إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب

          4987- 4988- وبه قال: (حَدَّثَنَا مُوسَى) بنُ إسماعيلَ المنقريُّ التَّبوذكيُّ قال: (حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ) بنُ سعدٍ العوفيُّ قال: (حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ) محمَّدُ بن مسلمٍ: (أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ: أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ اليَمَانِ) واسم اليمان: حُسيل _بمهملتين_ مصغَّرًا، وقيل: حِسْل _بكسر ثم سكون_ العبسيَّ بالموحدة، حليف الأنصار (قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ) المدينة في خلافته (وَكَانَ) عثمان (يُغَازِي أَهْلَ الشَّأْمِ) أي: يجهِّزُ أهل الشَّام (فِي فَتْحِ أَـإِرْمِينِيَةَ) بكسر الهمزة وتفتح وسكون الراء وكسر الميم والنون بينهما تحتية ساكنة وبعد النون تحتية أخرى مخففة، وقد تثقَّل، مدينةٌ عظيمةٌ بين بلاد الرُّوم وخِلاط، قريبة من أَرْزن الرُّوم(1). قال ابن السَّمعانيِّ: يضربُ بحسنِها وطيبِ هوائها، وكثرة مياهِها وشجرهَا المَثَل (وَأَذْرَبِيجَانَ) وأمر أهل الشَّام أن يجتمعوا (مَعَ) ولأبي ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ: ”في“ (أَهْلِ العِرَاقِ) في غزوِهما وفتحِهما. وأَذْرَبِيْجَان: بفتح الهمزة وسكون الذال المعجمة وفتح الراء وكسر الموحدة وسكون التحتية وفتح الجيم وبعد الألف نون. وقرأتُ في «معجم ياقوت»: وفتح قوم الذال وسكنوا الراء، ومد آخرون الهمزة مع ذلك، وروي عن المهلَّب _ولا أعرف المهلَّب هذا_: آذريبجان بمد الهمزة وسكون الذال، فيلتقي ساكنان وكسر الراء، ثم ياء ساكنة وباء موحدة مفتوحة وجيم وألف ونون، وهو اسم اجتمعتْ فيه خمس موانع من الصَّرف: العجمة والتَّعريف والتَّأنيث والتَّركيب‼ ولحاق الألف والنون، وهو إقليمٌ واسعٌ، ومن مشهورِ مدنهِ تبريز، وهو صَقْعٌ جليلٌ، ومملكةٌ عظيمةٌ، وخيراتٌ واسعةٌ، وفواكِهُ جمَّةٌ، لا يحتاج السَّالك فيها إلى حملِ إناءٍ للماء؛ لأنَّ المياه جاريةٌ تحت أقدامهِ أين توجَّه، وأهلها صِباحُ الوجوهِ حمرها، ولهم لغةٌ يقال لها: الأذريَّة، لا يفهمها غيرهم، وفي أهلها لينٌ وحسنُ معاملةٍ، إلَّا أنَّ البخلَ يغلبُ على طباعهم، وهي بلادُ فتنٍ وحروبٍ، ما خلتْ قط فتنة منها(2)؛ فلذلك أكثرُ مُدنها خراب، وافتتحتْ أولًا في أيَّام عمر بن الخطَّاب، كان أنفذَ المغيرة بن شعبةَ الثَّقفيَّ واليًا على الكوفةِ ومعه كتابٌ إلى حذيفةَ بن اليمان بولايةِ أَذْربيجان، فوردَ عليه الكتابُ بنهاوند، فسارَ منها إلى أَذْربيجان(3) في جيش كثيف(4)، فقاتل المسلمون قتالًا شديدًا، ثمَّ إنَّ المرزبان صالحَ حذيفةَ على ثمان مئة ألف درهمٍ على أنْ لا يقتل منهم أحدًا ولا يسبيهِ ولا يهدمَ بيت نارٍ، ثمَّ عزلَ عمرُ حذيفةَ وولَّى عتبةَ بن فرقدٍ على أَذْربيجان، ولما استعملَ عثمانُ بن عفان الوليدَ بن عقبةَ على الكوفةِ عزلَ عتبةَ بن فرقدٍ عن أَذْربيجان، فنقضوا، فغزاهم الوليدُ بن عتبة سنة خمس وعشرين، وكان حذيفةُ من جملةِ من غزا معه.
