عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب حكم المرتد والمرتدة
  
              

          ░2▒ (ص) بَابُ حُكْمِ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان حكم الرجل المرتدِّ وحكم المرأة المرتدِّة؛ هل حكمُهما سواءٌ أم لا؟
          (ص) وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالزُّهْريُّ وَإِبْرَاهِيمُ: تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ.
          (ش) أي: قال عبد الله (ابْنُ عُمَرَ) ومُحَمَّد بن مسلمٍ (الزُّهْريُّ) و(إِبْرَاهِيم) النَّخَعِيُّ: تُقتَل المرأة المرتدَّة، فعلى هذا لا فرقَ بين المرتدِّ والمرتدِّة، وأنَّ حكمهما سواءٌ, وأثر ابن عمر أخرجه ابن أبي شَيْبَةَ عن وكيعٍ، عن سفيان، عن عبد الكريم عمَّن سمع ابن عمر، وقال صاحب «التلويح»: يُنظَر في جزم البُخَاريِّ به على قول مَن قال: المجزوم صحيحٌ، وأثر الزُّهْريِّ وصله عبد الرَّزَّاق عن معمرٍ عن الزُّهْريِّ في المرأة تكفر بعد إسلامها قال: تُسْتَتَاب فإن تابت وإلَّا قُتِلَت، وأثر إبراهيم أخرجه عبد الرَّزَّاق أيضًا عن معمرٍ، عن سعيد بن أبي عروبة، عن أبي معشرٍ، عن إبراهيم مثله، واختلف النقلة عن إبراهيم.
          فَإِنْ قُلْتَ: أخرج ابن أبي شَيْبَةَ عن حفصٍ عن عبيدة عن إبراهيم: لا تُقتَل.
          قُلْت: عبيدة ضعيفٌ، فالأَوَّل أولى، وروى أبو حنيفة ☺ عن عاصمٍ عن أبي رزين عن ابن عَبَّاس: لا تُقتَل النساء إذا هنَّ ارتددن.
          (ص) [وَاسْتِتَابَتِهِمْ.
          (ش) كذا ذَكَر هذا بعد ذِكْر الآثار المذكورة، [وفي رواية أبي ذرٍّ ذكره قبلها، وفي رواية القابسيِّ]: <واستتابتهما> بالتثنية على الأصل؛ لأنَّ المذكور]
اثنان المرتدُّ والمرتدَّة، وأَمَّا وجه الذكر بالجمع فقال بعضهم: جُمِع على إرادة الجنس.
          قُلْت: هذا ليس بشيءٍ، بل هو على مَن يرى بإطلاق الجمع على التثنية، كما في قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}[التحريم:4] والمراد: قلباكما.
          (ص) وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ. إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ}[آل عِمْرَان:86-89]
          (ش) هذه خمس آياتٍ متوالياتٍ مِن (سورة آل عِمْرَان) في رواية أبي ذرٍّ: <قال الله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ / وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ} إلى قوله: {غَفُورٍ رَحِيمٍ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا}...> إلى آخرها، وفي رواية القابسيِّ بعد قوله: {حَقٌّ}: <إلى قوله: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْضَّالُونَ}> وساق في رواية كريمة والأصيليِّ ما حُذِفَ مِن الآية لأبي ذرٍّ، وقال ابن جريرٍ بإسناده إلى عِكْرِمَة عن ابن عَبَّاس قال: كان رجلٌ مِنَ الأنصار أسلمَ ثُمَّ ارتدَّ ويخفي الشركَ ثُمَّ ندم، فأرسل إلى قومه: أرسلوا إلى رسول الله صلعم : هل لي مِن توبةٍ؟ قال: فنزلت {كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا} إلى قوله: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فأرسل إليه قومه فأسلم، وهكذا رواه النَّسائيُّ وابن حِبَّان والحاكم مِن طريق داود بن أبي هند به، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه.
          قوله: ({وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ}) أي: قامت عليهم الحجج والبراهين على ما جاءهم به الرسول ووضَّح لهم الأمر، ثُمَّ ارتدُّوا إلى ظلمة الشرك، فكيف يستحقُّ هؤلاء الهداية بعدما تلبَّسوا به مِنَ العماية؟ ولهذا قال: ({وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْظَالِمِينَ}).
          قوله: ({خَالِدِينَ فِيهَا}) أي: في اللَّعنة.
          قوله: ({إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}...) الآية، هذا مِن لطفه ورحمته ورأفته وعادته على خلقه أنَّهُ مَن تاب إليه تاب عليه.
          قوله: ({إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا}) الآية توعُّدٌ مِنَ الله وتهدُّد لمن كفر بعد إيمانه.
          قوله: ({ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا}) يعني: استمرُّوا عليه إلى الممات لا تُقبل لهم توبةٌ عند مماتهم.
          قوله: ({أُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ}) أي: الخارجون عن منهج الحقِّ إلى الطريق الغيِّ.
          (ص) وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}[آل عِمْرَان:100].
          (ش) هذه الآية في (سورة آل عِمْرَان) أيضًا يحذِّر الله تعالى عبادَه المؤمنين عن أن يطيعوا فريقًا؛ أي: طائفةً مِن الذين أوتوا الكتاب الذين يحسدون المؤمنين على ما آتاهم مِن فضله وما منحهم به مِن إرسال رسوله، وقال عِكْرِمَة: هذه الآية نزلت في شاس بن قيسٍ اليهوديِّ، دسَّ على الأنصار مَن ذكَّرهم بالحروب التي كانت بينهم فتمادوا يقتتلون، فأتاهم النَّبِيُّ صلعم فذكَّرهم، فعرفوا أنَّها مِنَ الشيطان، فتعانق بعضهم بعضًا، ثُمَّ انصرفوا سامعين مطيعين، فنزلت، وأخرجه الطبرانيُّ مِن حديث ابن عَبَّاس موصولًا.
