عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم
  
              

          ░6▒ (ص) بَابُ قَتْلِ الْخَوَارِجِ وَالْمُلْحِدِينَ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان قتل الخوارج... إلى آخره، وهو جمع (خارجة) أي: طائفة خرجوا عن الدين، وهم قومٌ مبتدعون سُمُّوا بذلك لأنَّهم خرجوا على خيار المسلمين، وقال الشهرستانيُّ في «الملل والنحل»: كلُّ مَن خرج على الإمام الحقِّ فهو خارجيٌّ سواءٌ كان في زمن الصحابة أو بعدهم، وقال الفقهاء: الخوارج غير الباغية، وهم الذين خالفوا الإمام بتأويلٍ باطلٍ ظنًّا، والخوارج خالفوا لا بتأويلٍ أو بتأويلٍ باطلٍ قطعًا، وقيل: هم طائفةٌ مِنَ المبتدعة لهم مقالاتٌ خاصَّةٌ، مثل: تكفير العبد بالكبيرة، وجواز كون الإمام مِن غير قريشٍ، سُمُّوا به لخروجهم على الناس بمقالاتهم.
          قوله: (وَالْمُلْحِدِينَ) أي: وقتل الملحدين، وهو جمع / (ملحدٍ)، وهو العادل عن الحقِّ المائل إلى الباطل.
          قوله: (بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ) يشير البُخَاريُّ بذلك أنَّهُ لا يجب قتال خارجيِّ ولا غيره إلَّا بعد الإعذار عليه، ودعوته إلى الحقِّ، وتبيين ما التبس عليه، فإن أبى مِنَ الرجوع إلى الحقِّ وجب قتاله بدليل الآية التي ذكرها.
          (ص) وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ}[التوبة:115].
          (ش) أشار بهذه الآية الكريمة إلى أنَّ قتال الخوارج والملحدين لا يجب إلَّا بعد إقامة الحجَّة عليهم، وإظهار بطلان دلائلهم، والدليل عليه هذه الآية؛ لأنَّها تدلُّ على أنَّ الله لا يؤاخِذ عبادَه حَتَّى يبيِّن لهم ما يأتون وما يذرون، وهكذا فسَّرها الضَّحّضاك، وقال مقاتل والكلبيُّ: لمَّا أنزل الله تعالى الفرائضَ فعمل بها الناس جاء ما نسخها مِنَ القرآن، وقد مات ناسٌ وهم كانوا يعملون الأمر الأَوَّل مِنَ القبلة والخمر وأشباه ذلك، فسألوا عنه رسولَ الله صلعم فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا} يعني: وما كان الله ليبطل عمل قومٍ عملوا بالمنسوخ {حَتَّى يبيِّنَ} لهم الناسخ، وقال الثعلبيُّ: أي ما كان الله ليحكم عليكم بالضلال بعد استغفاركم للمشركين قبل أن يقدم إليكم بالنهي؛ أي: ما كان الله ليوقع الضلالة في قلوبكم بعد الهدى حَتَّى يبيِّن {لَهُمْ مَا يَتِّقُونَ} أي: ما يخافونه ويتركونه، وقال الزَّمَخْشَريُّ: المراد بـ{مَا يتَّقون} ما يجب اتِّقاؤه للنهي.
          (ص) وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ ☻ يَرَاهُمْ شِرَارَ خَلْقِ اللهِ، وَقَالَ: إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي الكفَّار فَجَعَلُوهَا فِي الْمُؤْمِنِينَ.
          (ش) مطابقة هذا الأثر للترجمة ظاهرةٌ، ووصله الطَّبَريُّ في «تهذيب الآثار» مِن طريق بُكَير بن عبد الله بن الأشجِّ أنَّهُ سأل نافعًا: كيف كان رأي ابن عمر في الحروريَّة؟ قال: كان يراهم شرار خلق الله، انطلقوا إلى آياتٍ نزلت في الكفَّار فجعلوها في المؤمنين. انتهى
          قُلْت: الحرورية هم الخوارج، وإِنَّما سُمُّوا حروريةً لأنَّهم نزلوا في موضعٍ يُسمَّى حروراء، بالمدِّ والقصر، وهو موضعٌ قريبٌ مِنَ الكوفة، وكان أَوَّل مجتمعهم وتحكيمهم فيها، وقال ابن الأثير: الحرورية طائفةٌ مِنَ الخوارج، وهم الذين قاتلهم عليُّ بن أبي طالبٍ ☺ ، وكان عندهم مَنَ التشدُّد في الدِّين ما هو معروفٌ، وكان أميرهم عبد الله بن الكوَّاء _بفتح الكاف وتشديد الواو وبالمدِّ_ اليشكُريُّ، وعدَّة الخوارج عشرون فرقةً، وقال ابن حزمٍ: وأسوؤهم حالًا الغلاة وهم الذين ينكرون الصلوات الخمس، ويقولون: الواجب صلاةٌ بالغداة وصلاةٌ بالعشيِّ، ومنهم مَن يجوِّز نكاح بنت الابن وبنت ابن الأخ والأخت، ومنهم مَن أنكر أن تكون (سورة يوسف) مِنَ القرآن، وأنَّ مَن قال: لا إله إلَّا الله، فهو مؤمنٌ عند الله ولو اعتقد الكفر بقلبه، وأقربُهم إلى قول أهل الحقِّ الإباضيَّةُ، وقد بقيت منهم بقيَّةٌ بالغرب، وقال الجَوْهَريُّ: الإباضيَّة فرقةٌ مِنَ الخوارج أصحاب عبد الله بن إباضٍ التَّيميِّ، وهو بكسر الهمزة وتخفيف الباء المُوَحَّدة وبالضاد المُعْجَمة، وهو في الأصل: الحبل الذي يُشدُّ به رسغ البعير إلى عضده حَتَّى ترتفع يده عن الأرض.
          قوله: (شِرَارَ خَلْقِ اللهِ) قال الكَرْمانيُّ: أي: شرار المسلمين؛ لأنَّ الكفَّار لا يؤوِّلون كتاب الله.
          قوله: (فَجَعَلُوهَا) أي: أوَّلوها وصيَّروها، وكان ابن عمر يكره القدريَّة أيضًا، ويراهم مِنَ الشرار، وفي «التوضيح»: عن «كتاب الإسفراينيِّ»: كان عبد الله بن عُمَر وابن عَبَّاسٍ وابن أبي أوفى وجابرٌ وأنس بن مالكٍ وأبو هُرَيْرَة وعقبة بن عامرٍ وأقرانهم ♥ يوصون إلى أخلافهم بألَّا يسلِّموا على القدريَّة ولا يعودوهم ولا يصلُّوا خلفهم ولا يصلُّوا عليهم إذا ماتوا.