إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب شراب الحلواء والعسل

          ░15▒ هذا(1) (بابُ شَرَابِ(2) الحَلْوَاءِ) بالمدِّ للمُستملي، وبالقصر لغيرهِ لغتان (وَ) شراب (العَسَلِ) وليس المراد بقولهِ: شراب الحلواء، الحلواءُ المعهودةُ المعقودةُ بالنَّار بل كلُّ حلواءَ تُشرَبُ من نقيع حلو وغيره ممَّا يشبهه، وقوله: الحلواء شاملٌ للعسل، فذكرهُ بعدها من التَّخصيصِ بعد التَّعميم.
          (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ) محمد بنُ مسلم فيما وصلَه عبد الرَّزَّاق: (لَا يَحِلُّ شُرْبُ بَوْلِ النَّاسِ لِشِدَّةٍ) أي: لضرورةِ عطشٍ ونحوه (تَنْزِلُ لأَنَّهُ) أي: البول (رِجْسٌ) نجس (قَالَ اللهُ تَعَالَى: ({أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}[المائدة:4]) وقال ╡: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ}[الأعراف:157] والرِّجس من جملةِ الخبائثِ، وأُوْرِدَ عليه جوازُ أكلِ الميتة عند الشِّدَّة وهي رجسٌ، وقد جُوِّزَ شربُ البولِ‼ للتداوِي. وأُجيب باحتمال أن يكون الزُّهري يرى أنَّ القياس لا يدخل الرُّخص، فإن الرُّخصة قد وردتْ في الميتة لا في البولِ، وفي «شعب البيهقي»: أنَّ الزُّهريَّ كان يصومُ يوم عاشوراء في السَّفر، فقيل له: أنت تفطرُ في رمضان في السَّفر؟ فقال: إنَّ الله ╡ قال في رمضان: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة:184] وليس ذلك لعاشوراء.
          (وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ) عبد الله: (فِي السَّكَرِ) بفتح السين المهملة والكاف بعدها راء، الخمرُ بلغة العجمِ. وفي «فوائد» عليِّ بن حرب الطَّائي، عن سفيان بن عُيينة، عن منصور. وأخرجه ابنُ أبي شيبة بسندٍ صحيحٍ على شرط الشَّيخين عن جريرٍ، عن منصورٍ، عن أبي وائل قال: اشتكَى رجلٌ منَّا يقال له: خثيمُ(3) بنُ العدَّاء داءً ببطنهِ، يقال له: الصُّفْر، فنُعِتَ له السَّكَر، فأرسلَ إلى ابن مسعودٍ يسأله، فقال: (إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا) ولأبي ذرٍّ: ”ممَّا“ (حَرَّمَ عَلَيْكُمْ).
          فإن قلتَ: قد جوزوا إساغةَ اللُّقمة بالجرعةِ من الخمر فلِمَ لم يجوِّزوا التَّداوي به، وأيُّ فرقٍ بينهما؟ أُجيب بأنَّ الإساغةَ يتحقَّق بها المرادُ بخلاف الشِّفاء فإنَّه غير محقَّقٍ كما لا يخفَى، وقد قال بعضُهم: إنَّ المنافعَ في الخمرِ قبل التَّحريم سُلِبَتْ بعده، فتحريمها مجزومٌ به وكونها دواء مشكوكٌ فيه، بل الرَّاجح أنَّها ليست بدواء بإطلاقِ الحديث. نعم، يجوزُ تناولها(4) في صورةٍ واحدةٍ وهي ما إذا اضطر إلى إزالةِ عقله لقطعِ عضوٍ من الأَكَلة، والعياذ بالله تعالى، فقد خرَّجه الرَّافعي على الخلاف في جوازِ التَّداوي بالخمرِ، وصحَّح النَّوويُّ هنا الجواز وهو المنصوصُ. قال في «الفتح»: ينبغِي أن يكون محله فيما إذا تعيَّن ذاك(5) طريقًا إلى سلامةِ بقيَّة الأعضاء ولم يجد مرقدًا غيرها.
          فإن قلتَ: ما وجهُ المطابقةِ بين التَّرجمة والأثرين؟ أَجاب / ابن المنيِّر بأنَّه ترجمَ على شيءٍ وأعقبَه بضدِّه قال: وبضدِّها تتبين الأشياء، ثمَّ عادَ إلى ما يُطابق التَّرجمة نصًّا، ويحتمل أن يكون مراده بقول الزُّهري الإشارة بقولهِ تعالى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} إلى أنَّ الحلواء والعسلَ من الطَّيِّبات فهما(6) حلالٌ، وبقولِ ابن مسعودٍ الإشارة إلى قولهِ تعالى: {فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ}[النحل:69] فدلَّ(7) الامتنانُ به على حلِّه، فلم يجعل الله الشِّفاء فيما حرَّم.


[1] «هذا»: ليست في (س).
[2] في (م): «شرب».
[3] في (د): «الخيثم».
[4] في (ص) و(م) و(د): «تناوله».
[5] في (م) و(د): «ذلك».
[6] في (ص) و(م) و(د): «فهو».
[7] في (ص) زيادة: «لي أن».