إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

في موضوع معلقاته

          وأمَّا إيراده للأحاديث المعلَّقة مرفوعةً وموقوفةً فيوردها تارةً مجزومًا بها؛ كـ «قال» و«فَعَلَ»، فلها حكم الصَّحيح، وغيرَ مجزومٍ بها؛ كـ «يُروَى» و«يُذكَر»، فالمرفوعُ تارةً يوجد في موضعٍ آخرَ منه موصولًا، وتارةً معلَّقًا: فالأوَّل _وهو الموصول_ إنَّما يورده معلَّقًا حيث يضيق مخرج الحديث؛ إذ إنَّه لا يكرِّر إلَّا لفائدةٍ، فمتى ضاق المخرج واشتمل المتن على أحكامٍ واحتاج إلى تكريره؛ يتصرَّف في الإسناد بالاختصار خوفَ التَّطويل.
          والثَّاني وهو‼ ما لا يوجد فيه إلَّا معلَّقًا: فإمَّا أن يذكره بصيغة الجزم فيُستفاد منه الصِّحَّة عن المضاف إلى من علَّق عنه وجوبًا، لكن يبقى النظر فيمن أبرز من رجال ذلك الحديث؛ فمنه ما يلحق بشرطه، ومنه ما لا يلحق.
          فأمَّا الأوَّل: فالسَّبب في كونه لم يُوصِل إسناده؛ لكونه أخرج ما يقوم مقامه، فاستغنى عن إيراده مستوفيًا ولم يهمله، بل أورده معلَّقًا اختصارًا، أو لكونه لم يحصل عنده مسموعًا، أو سمعه وشكَّ في سماعه له من شيخه، أو سمعه مذاكرةً فلم يَسُقْهُ مَسَاق الأصل، وغالب هذا فيما أورده عن مشايخه، فمن ذلك: أنَّه قال في «كتاب / الوكالة»: قال عثمان بن الهيثم: حدَّثنا عوفٌ حدَّثنا محمَّد بن سيرين عن أبي هريرة ☺ قال: «وكَّلني رسول الله صلعم بزكاة رمضان...» الحديث بطوله [خ¦2311]، وأورده في مواضع أُخَر؛ منها: في «فضائل القرآن» [خ¦5010] وفي «ذكر إبليس» [خ¦3275]، ولم يقل في موضعٍ منها: حدَّثنا عثمان، فالظَّاهر أنَّه لم يسمعه منه، وقد استعمل البخاريُّ هذه الصِّيغة فيما لم يسمعه من مشايخه في عدَّة أحاديث، فيوردها عنهم بصيغة: «قال فلانٌ»، ثمَّ يوردها في موضعٍ آخرَ بواسطةٍ بينه وبينهم، ويأتي لذلك أمثلةٌ كثيرةٌ في مواضعها. فقال في «التَّاريخ»: قال إبراهيم بن موسى: حدَّثنا هشام بن يوسف...، فذكر حديثًا، ثمَّ قال: حدَّثوني بهذا عن إبراهيم، ولكن ليس ذلك مطَّردًا في كل ما أورده بهذه الصِّيغة، لكن مع هذا الاحتمال لا يَجْمُل حمل جميع ما أورده بهذه الصِّيغة(1) على أنَّه سمع ذلك من شيوخه، ولا يلزم من ذلك أن يكون مدلِّسًا عنهم، فقد صرَّح الخطيب وغيره بأنَّ لفظ «قال» لا يُحمَل على السَّماع إلَّا ممَّن عُرِفَ من عادته أنَّه لا يطلق ذلك إلَّا فيما سمع، فاقتضى ذلك أنَّ من لم يُعرَف ذلك من عادته كان الأمر فيه على الاحتمال.
