إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

الفصل الثاني في ذكر أول من دون الحديث والسنن

          الفصل الثَّاني
          في ذكر أوَّل مَن دوَّن الحديث والسُّنن ومَن تلاه في ذلك سالكًا أَحْسَنَ السُّنن
          اعلم أنَّه لم يَزَلِ الحديث النَّبويُّ _والإسلامُ غضٌّ طريٌّ، والدِّين مُحكَمُ الأساسِ قويٌّ_ أشرفَ العلوم وأجلَّها لدى الصَّحابة والتَّابعين وأتباعهم خلفًا بعد سلفٍ، لا يشرُف بينهم أحدٌ بعد حفظ التَّنزيل إلَّا بقدر ما يحفظ منه، ولا يعظم في النُّفوس إلَّا بحسب ما سُمِعَ من الحديث عنه، فتوفَّرت الرَّغبات فيه، وانقطعت الهمم على تعلُّمه، حتَّى رحلوا المراحل ذوات العدد، وأفنَوا الأموال والعُدَد، وقطعوا الفيافي في طلبه، وجابوا البلاد شرقًا وغربًا بسببه، وكان اعتمادُهم أوَّلًا على الحفظ والضَّبط في القلوب والخواطر، غير مُلْتفتين إلى ما يكتبونه، ولا معوِّلين على ما يَسْطُرونه، وذلك لسرعة حفظهم وسيلان أذهانهم، فلمَّا انتشر الإسلام واتَّسعت الأمصار، وتفرَّقت الصَّحابة في الأقطار، وكثُرت الفتوحات، ومات معظم الصَّحابة، وتفرّق أصحابهم وأتباعهم، وقلَّ الضَّبط واتَّسع الخَرْق، وكاد الباطل أن يلتبس بالحقِّ؛ احتاج العلماء إلى تدوين الحديث وتقييده بالكتابة، فمارسوا الدَّفاتر، وسامروا المحابر، وأجالوا في نظم قلائده أفكارَهم، وأنفقوا في تحصيله أعمارَهم، واستغرقوا لتقييده ليلَهم ونهارَهم، فأبرزوا تصانيفَ كَثُرَت صنوفُها، ودوَّنوا دواوين ظهرت شفوفها، فاتَّخذها العالَمُون قدوةً، ونصبها العاملون قبلةً، فجزاهم الله سبحانه وتعالى عن سعيهم الحميد أحسن ما جزى(1) به علماءَ أمَّةٍ وأحبارَ ملَّةٍ.
          وكان أوَّل من أمر بتدوين الحديث وجمعه بالكتابة عمر بن عبد العزيز رحمة الله تعالى عليه خوفَ اندراسه، كما في «الموطَّأ» رواية محمَّد بن الحسن: أخبرنا يحيى بن سعيدٍ: أنَّ عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن محمَّد بن عَمرو بن حزمٍ: أنِ انظر ما كان من / حديث رسول الله صلعم أو سننه فاكتبه؛ فإنِّي خِفتُ دُروسَ العلم وذهابَ العلماء، وأخرج أبو نُعيم في «تاريخ أصبهان» عن عمر بن عبد العزيز: أنَّه كتب إلى أهل الآفاق: انظروا إلى حديث رسول الله صلعم فاجمعوه. وعلَّقه البخاريُّ في «صحيحه» [خ¦3/34-179]. فيُستفاد منه كما قال الحافظ‼ ابن حجرٍ ابتداءَ تدوين الحديث النَّبويِّ. وقال الهرويُّ في «ذمِّ الكلام»: ولم تكن الصَّحابة ولا التَّابعون يكتبون الأحاديث، إنَّما كانوا يؤدُّونها حفظًا ويأخذونها لفظًا، إلَّا «كتاب الصَّدقات»، والشَّيء اليسير الذي يقف عليه الباحث بعد الاستقصاء، حتَّى إذا خِيف عليه الدُّروس، وأسرع في العلماء الموتُ؛ أَمَرَ عمرُ بنُ عبد العزيز أبا بكر بن محمَّدٍ فيما كتب إليه: أن انظر ما كان من سنَّةٍ أو حديثٍ فاكتبه. وقال في «مقدَّمة الفتح»: وأوَّل من جمع في ذلك الرَّبيع بن صَبيح وسعيد بن أبي عَروبة وغيرهما، وكانوا يصنِّفون كلَّ بابٍ على حِدَةٍ، إلى أن انتهى الأمر إلى كبار الطَّبقة الثَّالثة، وصنَّف الإمام مالك بن أنس «الموطَّأ» بالمدينة، وعبد الملك بن جريجٍ بمكَّة، وعبد الرَّحمن الأوزاعيُّ بالشَّام، وسفيان الثَّوريُّ بالكوفة، وحمَّاد بن سلمة بن دينارٍ بالبصرة، ثمَّ تلاهم كثيرٌ من الأئمَّة في التَّصنيف، كلٌّ على حسب ما سَنَحَ له، وانتهى إليه علمه، فمنهم من رتَّب على المسانيد(2)، كالإمام أحمد ابن حنبل، وإسحاق بن رَاهُوْيَه، وأبي بكر ابن أبي شيبة، وأحمد بن منيعٍ، وأبي خيثمة، والحسن بن سفيان، وأبي بكرٍ البزَّار وغيرهم، ومنهم من رتَّب على العلل؛ بأن يجمع في كلِّ متنٍ طرقَه واختلافَ الرُّواة فيه، بحيث يتَّضح إرسال ما يكون متَّصلًا، أو وقف ما يكون مرفوعًا أو غير ذلك، ومنهم من رتَّب على الأبواب الفقهيَّة وغيرها، ونوَّعه أنواعًا، وجمع ما ورد في كلِّ نوعٍ وفي كلِّ حكمٍ إثباتًا ونفيًا في بابٍ فبابٍ، بحيث يتميَّز ما يدخل في الصَّوم مثلًا عمَّا يتعلَّق بالصَّلاة، وأهل هذه الطَّريقة منهم من تقيَّد بالصَّحيح كالشَّيخين وغيرهما، ومنهم من لم يتقيَّد بذلك كباقي الكتب السِّتَّة، وكان أوَّلَ من صنَّف في الصَّحيح: محمَّدُ بن إسماعيلَ البخاريُّ، أسكننا الله تعالى معه في بحبوحة جِنانه بفضله السَّاري، ومنهم المقتصر على الأحاديث المتضمِّنة للتَّرغيب والتَّرهيب، ومنهم من حذف الإسناد واقتصر على المتن فقط؛ كالبغويِّ في «مصابيحه»، واللُّؤلؤيِّ في «مشكاته».
          وبالجملة: فقد كَثُرت في هذا الشَّأن التَّصانيف، وانتشرت في أنواعه وفنونه التَّآليف، واتَّسعت دائرة الرِّواية في المشارق والمغارب، واستنارت مناهج السُّنَّة لكلِّ طالب.


[1] في (ص): «يجازي»، وفي (م): «ما جازى».
[2] في (ص): «الأسانيد».