          (فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلَافُهُمْ فِي القِرَاءَةِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، أَدْرِكْ هَذِهِ الأُمَّةَ) المحمَّديَّة (قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الكِتَابِ) أي: القرآن (اخْتِلَافَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى) في التَّوراة والإنجيلِ، وفي رواية عمارة بن غزيَّة: أنَّ حذيفة قال: يا أميرَ المؤمنين، أدرك النَّاس، قال: وما ذاك؟ قال: غزوتُ فَرْج أرمينية، فإذا أهل الشَّام يقرؤون بقراءةِ أبيِّ بن كعبٍ، ويأتون بما لم يسمعْ أهلُ العراقِ، وإذا أهلُ العراقِ يقرؤون بقراءةِ ابن مسعودٍ، فيأتون بما لم يسمعْ أهل الشَّام، فيكفِّر بعضُهم بعضًا.
          وروى ابنُ أبي داود بإسنادٍ صحيحٍ من طريق سويدِ بن غَفَلة قال: قال عليٌّ: لا تقولوا في عثمان إلَّا خيرًا، فوالله ما فعلَ الَّذي فعلَ في المصاحفِ إلَّا عن ملأ منَّا، قال: ما تقولون في هذه القراءةِ؟ فقد بلغني أنَّ بعضهم يقول: قراءتي خيرٌ من قراءتكَ، وهذا يكادُ أن(5) يكون كفرًا. قلنا: فما ترى؟ قال: أرى أنْ تجمعَ النَّاس على مصحفٍ واحدٍ، فلا تكون فرقةٌ ولا اختلافٌ. قلنا / : نِعْم ما رأيتَ.
          (فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ) ♦ (أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ) التي كان أبو بكر أمر زيدًا بجمعها (نَنْسَخُهَا فِي المَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ، فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدَ بْنَ العَاصِ) الأمويَّ (وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ) وفي كتاب‼ «المصاحف» لابن أبي داود من طريق محمَّد بنِ سيرين اثني عشر رجلًا من قريش والأنصار، منهم: أبي بن كعب. وفي رواية مصعب بن سعد: فقال عثمان: مَن أَكْتَب النَّاس؟ قالوا: كاتبُ رسولِ الله صلعم زيدُ بن ثابت. قال: فأيُّ النَّاس أعرب؟ وفي رواية: أفصحُ؟ قالوا: سعيدُ بن العاص. قال عثمان: فليُمْلِ سعيدٌ ولْيَكتب زيد. ووقع عند ابنِ أبي داود تسميةُ جماعةٍ ممَّن كتبَ أو أملَى، منهم: مالك بن أبي عامر، جدُّ مالك بن أنس، وكثيرُ بن أفلح، وأبيُّ بن كعب، وأنسُ بن مالك، وعبدُ الله بن عباس (فَنَسَخُوهَا) أي: الصُّحف (فِي المَصَاحِفِ، وَ) ذلك بعد أن (قَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ القُرَشِيِّينَ الثَّلَاثَةِ): سعيد، وعبد الله، وعبد الرحمن؛ لأنَّ الأوَّل أموي، والثَّاني أسدي، والثَّالث مخزوميٌّ، وكلُّها من بطون قريشٍ: (إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ القُرْآنِ) أي: من عربيتهِ(6) (فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ فَإِنَّمَا نَزَلَ) معظمه (بِلِسَانِهِمْ) أي: بلغتهم (فَفَعَلُوا) ذلك كما أمرهم (حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي المَصَاحِفِ رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ) فكانت عندَها حتى توفِّيت، فأخذَها مروان حين كان أميرًا على المدينة من قبلِ معاويةَ، فأمرَ بها فشُقِّقَت، وقال: إنَّما فعلتُ هذا لأنِّي خشيتُ إن طالَ بالنَّاس زمان أن يرتابَ فيها مرتابٌ. رواه ابن أبي داود(7) وغيره.
