شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب القنوت قبل الركوع وبعده

          ░7▒ باب: الْقُنُوتِ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَبَعْدَهُ.
          فيه: ابْنُ سِيرِينَ قَالَ: (سُئِلَ أَنَسُ: أَقَنَتَ النَّبِيُّ صلعم فِي الصُّبْحِ؟ فَقَالَ(1): نَعَمْ، فَقِيلَ: أَوَقَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ؟ قَالَ: بَعْدَ الرُّكُوعِ يَسِيرًا(2)). [خ¦1001]
          وقالَ عاصمٌ: (سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنِ الْقُنُوتِ، فَقَالَ: قَدْ كَانَ الْقُنُوتُ، قُلْتُ: قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ؟ قَالَ: قَبْلَهُ، قُلْتُ: فَإِنَّ فُلانًا أَخْبَرَنا(3) عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ: بَعْدَ الرُّكُوعِ، قَالَ: كَذَبَ، إِنَّمَا قَنَتَ رَسُولُ اللهِ صلعم بَعْدَ الرُّكُوعِ شَهْرًا، أُرَاهُ كَانَ بَعَثَ قَوْمًا يُقَالُ لَهُمُ: الْقُرَّاءُ، زُهَاءَ سَبْعِينَ(4) رَجُلًا إلى قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ صلعم عَهْدٌ، فَقَنَتَ(5) رَسُولُ اللهِ صلعم شَهْرًا(6)، يَدْعُو(7) عَلَيْهِمْ). [خ¦1002]
          وقالَ أبو مِجْلَزٍ عن أنسٍ: (قَنَتَ النَّبِيُّ صلعم شَهْرًا يَدْعُو على رِعْلٍ(8) وَذَكْوَانَ). [خ¦1003]
          وقالَ أبو قِلابةَ عن أنسٍ: (كَانَ الْقُنُوتُ فِي الْمَغْرِبِ وَالْفَجْرِ). [خ¦1004]
          وقال(9) ابن المنذر: اختلف العلماء في القنوت، فقالت طائفةٌ بالقنوت قبل الرُّكوع، رُوي ذلك عن عمر وعليٍّ وابن مسعودٍ وأبي موسى والبراء وأنسٍ وابن عبَّاسٍ وابن أبي ليلى، وبه قال إسحاق(10).
          وقالت طائفةٌ: القنوت بعد الرُّكوع رُوي ذلك عن أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعليٍّ، وقال أنسٌ: كل ذلك كان يفعله(11) قَبْلُ وبَعْدُ، وبه قال أحمد، وفي «المدوَّنة(12) »: القنوت في الصُّبح قبل الرُّكوع وبعده واسعٌ، والَّذي يستحِّب مالك(13) في خاصَّة نفسه قبل الرُّكوع، وهو حسنٌ عند مالكٍ، وعند الشَّافعيِّ سنَّةٌ في الصُّبح، وقال: يقنت في الصَّلوات كلِّها عند حاجة المسلمين إلى الدُّعاء. وقال(14) الطَّحاويُّ: لم يقل هذا أحدٌ قبله لأنَّ النَّبيَّ صلعم لم يزل محاربًا للمشركين إلى أن توفَّاه الله، ولم يقنت في الصَّلوات.
          وقالت طائفةٌ: لا قنوت في شيءٍ من الصَّلوات المكتوبات(15)، رُوي ذلك عن عمر وابن مسعودٍ وابن عمر وابن عبَّاسٍ وابن الزُّبير(16)، وقال ابن عمر: هي(17) بدعةٌ، وقال قَتادة وإبراهيم(18): لم يقنت أبو بكرٍ ولا عمر حتَّى مضيا. وقال علقمة عن أبي الدَّرداء: لا قنوت في الفجر، وعن طاوسٍ مثله، وهو قول الكوفيِّين واللَّيث، وقال الكوفيُّون: إنَّما القنوت في الوتر، واحتجَّ هؤلاء بما روى الطَّبريُّ عن أبي كريبٍ حدَّثنا ابن إدريسَ قال: سمعت سعد(19) بن طارقٍ أبا مالكٍ الأشجعيَّ قال: قلت لأبي: صلَّيت خلف رسول الله صلعم وأبي بكرٍ وعمر وعثمان وعليٍّ أكانوا(20) يقنتون؟ قال: لا يا بنيَّ محدثةٌ.
