إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: الثلث كبير إنك إن تركت ولدك أغنياء خير

          6733- وبه قال: (حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيُّ) عبدُ الله بن الزُّبير قال: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) بن عُيينة قال: (حَدَّثَنَا الزُّهريُّ) محمَّدُ بن مسلمٍ (قَالَ: أَخْبَرَنِي) بالإفراد (عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) بسكون عين «سعْد» (عَنْ أَبِيهِ) سعد ☺ ، أنَّه (قَالَ: مَرِضْتُ بِمَكَّةَ مَرَضًا فَأَشْفَيْتُ) بهمزة قطع مفتوحة وسكون المعجمة بعدها فاء، أي: فأشرفتُ (مِنْهُ عَلَى المَوْتِ، فَأَتَانِي النَّبِيُّ صلعم ) في عام حجَّةِ الوداع، أو عام الفتحِ، حال كونه (يَعُودُنِي) مضارع، عادَ المريضَ إذا زارهُ (فَقُلْتُ) له: (يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لِي مَالًا كَثِيرًا) بالمثلَّثة / (وَلَيْسَ يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَتِي) أمُّ الحكمِ الكُبرى، والحصرُ هنا حصرٌ خاصٌّ، فقد كان له ورثةٌ بالتَّعصيبِ من بني عمِّه، فالتَّقدير: ولا يرثُني بالفرضِ إلَّا ابنتي، فإن كان له زوجة، فالتَّقدير: ولايَرثني(1) من الأولادِ إلَّا ابنتي (أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟) الهمزةُ للاستفهامِ، والفعل معها مستفهمٌ عنه، والفاء عاطفةٌ وكان حقُّها أن تتقدَّم فعارضَها الاستفهامُ، وله صدرُ الكلام، ومبحثُه سبقَ في أوائلِ هذا الشَّرح في: «أَوَمُخْرِجِيَّ همْ»‼ [خ¦3] و«بثلثيْ» يتعلَّق بـ «أتصدَّقُ» (قَالَ) صلعم : (لَا) حرف جواب، وهي بمعناها تسدُّ مسدَّ الجملةِ، أي: لا تتصدَّق بكلِّ الثُّلثين (قَالَ) سعدٌ: (قُلْتُ): يا رسول الله (فَالشَّطْرُِ؟) بالرَّفع لأبي ذرٍّ على الابتداء، والخبر محذوفٌ، أي: فالشَّطر أتصدَّق به، وبالجرِّ كما في الفرعِ كأصلهِ، عطفًا على قولهِ: «بثلثيْ». وقال ابن فَرْحون: كما في قولهِ: «خيرٍ» في جواب: كيف أصبحتَ، وفي الحديث: «صلاةُ الرَّجل في الجماعةِ» وفي رواية: «جماعةٍ تضعَّفُ على صلاتِهِ في بيتهِ خمسٍ وعشرين ضعفًا» [خ¦647] أي: بخمسٍ وعشرين، وفيه أيضًا: إنَّ لي جاريْنِ إلى مَن أُهْدي، فقال: «أقربهمَا منكَ بابًا» [خ¦2259] أي: إلى أقربهما، وضبطه الزَّمخشريُّ في «الفائق» بالنَّصب بفعلٍ مضمرٍ، أي: أوجب الشَّطر، وقال السُّهيليُّ في «أماليه»: الخفضُ أظهر من النَّصب؛ لأنَّ النَّصب بإضمار فعلٍ، والخفضُ مردودٌ على قولهِ: بثلثي، وقال في «العدَّة»: ولو رُوِي بالنَّصب صحَّ بتقدير: أفأتصدَّق بالشَّطر، ثمَّ حذف حرف الجرِّ والمراد بالشَّطر: النِّصف (قَالَ) صلعم : (لَا . قُلْتُ: الثُّلُثُِ؟) بالرَّفع أو الجرِّ كما مرَّ، ويجوزُ النَّصب لكن المرجع الرِّواية (قَالَ) صلعم : (الثُّلُثُ كَبِيرٌ) بالموحدة، أجْرُهُ (إِنَّكَ) بكسر الهمزة على الاستئنافِ، والجملة معلَّلٌ بها، كما في قولهِ تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ }[يوسف:53] يجوزُ الفتح بتقدير حرفِ الجرِّ، أي: لأنَّك (إِنْ تَرَكْتَ وَلَدَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَتْرُكَهُمْ عَالَةً) بتخفيف اللَّام، فقراءَ (يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ) يسألونهم بأكفِّهم، وهمزة «إن تركتَ» مكسورةٌ على الشَّرطيَّة، وجزاء الشَّرط قوله: «خير» أي: فهو خيرٌ، فيكون قد حذف المبتدأ مقرونًا بالفاء، وأبقى الخبرَ (وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً) بمعنى منفقًا، والمنفق(2) اسم مفعول كالخلقِ بمعنى المخلوق، وزاد في رواية: ”تبتغِي بها