إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب حكم المرتد والمرتدة

          ░2▒ (باب حُكْمِ) الرَّجل (المُرْتَدِّ وَ) حكم(1) المرأة (المُرْتَدَّةِ) هل هما‼ سواءٌ؟ (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ) عبد الله ☻ فيما أخرجَه ابنُ أبي شيبة (وَالزُّهْرِيُّ) محمَّد بن مسلمٍ فيما أخرجه عبد الرَّزَّاق (وَإِبْرَاهِيمُ) النَّخعيُّ فيما أخرجه عبد الرَّزَّاق أيضًا: (تُقْتَلُ) المرأة (المُرْتَدَّةُ) إن لم تتُب، وعن ابن عباس ☻ فيما رواه أبو حنيفة عن عاصم عن أبي رَزِين عنه(2): لا تقتل النِّساء / إذا هنَّ ارتددْنَ، أخرجَه ابنُ أبي شيبة والدَّارقطنيُّ، وخالفه جماعةٌ من الحفَّاظ في لفظ المتن، وأخرج الدَّارقطنيُّ من طُرُق عن ابنِ المنكدر عن جابرٍ: أنَّ امرأةً ارتدَّت فأمرَ النَّبيُّ صلعم بقتلها. قال في «الفتح»: وهو يعكِّرُ على ما نقلَه ابن الطَّلاع في «الأحكام» أنَّه لم يُنقل عنه صلعم أنَّه قتلَ مرتدَّة (وَاسْتِتَابَتِهِمْ) كذا ذكرَهُ بعد الآثارَ المذكورةِ، وقدَّم ذلك في رواية أبي ذرٍّ على ذكر الآثارِ، وللقابسيِّ: ”واستتابتهما“ بالتَّثنية، وهو أوجه، ووجه الجمع قال في «فتح الباري»: على إرادةِ الجنسِ. وتعقَّبه العينيُّ فقال: ليس بشيءٍ بل هو على(3) قولِ من يَرى إطلاقَ الجمعِ على التَّثنية.
          (وَقَالَ اللهُ تَعَالَى) في سورة آل عمران: ({كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ}) استبعادٌ لأن يَهْديهم اللهُ، فإنَّ الحائدَ عن الحقِّ _بعد ما وضحَ(4) له_ منهمكٌ في الضَّلال، بعيدٌ عن الرَّشاد، وقيل: نفيٌ وإنكارٌ له، وذلك يقتضِي أنْ لا تقبلَ توبةُ المرتدِّ، والآيةُ نزلتْ في رهطٍ أسلموا ثمَّ رجعوا عن الإسلام ولحقوا بمكَّة.
          وعن ابن عبَّاسٍ ☻ كان رجلٌ من الأنصار أسلمَ، ثمَّ ارتدَّ، ثمَّ ندم، فأرسل إلى قومِه فقالوا: يا رسولَ الله هل له من توبةٍ؟ فنزلت(5): {كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا} إلى قولهِ: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ} فأسلمَ، رواه النَّسائيُّ وصحَّحه ابن حبَّان(6)، والواو في قولهِ تعالى: ({وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ}) للحال، و«قد» مُضْمرة، أي: كفروا وقد شهدوا أنَّ الرَّسول، أي: محمَّدًا صلعم حقٌّ، أو للعطف على ما في إيمانهم من مَعنى الفعلِ؛ لأنَّ مَعناه بعد أن آمنوا ({وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ}) أي: الشَّواهد كالقرآن وسائرِ المعجزات ({وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}) ما دَاموا مختارين الكفرَ، أو لا يَهديهم طريقَ الجنَّة إذا ماتوا على الكفرِ ({أُوْلَـئِكَ}) مبتدأ ({جَزَآؤُهُمْ}) مبتدأ ثانٍ خبرُه ({أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ}) وهما خبر {أُوْلَـئِكَ} أو جزاؤهم بدل اشتمال من أولئك ({وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. خَالِدِينَ}) حال من الهاء والميم في {عَلَيْهِمْ} ({فِيهَا}) في اللَّعنة، أو في(7) العقوبةِ، أو النَّار، وإن لم يَجْر ذكرهما لدَلالة الكلامِ عليهما، وهو يدلُّ بمنطوقهِ على جوازِ لعنهِم، وبمفهومهِ ينفي جوازَ لعن غيرهم، ولعلَّ الفرق أنَّهم مطبوعون على الكفرِ، ممنوعون من(8) الهدى، مأيوسون عن(9) الرَّحمة بخلاف غيرهم، والمراد بالناس: المؤمنون أو العموم، فإنَّ الكافر أيضًا يلعنُ منكرَ الحقِّ والمرتدَّ عنه، ولكن لا يعرف الحقَّ بعينه، قاله القاضي ({لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ. إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ}) الارتداد ({وَأَصْلَحُواْ}) ما أفسدوا، أو دخلوا في الصَّلاح ({فَإِنَّ الله غَفُورٌ}) لكفرهِم ({رَّحِيمٌ}) بهم ({إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ}) بعيسى والإنجيل ({بَعْدَ إِيمَانِهِمْ}) بموسى والتَّوراة ({ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا}) بمحمَّدٍ والقرآن، أو كفروا بمحمَّدٍ بعدما كانوا به مؤمنين قبل مبعثهِ، ثمَّ ازدادوا كفرًا بإصرارهم على ذلك، وطعنهم فيه في كلِّ وقتٍ، أو نزلتْ في الَّذين ارتدُّوا ولحقوا بمكَّة، وازديادهم الكفرَ أن قالوا: نُقيم بمكَّة نتربَّص بمحمَّدٍ ريبَ المنون ({لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}) إيمانهم؛ لأنَّهم لا يتوبون، أو لا يتوبون(10) إلَّا إذا أشرفُوا على الهلاكِ، فكنَّى عن عدمِ توبتِهم بعدمِ قبولها ({وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ}[آل عمران:86_90]) الثَّابتون على الضَّلال(11)، وسقط لأبي ذرٍّ من قولهِ «{وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ}» إلى آخر قولهِ: «{الضَّآلُّونَ}» وقال بعد قولهِ: {حَقٌّ}: ”إلى قولهِ: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ}“.
          (وَقَالَ) جلَّ وعلا: ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ}) التَّوراة ({يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}) بمحمَّدٍ صلعم ({كَافِرِينَ}[آل عمران:100]) وفيها إشارةٌ‼ إلى التَّحذير عن مصادقةِ أهل الكتاب؛ إذْ لا يُؤمَنون أن يَفْتنوا من صَادَقَهم عن دينهِ.
          (وَقَالَ) تعالى: ({إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ}) بموسى ({ثُمَّ كَفَرُواْ}) حين عبدوا العجل ({ثُمَّ آمَنُواْ}) بموسى بعد عوده ({ثُمَّ كَفَرُواْ}) بعيسى ({ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا}) بكفرهم بمحمَّدٍ صلعم ({لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً}[النساء:137]) إلى النَّجاة، أو إلى الجنَّةٍ، أو هم المنافقون آمنوا في الظَّاهر وكفروا في السِّرِّ مرَّةً بعد أُخرى، وازديادُ الكفر منهم ثباتهُم عليه إلى(12) الموت، وسقط من قولهِ «{ثُمَّ آمَنُواْ}...» إلى آخر الآية. وقال بعد {ثُمَّ كَفَرُواْ}: ”إلى {سَبِيلاً}“.
          (وَقَالَ) تعالى: ({مَن يَرْتَدَّ}) بتشديد الدال بالإدغام تخفيفًا، ولأبي ذرٍّ: ”{مَن يَرْتَدد}“ بالإظهار على الأصلِ، وامتنع الإدغام للجزم، وهي قراءة نافع وابن عامر ({مِنكُمْ عَن دِينِهِ}) من يرجعُ منكم عن دينِ الإسلامِ إلى ما كانَ عليه من الكفرِ ({فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}) / قيل: هم أهلُ اليمن، وقيل: همْ أهل(13) الفُرس. وقيل: الَّذين جاهدوا يوم القادسيَّة، والرَّاجع من الجزاء إلى الاسم المتضمِّن لمعنى الشَّرط محذوفٌ، أي: فسوفَ يأتي الله بقومٍ مَكانهم، ومحبَّة الله تعالى للعبادِ إرادة الهدى والتَّوفيق لهم في الدُّنيا، وحُسن الثَّواب في الآخرة، ومحبَّةُ العبادِ له إرادة طاعتهِ والتَّحرُّز عن(14) معاصيه ({أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}) عاطفين عليهم متذللِّين لهم، جمع ذليلٍ، واستعمالُه مع «على» إمَّا لتضمين معنى العطف والحنوِّ، أو التَّنبيه على أنَّهم مع علوِّ طبقتِهم وفضلِهم على المؤمنين خافضون لهم ({أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}[المائدة:54]) أشدَّاء عليهم، فهم على المؤمنين كالولدِ لوالدِه والعبد لسيِّده، ومع الكافرين كالسَّبع على فريستهِ، وسقطَ لأبي ذرٍّ من قولهِ «{أَذِلَّةٍ}...» إلى آخر الآية.