          وقال(21) الطَّبريُّ: والصَّواب في ذلك أن يُقال: إنَّ الخبر قد صحَّ عن النَّبيِّ صلعم أنَّه قنت على القرَّاء إمَّا(22) شهرًا أو أكثر في كلَّ صلاةٍ مكتوبةٍ، ثمَّ ترك ذلك، وثبت قنوته في الصُّبح، وصحَّ الخبر عنه أنَّه لم يزل يقنت في صلاة الصُّبح حتَّى فارق الدُّنيا، حدَّثَناه عَمْرو بن عليٍّ قال: أخبرنا خالد بن زيدٍ(23) قال: أخبرنا(24) أبو جعفر الرَّازيُّ عن الرَّبيع قال: سُئل أنس عن قنوت النَّبيِّ صلعم أنَّه قنت شهرًا، قال: ((لم يَزلْ يقنُتُ ◙ حتَّى ماتَ))، وحديث أبي مالكٍ صحيح عندنا أيضًا ولا تعارض بينَّهما بحمد الله، فنقول: إذا نابت المسلمين نائبة نظيرة التي نزلت بالمسلمين بمصابهم بمن قُتل ببئر معونة فنرى القنوت في ذلك(25) حسنًا(26) على ما فعلَه(27) النَّبيُّ صلعم، حتَّى يُكشف(28) عنهم، وذلك أنَّ أبا هريرة روى أنَّ النَّبيَّ صلعم، ترك الدُّعاء عليهم إذ جاءوا تائبين، وروى أنس أنَّه قنت شهرًا.
          وذكر الطَّحاويُّ بإسناده عن ابن شهابٍ عن سعيد بن المسيِّب وأبي سلمة عن أبي هريرة: / ((أنَّ النَّبيَّ صلعم كانَ إذا أَرادَ أنْ يدعوَ لأحدٍ أو يدعوَ(29) على أحدٍ قنَتَ(30))) وذكر الحديث، قال: روى(31) حمَّاد عن إبراهيم عن الأسود قال: كان عمر إذا حارب قنت، وإذا لم يحارب لم يقنت.
          قال الطَّبريُّ: ولسنا وإن كنا نرى ذلك حسنًا إذا نابت المسلمين نائبةٌ بموجبين على من تركَه(32) إعادة ولا سجود سهوٍ، وإن تركه عامدًا، وذلك أنَّ المسلمين مجمعون(33) أنَّ من ترك القنوت غير مفسد لصلاته، فإن قنت قانتٌ فبفعل رسول الله صلعم عَمِل، وإن تركه تاركٌ فبرخصته صلعم أخذ، وذلك أنَّه(34) كان يقنت أحيانًا ويترك القنوت أحيانًا، فأخبر أنسٌ عنه أنَّه لم يزل يقنت على ما عهدَه من فعله ذلك بالقنوت فيها مرةً وترك القنوت أخرى معلِّمًا(35) بذلك أمَّته أنَّهم مخيَّرون في العمل بأيِّ ذلك شاءوا من فعله.
          وأخبر طارق أنَّه صلَّى معه فلم يره قنت، وغير منكرٍ أن يكون صلَّى معه في الأوقات التي لم يقنت فيها، فأخبر عنه بما رأى وشاهد(36)، وليس قول من قال: لم أرَ النَّبيَّ صلعم قنت، حجَّة(37) يدفع بها قول من قال(38): رأيته يقنت، ولا سيَّما والقنوت أمرٌ(39) المصلِّي فيه(40) مخيَّر فيه وفي تركه، ولو كان قول من قال: لم أره يقنت، دافعًا لقول من قال: رأيته قنت، وجب(41) قولُ من قال: رأيته لا يرفع(42) يديه عند الرُّكوع وعند رفعه منه، دافعًا لقول من قال(43): رأيته يرفع(44) عندهما. وكذلك كان يجب أن يكون كلُّ ما حُكي عنه من اختلاف كان منه(45) في صلاته مما فعلَه تعليمًا لأمَّته في أنَّهم مخيَّرون بين العمل له(46) وتركه غير جائزٍ العمل(47) بأحدهما، وفي إجماع الأمَّة أن ذلك ليس كذلك، وأنَّ رفع اليدين في حال الرُّكوع والرَّفع منه غير مفسدٍ لصلاة(48) المصلِّي، ولا تركه بموجب(49) عليه قضاء إذا(50) كان من العمل الَّذي عمله رسول الله صلعم أحيانًا وتركه أحيانًا، فكذلك القنوت مثله سواء، وكذلك القول عندنا فيما رُوي عن أصحابه صلعم من الاختلاف في ذلك لأنَّ كُلًّا شهد بما رأى منه ◙ في ذلك، وكلٌّ محقٌّ صادقٌ(51).
          قال المُهَلَّب: ووجه اختيار مالكٍ للقنوت(52) قبل الرُّكوع _والله أعلم_ ليدرك المستيقظون من النَّوم الرَّكعة التي بها تُدرك(53) الصَّلاة، ولذلك كان الوقوف(54) في الصُّبح أطول من غيرها. قال غيره: ووجه قول أنسٍ للسَّائل(55): كذب، يريد أنَّه كذب إن كان قال عنه أنَّ القنوت أبدًا بعد الرُّكوع، وقد بيَّن الثَّوريُّ هذا المعنى في سياقه لهذا الحديث، فروى الثَّوريُّ عن عاصمٍ عن أنسٍ قال: ((إنَّما قنت رسول الله صلعم بعد الرَّكعة شهرًا، قلت: فكيف القنوت؟ قال: قبل الرُّكوع))، فبان بذلك أنَّ الَّذي دام عليه النَّبيُّ صلعم من القنوت كان قبل الرُّكوع(56) كما استحسنه مالكٌ ☼.
