إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: بئس ما لأحدهم أن يقول نسيت آية كيت وكيت

          5032- وبه قال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ) السَّاميُّ _بالمهملة_ القرشيُّ البصريُّ قال: (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ) بنُ الحجَّاج (عَنْ مَنْصُورٍ) هو: ابنُ المعتمر (عَنْ أَبِي وَائِلٍ) شقيقِ بنِ سلمةَ (عَنْ عَبْدِ اللهِ) ابنِ مسعودٍ ☺ (قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم : بِئْسَ مَا لأَحَدِهِمْ) «ما» نكرة موصوفة‼ مفسرة لفاعل «بئس»؛ أي: بئس شيئًا، وقوله: (أَنْ يَقُولَ) مخصوصٌ بالذَّم؛ أي: بئس شيئًا كائنًا للرَّجل قوله: (نَسِيتُ) بفتح النون وكسر السين مخففة (آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ) كلمتانِ يعبَّر بهما عن الجملِ الكثيرةِ، والحديثِ الطَّويلِ، وسببُ الذَّم ما في ذلكَ من الإشعارِ بعدمِ الاعتناءِ بالقرآنِ؛ إذ لا يقعُ النِّسيانُ إلَّا بتركِ التَّعاهد وكثرةِ الغفلةِ، فلو تعاهدهُ بتلاوتهِ والقيامِ بهِ في الصَّلاة لدامَ حفظهُ وتذكُّره، فكأنَّه إذا قال: نسيتُ الآية الفلانيَّة فكأنَّه شهد على نفسهِ بالتَّفريط، فيكون متعلَّق(1) الذَّم ترك الاستذكارِ والتَّعاهد؛ لأنَّه يورِث النِّسيان (بَلْ نُسِّيَ) بضم النون وتشديد السِّين المكسورة في جميع الرِّوايات في «البخاريِّ» وأكثرُ الرِّوايات في غيره، و«بَلْ» إضرابٌ عن القولِ بنسبةِ النِّسيان إلى النَّفس المسبب عن عدمِ التَّعاهد إلى القولِ بالإنساءِ الَّذي لا صنعَ له فيه، فإذا نسبهُ إلى نفسهِ أوهم أنَّه انفردَ بفعلهِ، فالَّذي ينبغي أن يقول: أُنْسيت أو نُسِّيت، مبنيًّا للمفعول فيهما؛ أي: إنَّ الله هو الَّذي أَنْساني، فينسبُ الأفعال إلى خالقِها لما فيه من الإقرارِ بالعبوديَّة والاستسلامِ لقدرةِ الرُّبوبيَّة. نعم، يجوز نسبةُ الأفعالِ إلى مكتسبها بدليلِ الكتاب والسُّنة كما لا يخفى. وقيل: معنى «نُسِّي» عوقبَ بالنِّسيان لتفريطهِ في تعاهدهِ واستذكارهِ، وقيل: إنَّ فاعل «نسيتُ» النَّبيُّ صلعم ، كأنَّه قال: لا يقل أحدٌ عنِّي أنِّي نسيتُ آية كذا، فإنَّ الله هو الَّذي أنساني لذلك لحكمةِ نسخهِ ورفعِ تلاوتهِ، وليس لي في ذلك صنيع(2).
          (وَاسْتَذْكِرُوا القُرْآنَ) السين للمبالغة؛ أي: اطلبوا من أنفسِكُم مذاكرته والمحافظة على قراءتهِ، والواو في قوله: واستذكروا _كما قال في «شرح المشكاة»_ عطف من حيثُ المعنى على قوله: «بئسَ ما لأحدهِم»(3)؛ أي: لا تقصِّروا في معاهدتهِ واستذكارهِ (فَإِنَّهُ أَشَدُّ تَفَصِّيًا) بفتح الفاء وكسر الصاد المهملة(4) المشددة وتخفيف التحتية بعدها، منصوبٌ على التَّمييز؛ أي: تفلُّتًا (مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنَ النَّعَمِ) وهي الإبلُ، لا واحدَ لهُ من لفظه؛ لأنَّ شأن الإبل طلبُ التَّفلُّت ما أمكنهَا، فمتى لم يتعاهدهَا صاحبهَا بربطها تفلَّتت، فكذلك حافظُ القرآنِ إذا(5) لم يتعاهدهُ تفلَّت، بل هو أشدُّ، وإنَّما كان ذلك؛ لأنَّ القرآن ليس من كلامِ البشرِ، بل هو من كلامِ خالق القِوى والقدر، وليس بينه وبين البشرِ مناسبةٌ قريبةٌ؛ لأنَّه حادثٌ وهو قديمٌ، لكنَّ الله سبحانه وتعالى بلطفهِ العَميم وكرمهِ القديم منَّ عليهم ومنحهُم هذه النِّعمة العظيمةَ، فينبغي أن يُتَعاهدَ بالحفظِ‼ والمواظبةِ ما أمكن، فقد يسَّره تعالى للذِّكر، وإلَّا فالطَّاقة البشريَّة تعجزُ قواهَا عن حفظهِ وحملهِ، قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ}[القمر:17] {الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ}[الرحمن:1-2] {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ} الاية[الحشر:21].
          وهذا الحديث أخرجه(6) مسلم في «الصَّلاة»، والتِّرمذيُّ في «القراءات»، والنَّسائي في «الصَّلاة» و«فضائلِ القرآن».
          وبه قال: (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ) بنُ أبي شيبةَ قال: (حَدَّثَنَا جَرِيرٌ) هو: ابنُ عبدِ الحميدِ (عَنْ مَنْصُورٍ) هو: ابنُ المعتمر (مِثْلَهُ) أي: الحديث السَّابق، وهذه الطَّريق(7) ثابتةٌ عند الكُشمِيهنيِّ والنَّسفي، ساقطة لغيرهما (تَابَعَهُ) أي: تابع محمَّد بن عرعرةَ (بِشْرٌ) بكسر / الموحدة وسكون المعجمة، ابنُ عبد الله(8) المَرْوزيُّ شيخُ المصنِّف (عَنِ ابْنِ المُبَارَكِ) عبدِ الله المروزيِّ (عَنْ شُعْبَةَ) بنِ الحجَّاج، وليس بشرٌ بمنفردٍ بهذه المتابعة، بل رواها(9) الإسماعيليُّ من طريق حبَّان ابن موسَى، عن ابنِ المبارك (وَتَابَعَهُ) أي: تابعَ ابنَ عرعرة (ابْنُ جُرَيْجٍ) عبدُ الملكِ بنُ عبد العزيزِ، فيما وصله مسلمٌ (عَنْ عَبْدَةَ) بسكون الموحدة، ابنِ أبي لُبَابَة _بضم اللام وتخفيف الموحدتين_ (عَنْ شَقِيقٍ) أبي وائلِ بنِ سلمةَ، أنَّه قال: (سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ) بنَ مسعودٍ ☺ يقول: (سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلعم )... فذكره، ولم يقل في روايةِ مسلمٍ ما بعد قوله: بل نُسِّيَ.


[1] في (ص): «معلق».
[2] في (ب) و(س): «صنع».
[3] في (د) و(ل) و(م): «لأحدكم».
[4] قوله: «المهملة»: ليس في (س) و(ص).
[5] في (د): «إن».
[6] في (د): «وقد أخرجه».
[7] في (د) و(م): «الطريقة».
[8] في (س) و(ص): «محمد» وكذا في الفتح ولعله الصواب.
[9] في (م): «زادها».