          وأمَّا ما لا يلتحق بشرطه: فقد يكون صحيحًا على شرط غيره؛ كقوله في «الطَّهارة»: وقالت عائشة: «كان النَّبيُّ(2) صلعم يذكر الله على كلِّ أحيانه» [خ¦6/7-510] فإنَّه حديثٌ صحيحٌ على شرط مسلمٍ، أخرجه في «صحيحه»، وقد يكون حسنًا صالحًا للحجَّة؛ كقوله فيها: وقال بَهْزُ بن حكيمٍ عن أبيه عن جدِّه: «الله أحقُّ أن يُستَحيا منه من النَّاس» [خ¦5/20-469]، فإنَّه حديثٌ حسنٌ مشهورٌ عن بَهْزٍ، أخرجه أصحاب السُّنن، وقد يكون ضعيفًا، لا من جهة قدحٍ في رجاله، بل من جهة انقطاعٍ يسيرٍ في إسناده؛ كقوله في «كتاب الزَّكاة»: وقال طاوسٌ: قال معاذ بن جبلٍ لأهل اليمن: «ائتوني بعَرَضٍ ثيابٍ خَمِيْصٍ، أو لَبِيْسٍ في الصَّدقة مكان الشَّعير والذُّرة، أهونُ عليكم وخيرٌ لأصحاب محمَّدٍ صلعم » [خ¦24/33-2279]، فإنَّ إسناده إلى طاوسٍ صحيحٌ، إلَّا أنَّ طاوسًا لم يسمع من معاذ.
          وأمَّا ما يذكره بصيغة التَّمريض؛ فلا يُستَفَاد منه الصِّحَّة عن المضاف إليه، لكن فيه ما هو صحيحٌ، وفيه ما ليس بصحيحٍ، فالأوَّل: لم يوجد فيه ما هو على شرطه إلَّا في مواضعَ يسيرةٍ جدًّا، ولا يذكرها إلَّا حيث يذكر ذلك الحديث المعلَّق بالمعنى ولم يجزم بذلك؛ كقوله‼ في «الطِّبِّ»: ويذكر عن النَّبيِّ صلعم في الرُّقَى بفاتحة الكتاب [خ¦5736]، فإنَّه أسنده في موضعٍ آخرَ من طريق عبيد الله بن الأخنس عن ابن أبي مُليكة عن ابن عبَّاسٍ: «أنَّ نفرًا من أصحاب النَّبيِّ صلعم مرُّوا بحيٍّ فيه لديغٌ...» [خ¦5737]، فذكر الحديث في رقيتهم للرَّجل بفاتحة الكتاب، وفيه قوله صلعم لمَّا أخبروه بذلك: «إنَّ أحقَّ ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله»، فهذا لمَّا أورده بالمعنى؛ لم يجزم به؛ إذ ليس في الموصول أنَّه صلعم ذكر الرُّقية بفاتحة الكتاب، إنَّما فيه أنَّه لم ينههم عن فعلهم، فاستُفيد ذلك من تقريره.
          وأمَّا ما لم يورده في موضعٍ آخر ممَّا أورده بهذه الصِّيغة:
          فمنه: ما هو صحيحٌ إلَّا أنَّه ليس على شرطه؛ كقوله في «الصَّلاة»: ويذكر عن عبد الله بن السَّائب قال: «قرأ النَّبيُّ صلعم (المؤمنون) في صلاة الصُّبح، حتَّى إذا جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر عيسى؛ أخذته سَعْلةٌ فركع» [خ¦775]، وهو حديثٌ صحيحٌ على شرط مسلمٍ أخرجه في «صحيحه».
          ومنه: ما هو حسنٌ، كقوله في «البيوع»: ويُذكر عن عثمان بن عفَّان ☺ أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: «إذا بِعْتَ فاكْتَلْ» [خ¦2126]، وهذا الحديث قد رواه الدَّارقطنيُّ من طريق عبيد الله بن المغيرة، وهو صدوقٌ عن منقذ مولى عثمان، وقد وُثِّقَ عن عثمان، وتابعه عليه سعيد بن المسيَّب، ومن طريقه أخرجه أحمد في «المُسنَد»، إلَّا أنَّ في إسناده ابن لهيعة، ورواه ابن أبي شيبة في «مصنَّفه» من حديث عطاء عن عثمان، وفيه انقطاعٌ، فالحديث حسنٌ؛ لما عضده من ذلك.
