجْماعٌ ليْسَ كذلك، ولكن هو مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وذكر الشَّيْخ أبو الْحَسَن قولًا ثالثًا فِي قوله: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاثًا إِلَّا ثِنْتَيْنِ؛ أنَّهُ يَلْزَمُهُ ثَلاثٌ، وذكر القاضي في «مَعُونته» عَن عبد الملك وغيره أنَّهُ يقول: لا يصحُّ استثناء الأكثر، واحتجاج الداوديِّ بِهَذِهِ الآية غَيْر بَيِّنٍ، وإِنَّما الحجَّة فِي ذَلِكَ قوله تَعَالَى: {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}[الحجر:42]، وقوله: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}[الحجر:40]، فإن جعلت {الْمُخْلَصِينَ} الأكثرَ فقد استثناهم، وإن جعلت {الْغَاوِينَ} الأكثرَ؛ فقد استثناهم أَيْضًا، ولأنَّ الاستثناء إخراجٌ، فإذا جاز إخراج الأقلِّ جاز إخراجُ الأكثر، ومَذْهَبُ البَصْريِّينَ مِن أهل اللغة وابن الْمَاجِشُونَ الْمَنْعُ، وإليه ذَهَب البُخَاريُّ حيث أدخل هَذَا الْحَدِيث هنا باستثناء القليل مِنَ الكثير.
          قَوْلُهُ: (وَالشُّرُوطِ) أَي: وفي بيانِ الشُّرُوط الَّتِي يَتَعَارَفُهَا النَّاسُ بَينَهُم؛ نحو: أن يشتريَ نَعْلًا أو شِرَاكًا بِشَرْطٍ أن يَحْذُوه البائعُ، أو اشترى أَدِيمًا بشرط أن يُخْرزَ لَه خَفًّا، أو اشترى قَلَنْسُوَة بشَرط أن يُبْطِّنَهُ البائعُ، فإنَّ هَذِهِ الشروط كلُّها جائزة؛ لأَنَّهُ مُتَعَارَفٌ مُتَعَامَلٌ بيْن النَّاس، وفِيه خِلاف زُفَرَ، وَكَذا لو اشتَرى شيئًا وشرط أن يرهنه بالثمن رَهْنًا وسَمَّاهُ، أَو يعطيه كفِيلًا وسَمَّاه، والكَفِيل حاضرٌ وقَبِلَهُ، وكذلك الْحَوَالَةُ؛ جاز اسْتحسَانًا خلافًا لِزُفَر، وأَمَّا الشروط التي لا يتعارفها الناس فباطلةٌ، نحو ما إذا اشترى حِنْطَة وشرَط على البائعِ طَحْنَهَا أوْ حِمْلانَها إِلَى منْزِلِهِ، أو اشترى دارًا على أن يسْكُنَها / شَهْرًا، فإنَّ ذلك كلُّه لا يصحُّ لعدم التَّعَارُفِ وَالتَّعَامُلِ.
          قَوْلُهُ: (وَإِذَا قَالَ: مِئَةٌ إِلَّا وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ) أشار بِهَذَا على أنَّ اخْتِيَارَهُ جَوازُ استثناء القَلِيل مِن الكَثِيرِ وعَدَمُ جَوَاز عَكْسِهِ، وذكر بِهَذَا صورة استثناء القليل مِنَ الكثير؛ نحو ما إذا قال: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِئَةُ دِرْهَمٍ _مَثلًا_ إلَّا وَاحِدَةً، أو إلَّا ثِنتَينِ؛ فَإِنَّهُ يصحُّ، ويَلْزَمُه فِي قَوْله: (إِلَّا واحِدَة) تِسْعَةٌ وتِسْعُونَ دِرْهمًا، وفِي قَوْلِهِ: (إلَّا ثنتين) يَلْزَمُهُ ثَمانِيَةٌ وتُسْعُونَ درهمًا.
          (ص) وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِكَرِيِّهِ: أَدْخِلْ رِكَابَكَ، فَإِنْ لَمْ أَرْحَلْ مَعَكَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَلَكَ مِئَةُ دِرْهَمٍ، فَلَمْ يَخْرُجْ، فَقَالَ شُرَيْحٌ: مَنْ شَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ طَائِعًا غَيْرَ مُكْرَهٍ فَهْوَ عَلَيْهِ.
          (ش) (ابنُ عَوْن) هو عَبْد الله بن عَوْن بنِ أَرْطبان، البَصْريُّ، و(ابن سِيرِينَ) هو مُحَمَّد بنُ سِيرِينَ، و(شُرَيْح) هو القاضي.
          قَوْلُهُ: (لِكَرِيِّهِ) بِفَتْحِ الكاف وكَسْرِ الراء وتَشْدِيدِ الياء آخر الحروف، على وزن (فَعِيل) هُوَ الْمُكَارِي.
          قَوْلُهُ: (أَدْخِلْ) مِنَ الإِدْخَالِ، وَ(رِكَابِكَ) مَنْصُوبٌ بِهِ، و(الرِّكَابِ) بِكَسْرِ الراء: الإِبِلُ الَّتِي يُسَارُ عَلَيْهَا، وَالوَاحِدَةْ: رَاحِلَة، وَلا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا.
          قَوْلُهُ: (فَلَمْ يَخْرُجْ) أَي: لَمْ يَرْحَلْ مَعَهُ، يلزمه مِئَةُ دِرْهَمٍ عِنْدَ شُرَيْحٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: (قَالَ شُرَيْحٌ: مَنْ شَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ طَائِعًا) أيْ: حال كَوْنِهِ طَائِعًا مُخْتَارًا (غَيرَ مُكْرَهٍ) عَلَيْهِ؛ (فَهُو) أَي: الشَّرْطُ الَّذِي شَرَطه (عَلَيْهِ) أَي: يَلْزَمه، وَفِي هَذَا خَالَفَ النَّاسُ شُرَيْحًا؛ يَعْنِي: لا يلزمه شيءٌ؛ لأنَّهُ عِدَةٌ.
          وَهَذَا التعليق وَصَلهُ سَعِيد بن مَنْصُورٍ عنْ هُشَيْمٍ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ... إلى آخره.
          (ص) وَقَالَ أَيُّوبُ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: إِنَّ رَجُلًا بَاعَ طَعَامًا، وَقَالَ: إِنْ لَمْ آتِكَ الأَرْبِعَاءَ فَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بَيْعٌ، فَلَمْ يَجِئ، فَقَالَ شُرَيْحٌ لِلْمُشْتَرِي: أَنْتَ أَخْلَفْتَ، فَقَضَى عَلَيْهِ.
          (ش) (أَيُّوبُ) هو السَّخْتيَانيُّ.
          قَوْلُهُ: (الأَرْبِعَاءَ) أَي: يوم الأربعاء، وَهَذَا الشرط جائزٌ أَيْضًا عِنْدَ شُرَيْح؛ لأَنَّهُ قال للمشتري عِنْدَ التحاكم إليه: أنت أخلفت الميعاد، فقضى عليه برفع البيع، وَهَذَا أَيْضًا مَذْهَبُ أبي حَنِيفَةَ وأَحْمَد وإِسْحَاق، وقال مَالِكٌ والشَّافِعِيُّ وآخرون: يصحُّ البيع ويبطل الشرط، وَهَذَا التعليق أَيْضًا وصله سَعِيد بن منصور عَن سُفْيَان عَن أَيُّوب عَنِ ابْنِ سِيرِينَ... فذكره.