          (ص) وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا}[النساء:137].
          (ش) هذه الآية الكريمة في (سورة النساء) وسيقت هذه الآية كلُّها في رواية كريمة، وفي رواية أبي ذرٍّ هكذا: <{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا}... إلى {سَبِيلًا}> وفي رواية النَّسَفِيٍّ: <{ثمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا} الآية> ويخبر الله تعالى عمَّن دخل في الإيمان ثُمَّ رجع واستمرَّ على ضلاله وازداد حَتَّى مات فإنَّه لا يغفر الله له ولا يجعل له مِمَّا هو فيه فرجًا ولا مخرجًا ولا طريقًا إلى الهدى، ولهذا قال: {لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ}، وروى ابن أبي حاتمٍ مِن طريق جابرٍ الْمُعَلَّى عن عامرٍ الشعبيِّ عن عليٍّ ☺ أنَّهُ قال: يُستَتاب المرتدُّ ثلاثًا، ثُمَّ تلا هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا}... الآية.
          (ص) وَقَالَ: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}[المائدة:54].
          (ش) هذه الآية الكريمة في ا(لمائدة) ساقها بتمامها في رواية كريمة، وأوَّلها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ}... الآية، ووقع في رواية أبي ذرٍّ: {مَن يَرْتَدِدْ} بفكِّ الإدغام، وهي قراءة ابن عامرٍ ونافعٍ، ويقال: إنَّ الإدغام لغة تميمٍ، والإظهار لغة الحجاز، وقال مُحَمَّد بن كعبٍ القرظيُّ: نزلت في الولاة مِن قريش، وقال الحسن البَصْريُّ: نزلت في أهل الردَّة أيَّام أبي بكرٍ الصِّدِّيق.
          قوله: ({بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}) قال الحسن: هو والله أبو بكرٍ وأصحابه، رواه ابن أبي حاتمٍ، وقال أبو بَكْر ابن أبي شَيْبَةَ: سمعت أبا بَكْر بن عَيَّاشٍ يقول: هم أهل القادسيَّة، وعن مجاهدٍ: هم قومٌ مِن سبأ، وقال ابن أبي حاتمٍ بإسناده إلى ابن عَبَّاسٍ قال: أناسٌ مِن أهل اليمن ثُمَّ مِن كندة ثُمَّ مِنَ السكون.
          قوله: ({أَذِلَّةٍ}) جمع (ذليل) ويٌضمَّن الذِّلُّ معنى الحنوِّ والعطف، فلذلك قيل: {أَذِلَّةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} كأنَّه قيل: عاطفين / عليهم على وجه التذلُّل والتواضع، وقُرئ: {أَذِلَّةً} و{أَعِزَّةً} بالنصب على الحال.
          (ص) وَقَالَ: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ. أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ. لَا جَرَمَ} يَقُولُ: حَقًّا {أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} إِلَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ...} {مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}[النحل:106-110].
          (ش) هذه الآيات كلُّها في (سورة النحل) متواليةً سيق كلُّها في رواية كريمة، وفي رواية أبي ذرٍّ: <{وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [إلى {وَأُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ}>.
          قوله: ({وَلَكِنْ مَن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا}) ]
أي: طاب به نفسًا فاعتقده.
          قوله: ({ذَلِكَ}) إشارة إلى الوعيد وأنَّ الغضب والعذاب يلحقانهم بسبب استحبابهم الدنيا على الآخرة.
          قوله: ({وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}) الكاملون في الغفلة الذين لا أحد أغفل منهم.
          قوله: ({لَا جَرَمَ}) بمعنى (حَقًّا) و(جَرَم) فعلٌ عند البَصْريِّين، واسمٌ عند الكوفيِّين بمعنى (حقًّا) ويدخل اللَّام في جوابه؛ نحو: لا جَرَم لآتينَّك، وقال تعالى: {لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ}[النحل:62] فعلى قول البَصْريِّين: لا ردَّ لقول الكفَّار، و(جَرَم) معناه عندهم: كَسَبَ؛ أي: كَسَب كفرُهم النارَ لهم.
          (ص) {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:217].
          (ش) هذه الآية الكريمة في (سورة البقرة) وسيق كلُّها هكذا في رواية كريمة، وفي رواية أبي ذرٍّ: <{وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} إلى قوله: {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ الْنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}>.
          قوله: ({وَلَا يَزَالُونَ}) يعني: مشركي مكَّة.
          قوله: ({حَتَّى يَرُدُّوكُمْ}) يعني: حَتَّى يصرفوكم.
          قوله: ({فَيَمُتْ}) مجزومٌ؛ لأنَّه معطوفٌ على ما قبله، ولو كان جوابًا لكان منصوبًا.
          قوله: ({حَبِطَتْ}) أي: بطلت أعمالهم؛ أي: حسناتهم، وفي هذه الآية تقييدُ مطلقِ ما في قوله: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} الآية؛ أي: شرطُ حبطِ الأعمال عند الارتداد أن يموت وهو كافرٌ.