عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب: لا حمى إلا لله ولرسوله
  
              

          ░11▒ (ص) بابُ لَا حِمَى إِلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صلعم .
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان حكم قول النَّبِيِّ صلعم : «لا حِمى إلَّا لله ولرسوله»، وعقَدَ هذه الترجمة بلفظ حديثِ الباب مِن غير زيادةٍ عليه.
          و(الحِمَى) بكسر الحاء وفتح الميم بلا تنوينٍ، مقصورٌ، وفي «المغرِب»: «الحمى» موضع الكلأ يُحمى من الناس ولا يُرعى ولا يُقرَّب، وفي «الصحاح»: حميتُه حِمايةً؛ أي: دفعتُ عنه، وهذا شيءٌ حِمًى على (فَعِل) أي: محظورٌ لا يُقرَب.
          قُلْت: دلَّ هذا أنَّ لفظ (حِمَى) اسمٌ غيرُ مصدر، وهو على وزن (فِعَل) بكسر الفاء بمعنى (مَفعول) أي: مَحميٌّ محظور، هذا معناه اللُّغويُّ، ومعناه الاصطلاحيُّ: ما يَحمي الإمامُ مِنَ الموات لمواشٍ بعينها، ويُمنَعُ سائر الناس مِنَ الرعي فيها، وقال ابن الأثير: قيل: كان الشريف في الجاهليَّة إذا نزل أرضًا في حيِّه؛ استَعْوى كلبًا، فحمى مَدى عُواءِ الكلب لا يَشركه فيه غيرُه، وهو يُشارك القومَ في سائر ما يَرْعَون فيه، فنهى النَّبِيُّ صلعم عن ذلك، وأضاف الحِمى إلى الله ورسوله؛ أي: إلَّا ما يُحمَى للخيل التي تُرْصَد للجهاد، والإبل التي يُحمل عليها في سبيل الله، وإبل الزكاة وغيرها؛ كما حمى عُمَر بن الخَطَّاب ☺ النَّقيع _بالنون_ لِنَعَم الصدقة والخيل المُعدَّة في سبيل / الله.
          قيل: فيه نظرٌ؛ من حيث إنَّ الملوك والأشراف كانوا يَحمُونَ بما شاؤوا، فلم يَحكِ أحدٌ أنَّهم كانوا يحمُون بالكلب إلَّا ما نُقِل عن وائل بن ربيعة التغلبيِّ، فغلب عليه اسمُ كُلَيب؛ لأنَّه حَمَى الحِمَى بعُواء كلبٍ كان يقطع يديه ويَدَعه وسط مكانٍ يريده، فأيَّ موضع بلغ عُواؤُه لا يقربُه أحدٌ، وبسببه كانت حَرْبُ البَسوس المشهورة، وقال ابن بَطَّالٍ: أصل «الحِمَى» المنعُ؛ يعني: لا مانع لِما لا مالكَ له مِنَ الناس من أرضٍ أو كلأٍ إلَّا الله ورسولُه، قال: وذكر ابن وهب أنَّ النقيعَ الذي حماه سيِّدُنا رسول الله صلعم قدرُه مِيلٌ في ثمانية أميالٍ، و(النَّقِيع) بالنون المفتوحة والقاف المكسورة بعدها ياء آخر الحروف ساكنة وفي آخره عين مُهْمَلة، على عشرين فرسخًا مِنَ المدينة، وقيل: على عشرين مِيلًا، ومساحته بريدٌ في بريد، قال ياقوت: وهو غيرُ نَقيع الخَضِمَات الذي كان عُمَر بن الخَطَّاب ☺ حَماه، وعكس ذلك أبو عُبَيد البكريُّ، وزعم الخَطَّابيُّ أنَّ مِنَ الناس مَن يقوله بالباء المُوَحَّدة، وهو تصحيف، والأصل في (النَّقيع) أنَّهُ كلُّ موضع يُستَنقع فيه الماء، وزعم ابنُ الجوزيِّ أنَّ بعضهم ذهب إلى أنَّهما واحد، والأَوَّل أصحُّ.