إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير

          5590- (وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ) أبو الوليد السُّلميُّ الدِّمشقيُّ، المقرئ، راوي قراءةِ ابن عامر، من شيوخ البخاريِّ، وعبَّر بالقولِ دون التَّحديث وغيره لأنَّه وقعَ له مذاكرةً: (حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ) القرشيُّ(1) الأمويُّ أبو العبَّاس الدِّمشقيُّ قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ) الأزديُّ قال: (حَدَّثَنَا عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ) الشَّاميُّ (الكِلَابِيُّ) بكسر الكاف والموحدة، التَّابعي قال: (حَدَّثَنَي) بالإفراد (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ) بفتح الغين المعجمة وسكون النون، ابن كُريب بن هانئ (الأَشْعَرِيُّ) مختلفٌ في صحبتهِ (قَالَ: حَدَّثَنِي) بالإفراد (أَبُو عَامِرٍ _أَوْ: أَبُو مَالِكٍ_ الأَشْعَرِيُّ) بالشَّكِّ، وعند أبي داود: حدَّثني أبو مالك بغير شكٍّ، والشَّكُّ في اسم الصَّحابيِّ لا يضرُّ، وقال البخاريُّ في «تاريخه» بعد أنْ / رواهُ على الشَّكِّ أيضًا: وإنَّما يعرف هذا عن أبي مالكٍ الأشعريِّ. انتهى.
          واختلفَ في اسمهِ فقيل: عبدُ الله بن هانئ، وقيل: عبدُ الله بن وهبٍ، وقيل: عبيدُ بن وهب، سكنَ الشَّام، وليس بعمِّ أبي موسى الأشعريِّ؛ إذ(2) ذاك قتل أيَّام حنين في الزَّمن النَّبويِّ، وهذا بقيَ إلى زمن عبد الملك بنِ مروان (وَاللهِ مَا كَذَبَنِي) بتخفيف المعجمة، وهو مبالغةٌ في كمالِ صدقه أنَّه (سَمِعَ النَّبِيَّ صلعم يَقُولُ: لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ) بكسر الحاء المهملة وتخفيف الراء المفتوحة، الفرج، أي: يستحلُّون الزِّنا، وحكى القاضِي عياض تشديد الراء، وهو كذلك في الفرع أيضًا، والصَّواب _كما في «الفتح»_: التخفيف (وَ) يستحلُّون (الحَرِيرَ وَ) يستحلُّون (الخَمْرَ) شربًا، أي: يعتقدون حلَّها أو هو مجازٌ عن الاسترسالِ في شُربها كالاسترسالِ في الحلالِ (وَ) يستحلُّون (المَعَازِفَ) بفتح الميم والعين المهملة وبعد الألف زاي مكسورة ففاء، جمع: معزفة، آلات الملاهِي، أو هي الغناء. وفي «الصحاح»: هي آلات اللَّهو، وقيل: أصواتُ الملاهِي. وقال في «القاموس»: والمعازفُ: الملاهِي‼، كالعودِ والطُّنبور، الواحد عُزْفٌ أو مِعْزَف كمِنْبَر ومِكْنَسة، والعازفُ: اللَّاعب بها والمغنِّي. وفي «حواشي الدِّمياطي»: إنَّها الدُّفوف وغيرها ممَّا يُضرب به. وعند الإمام أحمد وابنِ أبي شيبة والبُخاري في «تاريخه» من طريقِ مالك بن أبي مريم، عن عبد الرَّحمن بن غنم، عن أبي مالكٍ الأشعريِّ، عن رسولِ الله صلعم : «ليشربَنَّ أُنَاسٌ من أمَّتي الخمرَ يسمُّونها بغيرِ اسمها تغدُو عليهم القيانُ وتروحُ عليهم المعازفُ» (وَلَيَنْزِلَنَّ) بفتح اللام والتَّحتية وكسر الزاي (أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ) بفتح الجيم وسكون النون، وعَلَم _بفتحتين_: جبلٌ عالٍ أو رأسُ جبلٍ (يَرُوحُ عَلَيْهِمْ) أي: الرَّاعي (بِسَارِحَةٍ لَهُمْ) بمهملتين، بغنمٍ تسرحُ بالغداةِ إلى رعيها وتروحُ، أي: ترجعُ بالعشيِّ إلى مألفها (يَأْتِيهِمْ لِحَاجَةٍ) قال الحافظُ ابن حجرٍ: كذا فيه بحذفِ الفاعل. قال الكِرمانيُّ: التَّقدير: الآتي، أو الرَّاعي، أو المحتاج(3). قال الحافظُ ابن حجر: وقع عندَ الإسماعيليِّ: ”يأتيهِمْ طالب حاجةٍ“ قال: فتعين بعضُ المقدَّرات. انتهى.
          قلتُ: وفي الفرع كأصله: ”يعني: الفقير لحاجة“ لكن على قولهِ: ”يعني: الفقير“ علامة السُّقوط لأبي ذرٍّ.
          (فَيَقُولُوا) ولأبي ذرٍّ: ”فيقولون(4)“: (ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا فَيُبَيِّتُهُمُ اللهُ) من التَّبييتِ، وهو هجومُ العدوِّ ليلًا، والمراد: يُهْلكهم(5) الله ليلًا (وَيَضَعُ العَلَمَ) أي: يوقع الجبلَ عليهم فيهلكَهم (وَيَمْسَخُ آخَرِينَ) أي: يجعل(6) صورَ آخرين ممن لم يهلك من البيات المذكور (قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ) أي: إلى مثل صورها حقيقةً، كما وقع لبعضِ الأمم السَّابقة، أو هو كنايةٌ عن تبدُّل أخلاقِهِم، والأوَّل أليقُ بالسِّياق، وفيه _كما قال الخطَّابي_: بيان أنَّ المسخَ يكون في هذهِ الأمة، لكن قال بعضُهم: إنَّما(7) المرادُ مسخُ القلوب.
          ومطابقةُ الجزءِ الأوَّل من التَّرجمة للحديثِ ظاهرة، وأما الجزءُ الثَّاني ففي حديثِ مالك ابنِ أبي مريمَ المذكور: «لَيَشْرَبنَّ أناسٌ من أُمَّتي الخمرَ يُسَمُّونها بغيرِ اسمهَا» كما هو عادةُ المؤلِّف ☼ في الإشارةِ بالتَّرجمة إلى حديث لم يكن على شرطهِ، وقال في «الكواكب»: أو لعلَّ نظر المؤلِّف إلى لفظ: «من أمَّتي» إذ فيه دليلٌ على أنَّهم استحلُّوها بالتَّأويل؛ إذ لو لم يكن بالتَّأويل لكان كفرًا وخروجًا(8) عن أمَّته لأنَّ تحريمَ الخمر معلومٌ من الدِّين بالضَّرورة، وقيل: يحتملُ أن يقال: إنَّ الاستحلالَ لم يقعْ بعد وسيقعُ، وأن يقال: إنَّه مثل استحلالِ نكاحِ المتعةِ، واستحلالُ بعضِ الأنبذةِ، أي: المسكرة. انتهى.
          ورجالُ حديث الباب كلُّهم شاميُّون.


[1] في (ل): «الفُرْعيُّ».
[2] «إذ»: ليست في (د) و(ص) و(م).
[3] في (د) زيادة: «أو الرجل».
[4] في (د): «يقولون».
[5] في (د): «فيهلكهم».
[6] في (م): «يحول».
[7] في (ب) و(س): «إن».
[8] في (د): «أو خروجًا».