          قال المُهَلَّب: ولم يُحفظ عن النَّبيِّ صلعم أنَّه تمادى على القنوت في المغرب بل(57) تركه تركًا لا يكاد يثبت معه أنَّه لو(58) قنت فيها لترك النَّاس نقله.
          إلَّا أنَّه رُوي عن أبي بكرٍ الصِّدِّيق أنه كان يدعو في الثَّالثة من المغرب بعد قراءة أمِّ القرآن: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}[آل عِمْرَان:8]، واستحبَّه الشَّافعيُّ(59)، وقال مالكٌ: ليس العمل عندنا(60) على هذا، وإنَّما جاء أنَّ النَّاس كانوا يلعنون الكفرة في رمضان في الوتر.
          وقال مالكٌ في «المدوَّنة»: ليس العمل على القنوت بلعن الكفرة في رمضان، وقال ابن نافعٍ عنه: كانوا يلعنون الكفرة في النِّصف من رمضان حتَّى ينسلخ، وأرى(61) ذلك واسعًا إن شاء فعل وإن شاء ترك.
          وقوله: (زُهَاءَ سَبْعِين(62)) قال صاحب «العين»: الزُّهاء القدر في العدد.


[1] في (ق): ((قال)).
[2] في (ق): ((بيسير)).
[3] في (ق): ((أخبرني)).
[4] في (م): ((سبعون)).
[5] في (ص): ((وقنت)).
[6] قوله: ((شهرًا)) ليس في (ق).
[7] في (ص): ((يدعوا)) كذا في الموضع الآتي.
[8] في (ص): ((قَنَتَ النَّبِيُّ صلعم يَدْعُوا على رَعْلٍ شَهْرًا)).
[9] في (م) و (ق): ((قال)).
[10] في (م) و(ق): ((وابن عباس وبه قال ابن أبي ليلى وإسحاق)).
[11] في (ق): ((كنا نفعله)).
[12] قوله: ((كل ذلك كان يفعله قَبْلُ وبَعْدُ، وبه قال أحمد، وفي «المدوَّنة»)) ليس في (ص).
[13] في (ي): ((لمالك)).
[14] في (ص): ((قال)).
[15] في (ص): ((المكتوبة)).
[16] قوله: ((وابن الزبير)).
[17] في (م) و(ق): ((هو)).
[18] في (م) و(ق): ((وقال إبراهيم وقتادة)).
[19] في (ص): ((سعيد)) ولعله كتب فوقها: ((سعد)).
[20] في (ز): ((أكلهم)) والمثبت من باقي النسخ.
[21] في (م) و(ق): ((قال)).
[22] قوله: ((إما)) ليس في (م) و (ق).
[23] في (م) و (ق): ((يزيد)).
[24] في (م): ((حدثنا)).
[25] في (م) و (ق): ((الصلاة)).
[26] قوله: ((حسنًا)) ليس في (ص).
[27] في (ق): ((فعل)).
[28] في (ق): ((تكشف)).
[29] في (ص): ((يدعوا)).
[30] قوله: ((قنت)) ليس في (ص).
[31] في (ق): ((وروى)).
[32] في (ق): ((على تركه)).
[33] في (ص): ((مجمعين)).
[34] في (ص): ((لأنه)).
[35] في (ص) صورتها: ((علمًا)).
[36] في (م) و(ق): ((وشهد)).
[37] في (م): ((بحجة)).
[38] قوله: ((لم أرَ النبي صلعم قنت حجة يدفع بها قول من قال)) ليس في (ق) و(ص).
[39] قوله: ((أمر)) ليس في (ق).
[40] قوله: ((فيه)) ليس في (ق) و (ي) و(م) و(ص).
[41] زاد في (م) و (ق): ((أن يكون)).
[42] في (ق): ((قال لم أره يرفع)).
[43] في (ق): ((يقول)).
[44] زاد في (ص): ((يديه)).
[45] قوله: ((منه)) ليس في (م).
[46] في (م) و(ق): ((به)).
[47] زاد في (م) و(ق): ((إلا)).
[48] في (م): ((صلاة)).
[49] في (م) و(ق): ((موجب)).
[50] في (ق) و (م): ((إذ)).
[51] في (ص): ((حاذق)).
[52] في (ق) و(م) و(ص): ((القنوت)).
[53] زاد في (ق): ((بها)).
[54] في (ص): ((الوقف)) ولعله عدلها للمثبت.
[55] زاد في (م): ((له)).
[56] قوله: ((فبان بذلك أنَّ...كان قبل الرُّكوع)) ليس في (ص).
[57] في (ز): ((لم)) والمثبت من باقي النسخ.
[58] قوله: ((لو)) ليس في (م)، و في (ق): ((قد)).
[59] في (ص): ((العلماء)).
[60] في (م) و (ق): ((عندي)).
[61] في (ق) و (ي): ((ورأى)).
[62] زاد في (م) و (ق): ((رجلًا)). في (ص): ((زهاء تسعين)).