          (وَأَرْسَلَ)(8) عثمان (إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا) وكانت خمسة على المشهور، فأرسل أربعةً وأمسك واحدًا. وقال الدَّاني في «المقنع»: أكثرُ العلماء أنَّها أربعةٌ، أرسل واحدًا للكوفةِ، وآخر للبصرةِ، وآخر للشَّام، وتركَ واحدًا عنده، وقال أبو حاتم فيما رواهُ عنه ابنُ أبي داود: كتبَ سبعةَ مصاحف: إلى مكَّة والشَّام واليمنِ والبحرين والبصرةِ والكوفةِ، وحبسَ بالمدينة واحدًا (وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ) أي: سوى المصحفِ الَّذي استكتبه والَّتي نقلت منه، وسوى الصُّحف التي كانت عند حفصة (مِنَ القُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ) بسكون الحاء المهملة وفتح الراء، ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”يحَرَّق“ بفتح المهملة وتشديد الراء، مبالغة في إذهابها وسدًّا لمادة الاختلاف.
          وقال في «شرح السنة» في هذا الحديث البيانُ الواضح أنَّ الصَّحابة ♥ جمعوا بين الدَّفتين القرآنَ المنزل، من غيرِ أن يكونوا زادوا أو نقصوا منه شيئًا باتِّفاق منهم، من غير أن يقدِّموا شيئًا أو يؤخِّروه، بل كتبوهُ في المصاحفِ على التَّرتيب المكتوبِ في اللَّوح المحفوظِ، بتوقيفِ جبريل ◙ على ذلك، وإعلامهِ عند نزولِ كلِّ آيةٍ بموضعها وأين تكتب‼.
          وقال أبو عبد الرَّحمن السُّلَمِيُّ: كان♠ قراءةُ أبي بكر وعمرَ وعثمانَ وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصارَ واحدة، وهي الَّتي قرأها صلعم على جبريلَ مرَّتين في العامِ الَّذي قبضَ فيه، وكان زيد شهد العرضةَ الأخيرة، وكان يُقرئ النَّاس بها حتَّى مات، ولذلك اعتمدهُ الصِّدِّيق في جمعه وولَّاه عثمان كتبة المصاحف.
          قال السَّفاقِسيُّ: فكان جَمْعُ أبي بكر خوف ذهابِ شيءٍ من القرآنِ بذهابِ حملتهِ؛ إذ(9) لم يكن مجموعًا في موضعٍ واحدٍ، وجَمْعُ عثمان لمَّا كثرَ الاختلافُ في وجوهِ قراءتهِ حين قرؤوا بلغاتهم، حتَّى أدَّى ذلك إلى تخطئةِ بعضِهم بعضًا، فنسخ تلك الصُّحف في مصحفٍ واحدٍ مقتصرًا من اللُّغات على لغةِ قريشٍ؛ إذ هي أرجحُها.
          (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) الزُّهريُّ _بالإسناد السَّابق_: (وَأَخْبَرَنِي) بالواو والإفراد، ولأبي ذرٍّ: ”فأَخْبرني“ بالفاء والإفراد أيضًا (خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ) أنَّه (سَمِعَ) أباه (زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ: فَقَدْتُ) بفتح القاف (آيَةً مِنَ الأَحْزَابِ حِينَ نَسَخْنَا المُصْحَفَ) أي: في زمن عثمان لا في زمنِ أبي بكرٍ؛ لأنَّ الَّذي فقدهُ في خلافةِ أبي بكر الآيتان من آخرِ(10) سورة براءة (قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللهِ صلعم يَقْرَأُ بِهَا، فَالتَمَسْنَاهَا) أي: طلبناها (فَوَجَدْنَاهَا مَعَ خُزَيْمَةَ / بْنِ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيِّ) بالمثلَّثة، ابنِ الفاكهِ بنِ ثعلبةَ ذي الشَّهادتين، وهو غيرُ أبي خزيمة بالكنيةِ الَّذي وجدَ معه آخر سورة التوبة ({مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ}[الأحزاب:23] فَأَلْحَقْنَاهَا فِي سُورَتِهَا فِي الصُّحُفِ) بضم الصاد من غير ميم في الفرع، والَّذي في «اليونينية» بالميم(11).


[1] في (د) و(م): «أرض الشام».
[2] في (س): «ما خلت قطُّ مِن فتنة فيها».
[3] في (ل): «إلى نهاوند».
[4] في (د) و(م): «كثير».
[5] «أن»: ليس في (ص).
[6] في (د): «غير بينة».
[7] في (د): «رواه أبو داود».
[8] في (ب) و(س): «فأرسل».
[9] في (ص) زيادة: «إنه».
[10] «آخر»: ليست في (د).
[11] في (د): «من غير ميم والذي في الفرع بالميم».