          ومنه: ما هو ضعيفٌ فردٌ، إلَّا أنَّ العمل على موافقته، كقوله في «الوصايا» عن النَّبيِّ صلعم : «أنَّه قضى بالدَّين قبل الوصيَّة» [خ¦2750]، وقد رواه التِّرمذيُّ موصولًا من حديث أبي إسحاق السَّبيعيِّ عن الحارث الأعور عن عليٍّ، والحارث ضعيفٌ، وقد استغربه التِّرمذيُّ، ثمَّ حكى إجماع أهل المدينة على القول به.
          ومنه: ما هو ضعيفٌ فردٌ لا جابرَ له، وهو في «البخاريِّ» قليلٌ جدًّا / ، وحيث يقع ذلك فيه يتعقَّبه المصنِّف بالتَّضعيف بخلاف ما قبله.
          ومن أمثلته: قوله في «كتاب الصَّلاة»: ويذكر عن أبي هريرة رفعه: «لا يتطوَّع الإمام في مكانه» [خ¦848] ولم يصحَّ، وهو حديثٌ أخرجه أبو داود من طريق ليث بن أبي سُليمٍ عن الحجَّاج بن عبيد عن إبراهيم بن إسماعيل عن أبي هريرة، وليث بن أبي سليمٍ ضعيفٌ، وشيخ شيخه لا يُعرَف، وقد اختُلِف عليه فيه.
          فهذا حكم جميع ما في «البخاريِّ» من التَّعاليق المرفوعة بصيغتي الجزم والتَّمريض.
          وأمَّا الموقوفات؛ فإنَّه يجزم فيها بما صحَّ عنده، ولو لم يكن على شرطه، ولا يجزم بما كان في إسناده ضعفٌ أو انقطاعٌ إلَّا حيث يكون منجبرًا، إمَّا بمجيئه من وجهٍ آخر، وإمَّا بشهرته عمَّن قاله، وإنَّما يورد ما يورد من الموقوفات(3) من فتاوى الصَّحابة ♥ والتَّابعين، وكتفاسيرهم لكثيرٍ من الآيات على طريق الاستئناس، والتَّقوية لما يختاره من المذاهب
في المسائل التي فيها الخلاف بين الأئمَّة، فحينئذٍ ينبغي أن يُقال: جميع ما يورده فيه: إمَّا أن يكون ممَّا ترجم به، أو ممَّا تُرجِم له، فالمقصود في هذا‼ التَّأليف بالذَّات هو الأحاديث الصَّحيحة، وهي التي تُرجِم لها، والمذكور بالعرض والتَّبع الآثار الموقوفة والآثار المعلَّقة، نعم، والآيات المكرَّمة، فجميع ذلك مترجمٌ به، إلَّا أنَّه إذا اعتُبِرت بعضها مع بعض، واعتُبِرت أيضًا بالنِّسبة إلى الحديث، يكون بعضها مع بعضٍ منها مفسِّرٌ ومفسَّرٌ(4)، ويكون بعضها كالمُترجَم له باعتبارٍ، ولكن المقصود بالذَّات هو الأصل، فقد ظهر أنَّ موضوعه إنَّما هو للمسندات، والمعلَّق ليس بمسندٍ؛ ولذا لم يتعرَّض الدَّارقطنيُّ فيما تتبَّعه على «الصَّحيحين» إلى الأحاديث المعلَّقات؛ لعلمه بأنَّها ليست من موضوع الكتاب، وإنَّما ذكرت استئناسًا واستشهادًا. انتهى. من «مقدِّمة فتح الباري» بحروفه، وبالله تعالى التَّوفيق والمستعان.


[1] سقط من (ص) قوله: «لكن مع هذا الاحتمال لا يجمل حمل جميع ما أورده بهذه الصِّيغة».
[2] في غير (ص): «رسول الله»، والمُثبت موافقٌ لما في الحديث.
[3] في (م): «المرفوعات»، وهو خطأٌ.
[4] في (م): «مفسِّرًا ومفسَّرًا».