إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن

          4986- وبه قال: (حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ) التَّبوذكيُّ (عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ) بسكون العين، الزُّهريِّ العوفيِّ، أنَّه قال: (حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ) محمَّد بنُ مسلمٍ الزُّهريُّ (عَنْ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ) بضم العين من غير إضافة لشيء، والسَّبَّاق: بفتح السين المهملة وتشديد الموحدة، المدنيِّ التَّابعيِّ (أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ ☺ قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ) بتشديد الياء (أَبُو بَكْرٍ) الصِّدِّيق ☺ (مَقْتَلَ) أي: عقب مقتل (أَهْلِ اليَمَامَةِ) أي: من قتل بها من الصَّحابة في وقعةِ مُسَيلِمة الكذَّاب، لما ادَّعى النُّبوَّة وقوي أمرُه بعد وفاته ╕ بارتدادِ كثيرٍ من العرب، فخذلهُ الله وقتلهُ بالجيشِ الَّذي جهَّزه أبو بكر ☺ ، وقُتلَ بسبب ذلك من الصَّحابة قيل: سبع مئة أو أكثر (فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ) ☺ (عِنْدَهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ ☺ : إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ: إِنَّ القَتْلَ قَدِ / اسْتَحَرَّ) بالسين الساكنة والفوقية والحاء المهملة والراء المشددة المفتوحات، اشتدَّ وكثر (يَوْمَ) وقعة (اليَمَامَةِ بِقُرَّاءِ القُرْآنِ) وسَمَّى منهم في رواية سفيانِ بنِ عُيينة، عن الزُّهريِّ في «فوائدِ الدَّيْر عَاقولي»: سالمًا مولى حذيفة (وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ) بلفظ المضارعِ؛ أي: يشتدَّ، ولأبي ذرٍّ: ”إن استحرَّ“ (القَتْلُ) اشتدَّ (بِالقُرَّاءِ بِالمَوَاطِنِ) أي: في الأماكن التي يقعُ فيها القتال مع الكفار (فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ القُرْآنِ) بقتل حفظته، والفاء في «فيذهبَ» للتَّعقيب (وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ القُرْآنِ) قال أبو بكرٍ لزيد: (قُلْتُ لِعُمَرَ: كَيْفَ تَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ) ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”لم يفعلْ“ (رَسُولُ اللهِ صلعم ؟ قَالَ عُمَرُ: هَذَا وَاللهِ خَيْرٌ) ردٌّ لقول أبي بكرٍ كيف تفعلُ شيئًا لم يفعلْه رسولُ الله صلعم ؟ وإشعار بأنَّ من البدعِ ما هو حسنٌ وخيرٌ (فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي) في ذلك (حَتَّى شَرَحَ اللهُ صَدْرِي لِذَلِكَ) الَّذي شرحَ الله له صدرَ عمر (وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى عُمَرُ‼. قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ) لي: يا زيدُ (إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ) أشارَ به إلى حدَّة نظرهِ، وبعدهِ عن النِّسيان، وضبطهِ وإتقانهِ (عَاقِلٌ، لَا نَتَّهِمُكَ) أشارَ إلى عدمِ كذبه وأنَّه صدوقٌ، وفيه تمامُ معرفتهِ وغزارة علومهِ، وشدَّة تحقيقهِ، وتمكُّنه من هذا الشَّأن (وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الوَحْيَ لِرَسُولِ اللهِ صلعم ، فَتَتَبَّعِ القُرْآنَ فَاجْمَعْهُ) بصيغة(1) الأمر (فَوَاللهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الجِبَالِ مَا كَانَ) نقله (أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي به) أبو بكر (مِنْ جَمْعِ القُرْآنِ) فإن قلتَ: كيف عبَّر أولًا بقوله(2): لو كلَّفُوني، وأفرد في قوله: ممَّا أمرني به(3)؟ أُجيب بأنَّه جمع باعتبارِ أبي بكر ومَن وافقهُ، وأفردَ باعتبار أنَّه الآمر بذلك وحدهُ، وإنَّما قال زيدٌ ذلك خشية من التَّقصير في ذلك، لكنَّ الله تعالى يسَّره له تصديقًا لقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ}[القمر:40].
