الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما

          1773- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ): أي: التِّنِّيسي، قال: (أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ): بضمِّ السين المهملة وفتح الميم وتشديد التحتية (مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ): أي: ابن الحارث.
          قال في ((الفتح)) نقلاً عن ابن عبد البر: تفرَّدَ سُمَيٌّ بهذا الحديث، واحتاجَ إليه الناسُ فيه، فرواهُ عنه مالك والسفيانان وغيرهما حتى إنَّ سهيلَ بن أبي صالح حدَّث به عن سُمَيٍّ، عن أبي صالحٍ، فكأن سهيلاً لم يسمعهُ من أبيه، وتحقق بذلك تفرُّدُ سميٍّ به فهو من غرائبِ الصحيح.
          (عَنْ أَبِي صَالِحٍ): هو: ذكوان السمَّان (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) ☺ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلعم قَالَ: الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ):((إلى)) بمعنى: مع كما قاله ابن التِّين، كقوله تعالى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران:52] فالمكفر للذنوبِ مجموعُ العمرتين، ويحتملُ بقاء ((إلى)) على أصلها، بل قدمه شيخ الإسلام أي: العمرة حال كون الزمن بعدها ينتهي إلى العمرةِ. انتهى.
          فالمكفِّر الأولى؛ لأنها المخبرُ عنها بالتَّكفير، لكن قال العيني وتبعهُ القسطلاني: الظَّاهرُ من جهة المعنى أنَّ العمرةَ الثَّانيةَ هي المكفِّرةُ لما سبق، فإنَّ التَّكفيرَ مالم يقع خلافُ الظَّاهر. انتهى فتأمَّل.
          (كَفَّارَةٌ): خبر ((العمرة)) (لِمَا بَيْنَهُمَا): متعلقٌ بـ((كفارة)) أو بمحذوفِ صفتها.
          قال ابن عبد البر: المكفَّرُ من الذنوب غير الكبائرِ؛ لحديث: ((ما اجتُنِبَتْ الكبائِرُ)) قال: وذهب بعضُ علماء عصرِنا إلى تعميمِ التَّكفيرِ وبالغَ في الإنكار عليه، وتقدم الكلامُ في ذلك في أوائل مواقيت الصلاة.
          واستشكل كونُ العمرة مكفِّرةً مع أنَّ اجتنابَ الكبائر مكفرٌ.
          وأجيب: بأنَّ تكفير العمرة مقيَّدٌ بزمنها، وتكفيرُ الاجتناب عامٌّ لجميع عمر العبد. انتهى فتأمَّل.
          (وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ): أي: الذي لا يخالطهُ إثمٌ أو المتقبل أو الذي لا رياءَ فيه، أو الذي لا تعقبه معصيةٌ، وأولى ما يفسَّر به ما في حديثِ أحمد وغيره عن جابرٍ رفعه: ((الحجُّ المبرُورُ ليسَ له جَزَاءٌ إلا الجنَّة، قيل: يا رسولَ الله، ما بِرُّ الحجِّ؟ قال: إِطعَامُ الطَّعامِ وإفشَاءُ السَّلامِ)).
          وجملة: (لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ) خبرُ ((الحج المبرور))؛ أي: زيادةٌ على تكفيرِ ذنوبهِ.
          تنبيه: مناسبةُ الحديثِ للشقِّ الأول من التَّرجمةِ غيرُ ظاهرٍ، وكأنَّ المصنِّفَ أشار كما في ((الفتح)) أشار إلى ما ورد في بعضِ طرق الحديثِ المذكور، وهو ما أخرجهُ الترمذي وغيره من حديث ابن مسعودٍ مرفوعاً: ((تابعوا بين الحجِّ والعُمرَةِ، فإنَّ المتابعةَ بينهما تَنفِي الفقرَ والذُّنُوبَ كما ينفي الكيرُ خبثَ الحديدِ)).
          وما أخرجهُ الترمذي والنَّسائي عن ابن مسعودٍ أيضاً قال: قال رسولُ الله صلعم: ((تابِعُوا بين الحَجِّ والعُمرةِ، فإنَّهما ينفيانِ الفَقْرَ والذُّنُوبَ كما ينفِي الكَيرُ خبثَ الحديدِ والذَّهبِ والفضَّةِ، وليس للحجَّةِ المبرورَةِ ثوابٌ إلَّا الجنَّة)).
          ففي هذين الحديثين ونحوهما الأمرُ بالمتابعة بين الحجِّ والعمرة، والأصلُ في الأمرِ الوجوب، فيوافق قول ابن عبَّاس: ((إنها لقَرينَتُها)).
          قال في ((الفتح)): وفي حديث ابن مسعودٍ المذكور المرادُ بالتَّكفير المبهم في حديثِ أبي هريرة. انتهى فتأمَّله.
          وفي حديثِ الباب كما في ((الفتح)) دليلٌ لاستحباب الاستكثارِ من الاعتمارِ خلافاً لمن قال: يكرهُ أنْ يعتمرَ أكثر من مرَّةٍ في السَّنة كالمالكيَّةِ، ولمن قال في الشَّهرِ أكثر من مرةٍ، كما نقلهُ ابن قدامة عن آخرين، وعند الحنفيَّةِ: تكرهُ العمرةُ في يوم عرفة والنحر وأيام التشريق.
          وقال أبو يوسف: تكرهُ في هذه إلا يوم النَّحر، ذكره العينيُّ ومذهب الشَّافعية استحبابُ تكرارها في السنة وفي الشهر وفي اليومِ أو الليل من غير حصرٍ ولا كراهة.
          ونقلَ الأثرمُ عن أحمد: أنه إذا اعتمر فلا بدَّ أن يحلقَ أو يقصِّرَ فلا يعتمرُ بعد ذلك إلى عشرة أيام ليمكن حلق الرأسِ فيها.
          قال ابن قدامة: هذا يدلُّ على كراهةِ الاعتمار عنده في أقلَّ من عشرةِ أيام.