إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: كان النبي أجود الناس بالخير

          4997- وبه قال: (حَدَّثَنَا(1) يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ)‼ بفتح القاف والزاي والعين المهملة، المكِّيُّ المؤذِّنُ قال: (حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ) بسكون العين، الزُّهريُّ العوفيُّ، أبو إسحاق الزُّهريُّ (عَنِ الزُّهْرِيِّ) محمِّدِ بن مسلمٍ (عَنْ عُبَيْدِ اللهِ) بضم العين (ابْنِ عَبْدِ اللهِ) بنِ عتبةَ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ☻ ) أنَّه (قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ) وفي نسخة: ”كانَ رسولُ الله“ ( صلعم أَجْوَدَ النَّاسِ) أي: أسخاهُم(2) (بِالخَيْرِ) بنصب «أجود» خبر كان (وَأَجْوَدُ) بالرفع (مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ) أثبتَ له الأجوديَّة المطلقة أوَّلًا، ثمَّ عطف عليها زيادة ذلك في رمضان؛ لئلا يتخيَّل من قوله: «وأجودُ ما يكونُ في رمضان»، أنَّ الأجوديَّة خاصَّة منهُ برمضان، فهو احتراسٌ بليغٌ، ثم بيَّن سببَ الأجوديَّة المذكورة بقوله: (لأَنَّ جِبْرِيلَ) ◙ (كَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ) رمضان، وظاهره أنَّه كان يلقاهُ في كلِّ رمضان، منذ أُنزلَ عليهِ القرآن إلى رمضان الَّذي توفِّي بعده، وليس بمقيَّد برمضاناتِ الهجرةِ، وإن كان صيامُ شهرِ رمضانَ إنَّما فُرضَ صومه(3) بعد الهجرةِ؛ إذ إنَّه كان يسمَّى به قبلَ فرضِ صومهِ. نعم، يحتمل أنَّه لم يعارضْه في رمضان من السَّنة الأولى لوقوعِ ابتداء النُّزول فيها، ثمَّ فترَ الوحي، ثمَّ تتابعَ، وسقطَ الضَّمير من: ”يلقاه“ لأبي الوقتِ والأَصيليِّ(4) فكان (يَعْرِضُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلعم القُرْآنَ) أي: بعضَه أو معظمَهُ؛ لأنَّ أوَّل رمضان من البعثةِ لم يكن نزلَ من القرآنِ إلَّا بعضهُ، ثمَّ كذلك كلُّ رمضان بعده إلى الأخيرِ، فكان نزلَ(5) كلُّه إلَّا ما تأخَّر نزولهُ بعد رمضان المذكور، وكان في سنةِ عشرٍ إلى أن توفِّي النَّبيُّ صلعم وممَّا نزلَ في تلك المدَّة: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}[المائدة:3] فإنَّها نزلت يومَ عرفة بالاتِّفاق، ولمَّا كان ما نزلَ في تلكَ الأيَّام قليلًا اغتفَروا(6) أمر معارضتهِ، فاستفيدَ منهُ إطلاقُ القرآنِ على بعضهِ مجازًا، وحينئذٍ فلو حلفَ ليقرأنَّ القرآن فقرأَ بعضَهُ لا يحنثُ إلَّا إن قصدَ كلَّه (فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ) ╕ (أَجْوَدَ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ) أي: المطلقةِ، فهو من الاحتراسِ؛ لأنَّ الرِّيح منها العقيمُ الضَّارُّ، ومنها المبشِّر بالخيرِ، فوصفهَا بالمرسلةِ ليعيِّن الثَّاني، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا (7)}[الأعراف:57] فالرِّيح المرسلة تستمرُّ مدَّة إرسالها، ولذا(8) كان عمله صلعم / في رمضان(9) دِيمة لا ينقطعُ، وفيه استعمالُ أفعل التَّفضيل في الإسناد الحقيقيِّ والمجازيِّ؛ لأنَّ الجُود منه صلعم حقيقةٌ، ومن الرِّيح مجازٌ.
          فإن قلتَ: ما الحكمةُ في تخصيصِ اللَّيل المذكورِ بمعارضةِ القرآن؟ أُجيب بأنَّ المقصودَ من التِّلاوة(10) الحضورُ(11) والفهمُ، واللَّيل مظنَّة ذلك بخلاف النَّهار؛ فإنَّ فيه الشَّواغل والعوارض على ما لا يخفى، ولعلَّه صلعم كان يقسمُ ما نزلَ من القرآنِ في كلِّ سنةٍ على ليالي رمضان أجزاء، فيقرأُ كلَّ ليلةٍ جزءًا في جزءٍ من اللَّيل(12)، وبقيَّة ليلته لما سوى ذلك من تهجُّد وراحة وتعهُّد أهله، ويحتمل‼ أنَّه كان يعيدُ ذلك الجزء مرارًا بحسبِ تعدُّد الحروفِ المنزَّل بها القرآن.
          وهذا الحديثُ قد سبقَ أوَّل الصَّحيح [خ¦6] وفي «كتاب الصَّوم» [خ¦1902].


[1] في (م): «حدَّثني».
[2] قوله: «أي أسخاهم»: ليس في (د).
[3] «صومه»: ليس في (ص).
[4] قوله: «وسقط الضَّمير من يلقاه لأبي الوقت والأَصيليِّ»: ليس في (د)، وقوله: «والأَصيليِّ»: ليس في (م).
[5] في (ب): «نزول».
[6] في (ج) و(ل): «اغتفروا معارضته».
[7] وقع في الأصول: {مُبَشِّرَاتٍ} وهي في آية أخرى.
[8] في (س): «وكذا».
[9] قوله: «في رمضان»: ليس في (م).
[10] في (د): «منه».
[11] في (ص): «المقصود من الحضور» وفي الهامش: قوله: من الحضور... إلى آخره: كذا بخطه، وعبارة «الفتح»: المقصود من التلاوة الحضور والفهم.
[12] في (ب) و(س): «الليلة».