          ({وَلَـكِن}) ولأبي ذرٍّ: ”وقال“ أي: الله جلَّ وعلا: ”{وَلَـكِن}“ ({مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا}) طابَ به نفسًا واعتقدَه ({فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}) إذ لا أعظم من جُرمه ({ذَلِكَ}) أي: الوعيد، وهو لحوقُ الغضبِ والعذابِ العظيم ({بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ}) آثروا ({الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ}) أي: بسببِ إيثارهِم الدُّنيا على الآخرة ({وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}) ما دَاموا مختارين للكفرِ(15) ({أُولَـئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ}) فلا يتدبَّرون ولا يُصغون إلى المواعظِ، ولا يبصرون طريقَ(16) الرَّشاد ({وَأُولَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}) الكاملون في الغفلة؛ لأنَّ الغفلة عن تدبُّر العواقبِ هي غايةُ الغفلةِ ومُنتهاها ({لاَ جَرَمَ} يَقُولُ حقًّا {أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ}) إذ ضيَّعوا أعمارَهم وصرفوها فيما أفضَى بهم إلى العذابِ المخلَّد (إِلَى قولهِ: ثمَّ {رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا}) من بعد الأفعالِ المذكورة قبلُ، وهي الهجرةُ والجهادُ والصَّبر ({لَغَفُورٌ}) لهم ما كانَ منهم من التَّكلُّم بكلمةِ الكفرِ تقيَّة ({رَّحِيمٌ}[النحل:106_110]) لا يعذِّبهم على‼ ما قالوا(17) في حالةِ الإكراهِ، وسقط لأبي ذرٍّ «{فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ}» إلى آخر(18) ”{لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}“.
          ({وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ}) إلى الكفر، و{حَتَّىَ} معناها التَّعليل نحو: فلانٌ يعبدُ الله حتَّى يدخل الجنَّة، أي: يقاتلونكُم كي يردُّوكم، وقولهُ: ({إِنِ اسْتَطَاعُواْ}) استبعادٌ لاستطاعتِهم ({وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ}) ومَن يرجعُ عن دينهِ(19) إلى دينهم ({فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ}) أي: فيمتْ على الرِّدَّة ({فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}) لما يفوتهمْ بالرِّدَّة ممَّا للمسلمين في الدُّنيا من ثمراتِ الإسلامِ، وفي الآخرةِ من الثَّواب وحُسن المآب ({وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:217]) كسائر الكفرةِ، واحتجَّ إمامنا الشَّافعيُّ بالتَّقييد في الرِّدَّة بالموتِ عليها أنَّ الرِّدَّة لا تحبطُ العمل إلَّا بالموت عليها. وقال الحنفيَّة: قد علَّق الحَبَط بنفس الرِّدَّة بقولهِ: {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ}[المائدة:5] والأصل عندنا أنَّ المطلق لا يحملُ على المقيَّد، وعند الشَّافعيِّ: يحملُ عليه، وسقط لأبي ذرٍّ من قولهِ «{وَمَن يَرْتَدِدْ (20)}» وقال بعد قولهِ: {وَالآخِرَةِ}: ”إلى قولهِ: {وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}“.


[1] «حكم»: ليست في (ع) و(ص).
[2] في (د): «عن عاصم بن أبي زرعة».
[3] «على»: ليست في (د).
[4] في (د): «بعد أن وضح».
[5] في (د): «فنزل قول الله تعالى».
[6] «ابن حبان»: ليست في (د).
[7] «في»: زيادة من (ص).
[8] في (ص): «عن».
[9] في (ب) و(س): «من».
[10] «أو لا يتوبون»: ليست في (د).
[11] في (د): «الضلالة».
[12] في (د): «أي: إلى».
[13] «هم أهل»: ليست في (د) و(ص) و(ع)، و«أهل»: ليست في (س).
[14] في (ب) و(س): «من».
[15] في (د): «الكفر».
[16] في (د): «طرق».
[17] في (د): «لا يعذبهم بما قالوه».
[18] «آخر»: ليست في (د).
[19] في (ل): «يرجع دينه».
[20] في غير (س): «يرتدَّ».