وجهَ الله“ [خ¦56] أي: ثوابهُ(3) (إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا) بضم الهمزة وكسر الجيم، فعل ماض مبنيٌّ لِمَا لم يسمَّ فاعله (حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ) تؤجرُ عليها (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أُخَلَّفُ) بحذف همزة الاستفهام، أي: أَأبقى(4) بمكَّة متخلِّفًا (عَنْ هِجْرَتِي؟) قالهُ إشفاقًا من موتهِ بمكَّة بعد أن هاجرَ منها وتركها للهِ، فخافَ أن يَقْدَحَ ذلك في هجرتهِ، أو في ثوابها، أو خاف من مجرَّد تخلُّفه عن أصحابه بسبب مرضهِ (فَقَالَ) صلعم : (لَنْ تُخَلَّفَ بَعْدِي فَتَعْمَلَ عَمَلًا تُرِيدُ بِهِ وَجْهَ اللهِ) ╡ (إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ رِفْعَةً وَدَرَجَةً) «فتعملَ» منصوب عطفًا على «تخلَّف»، ويجوز أن يكون منصوبًا بإضمارِ «أنْ» في جواب النَّفي؛ لأنَّ الفاء فيها معنى السَّببيَّة، فالتَّقدير‼: إنَّك إن تخلَّفَ يكن ذلك التَّخلُّف سببًا لفعل خير، وهو زيادة الرِّفعة والدَّرجة، ويحسنُ ذلك مع تقدير الشَّرط، ويجوزُ أن يكون في الكلامِ شرطٌ مقدَّر؛ لأنَّه لمَّا سألَ فقال: أأخلَّف فتبطل هجرَتي؟ قال(5) له صلعم : إنَّك إن تخلَّف بسبب المرض، ويكون علمًا من أعلام النُّبوَّة ثمَّ حذف: إنْ تخلَّف، وعطفَ عليه: «فتعمل عملًا تريدُ به وجهَ الله إلَّا ازددتَ به رفعةً ودرجةً» ويدلُّ على هذا الحذف قوله: (وَلَعَلَّ) ولأبي ذرٍّ: ”ولعلَّك“ (أَنْ تُخَلَّفَ بَعْدِي) بأن يطولَ عمرُك (حَتَّى) حرف غايةٍ ونصب، أي: إلى أن (يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ) بفتح التحتية وكسر الفاء (وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ) بضم التحتية وفتح الضاد المعجمة، وقوله: «ولعلَّ» وإن كانت هنا بمعنى «عسَى»، لكن وقع ذلك يقينًا علمٌ من أعلامِ نبوَّته صلعم (6)، فإنَّ سعدًا ☺ عاشَ بعد ذلك نيِّفًا وأربعين سنة حتَّى فتحَ العراق وغيره، وانتفعَ به أقوامٌ في دينهِم ودنياهم وتضرَّر به الكفَّار في دينهِم ودُنياهم، فإنَّهم قتلوا وسبيتْ نساؤهم وأولادهم، وغُنِمت أموالهم. قال الزُّهريُّ فيما رواه أبو داود الطَّيالسيُّ(7) عن إبراهيمَ بن سعد، عنه(8) (لَكِنِ) ولأبي ذرٍّ: ”ولكن“ (البَائِسُ) الشَّديد الفقر والحاجة / (سَعْدُ ابْنُ خَوْلَةَ) و«البائسُ» مبتدأ، و«سعدٌ» بدلٌ منه، أو عطف بيانٍ، و«ابنُ خولة» صفةٌ لـ «سعدٍ» وخبر المبتدأ محذوفٌ، أي: أتوجَّع له، أو يغفرُ الله له، ثم فسَّر الرَّاوي ما حذفه النَّبيُّ صلعم ، فقال: (يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللهِ صلعم ) بفتح التحتية وسكون الراء وكسر المثلثة، من يَرْثِي له (أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ) بفتح الهمزة، و«أن» معمولةٌ لـ : «يَرْثي» على أنَّ المحلَّ مجرور بلام التَّعليل، أي: لأجل موتهِ بالأرض الَّتي هاجرَ منها، فهو مفعولٌ(9) له.
          (قَالَ سُفْيَانُ: وَسَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ) هاجرَ إلى الحبشةِ الهجرة الثَّانية، بدريٌّ، توفِّي بمكَّة في حجَّة الوداع في الأصحِّ.
          والحديث سبق في «الجنائز» [خ¦1295].


[1] «بالفرض إلا ابنتي، فإن كان له زوجة، فالتقدير: ولايرثني»: ليست في (ع).
[2] «والمنفق»: ليست في (س).
[3] في (ع) و(د) زيادة: «{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ }».
[4] في (ع) و(د): «أبقى».
[5] في (ع) و(د): «فقال».
[6] في (ع) و(د): «أعلام النبوة».
[7] في (س): «والطيالسي». وإثباتُ الواو خطأ.
[8] في (ع) و(د): «أنه قال».
[9] في (ص): «معمول».