          (قُلْتُ) لهم: (كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللهِ صلعم ؟ قَالَ) أبو بكر: (هُوَ) أي: جمعه (وَاللهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللهُ صَدْرِي لِلَّذِي(4) شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ☻ ، فَتَتَبَّعْتُ القُرْآنَ) حال كوني (أَجْمَعُهُ) وقتَ التَّتبُّع ممَّا عندي وعندَ غيري (مِنَ العُسُبِ) بضم العين والسين المهملتين ثمَّ الموحدة، جريدُ النَّخل العريضِ العاري عن الخُوْصِ (وَاللِّخَافِ) بكسر اللام وفتح الخاء المعجمة وبعد الألف فاء، الحجارةُ الرِّقاق، أو هي الخزفُ _بالخاء والزاي المعجمتين والفاء_ (وَصُدُورِ الرِّجَالِ) حيث لا يجد ذلك مكتوبًا، أو الواو بمعنى: مع؛ أي: أكتبه من المكتوب الموافق للمحفوظِ في الصُّدور.
          وعند أبي داود(5): أنَّ عمر ☺ قام فقال: من كان تلقَّى من رسول الله صلعم شيئًا من القرآن فليأتِ به، وكانوا كتبوا(6) ذلك في الصُّحف والألواح والعُسُب، قال: وكان لا يقبلُ من أحدٍ شيئًا حتى يشهدَ شاهدان(7)، وهذا يدلُّ على أنَّ زيدًا كان لا يكتفي بمجرَّد وجدانهِ مكتوبًا حتى يشهدَ به من تلقَّاه سماعًا، مع كون زيد كان يحفظُه، فكان يفعلُ ذلك مبالغةً في الاحتياطِ. ولأبي داود أيضًا من طريق هشام بن عروةَ، عن أبيهِ: أنَّ أبا بكرٍ قال لعمر ولزيدٍ: اقعدا على بابِ المسجدِ، فمَن جاءكما بشاهدين على شيءٍ من كتابِ الله فاكتباهُ. ورجالُهُ ثقاتٌ مع انقطاعهِ، ولعلَّ المراد بالشَّاهدين الحفظ والكتاب، أو المراد أنَّهما يشهدان أنَّ ذلك المكتوب كُتب بين يدَي رسولِ الله صلعم ، أو أنَّهما يشهدانِ أنَّ ذلك(8) من الوجوهِ الَّتي نزلَ بها القرآن، وكان غرضُهم أن لا يُكتب إلَّا مِن عين ما كُتبَ بين يديهِ صلعم ، لا من مجرَّد اللَّفظ، والمراد بصدورِ‼ الرَّجال: الَّذين جمعُوا القرآنَ وحفظوهُ في صدُورهم كاملًا في حياتهِ صلعم ، كأبي بنِ كعبٍ، ومعاذ بنِ جبل.
          (حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ) بنِ أوسِ بنِ يزيد بنِ حرام، وأبو خزيمةَ مشهورٌ بكنيتهِ لا يعرفُ اسمه، وشهدَ بدرًا وما بعدها (الأَنْصَارِيِّ) النَّجاريِّ (لَمْ أَجِدْهَا) مكتوبة (مَعَ أَحَدٍ غَيْرَهُ: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}[التوبة:128] حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ) ولا يلزمُ من عدم وجدانهِ إيَّاها حينئذٍ(9) أن لا تكون تواترت عندَ من تلقَّاها من النَّبيِّ صلعم / ، وإنَّما كان زيدٌ يطلبُ التَّثبت عمَّن تلقَّاها بغير واسطة، ولقد اجتمعَ في هذه الآيةِ _كما قاله الخطَّابي_ زيدُ بن ثابتٍ(10)، وأبو خزيمةَ، وعمر، وسقطَ قوله: «{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}» لأبي ذرٍّ (فَكَانَتِ الصُّحُفُ) التي جمع فيها زيدُ بن ثابتٍ القرآن (عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ) حتَّى توفَّاه الله (ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ ☺ ) وعنها؛ لأنَّها كانت وصية عمر، فاستمرَّ ما كان عندَه عندها إلى أن شرعَ عثمانُ في كتابة المصحفِ.
          وهذا الحديث سبقَ في «تفسير براءة» [خ¦4679].


[1] في (ص): «بصيغتي».
[2] في (ب): «يقوله».
[3] في (د) وهامش (ل): «أمرني به أبو بكر».
[4] في (م): «لذلك الذي».
[5] في الأصول: «أبي داود» في هذا الموضع والآتي، وعزاه في الفتح إلى «ابن أبي داود».
[6] في (س): «يكتبون».
[7] في (ص) و(م): «شهيدان»، كذا في المصاحف لابن أبي داود.
[8] قوله: «المكتوب كتب بين يدي رسول الله صلعم أو أنَّهما يشهدان أنَّ ذلك»: ليس في (د).
[9] في (د): «حينئذ إيَّاها».
[10] قوله: «بن ثابت»: ليس في (د).