شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما جاء في المتأولين

          ░9▒ باب: مَا جَاءَ في الْمُتَأَوِّلِينَ.
          فيه عُمَرُ بْن الْخَطَّابِ: (أَنَّه سَمِع هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ في حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ صلعم فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ على حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا النَّبيُّ صلعم! فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ في الصَّلاةِ، فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى سَلَّمَ، فَلَمَّا سلم لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ! فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ؟! قَالَ: النَّبيُّ صلعم، قُلْتُ: كَذَبْتَ، فَوَاللهِ إِنَّ رَسُولَ اللهِ أَقْرَأَنِي هَذِهِ السُّورَةَ التي سَمِعْتُكَ تَقْرَؤُهَا، فَانْطَلَقْتُ أَقُودُهُ إلى رَسُولِ اللهِ صلعم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةِ الْفُرْقَانِ على حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا، وَأَنْتَ أَقْرَأْتَنِي سُورَةَ الْفُرْقَانِ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلعم: أَرْسِلْهُ يَا عُمَرُ، اقْرَأْ يَا هِشَامُ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ التي سَمِعْتُهُ يَقْرَؤُهَا، فقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: هَكَذَا أُنْزِلَتْ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: اقْرَأْ يَا عُمَرُ، فَقَرَأْتُ، فَقَالَ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ على سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ). [خ¦6936]
          وفيه ابْنُ مَسْعُودٍ: لَمَّا أنزلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}[الأنعام:82]شَقَّ ذَلِكَ على أَصْحَابِ النَّبيِّ صلعم، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: (لَيْسَ كَمَا تَظُنُّونَ؛ إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[لقمان:13]). [خ¦6937]
          وفيه عِتْبَانُ: (غَدَا عَلَيَّ النَّبيُّ صلعم فَقَالَ رَجُلٌ: أَيْنَ مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُنِ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَّا: ذَلِكَ مُنَافِقٌ لا يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَ رسول الله صلعم: أَلا تَقُولُوهُ يَقُولُ: لا إِلَهَ إِلا اللهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ؟ قَالَوا: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّهُ لا يُوَافِي بها عَبْدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ النَّارَ). [خ¦6938]
          وفيه أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَحِبَّانُ(1) بْنُ عَطِيَّةَ: (أَنَّهُما تَنَازَعا فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِحبَّانَ: لَقَدْ عَلِمْتُ مَا الذي جَرَّأَ صَاحِبَكَ على الدِّمَاءِ، يعني عَلِيًّا، قَالَ: مَا هُوَ لا أَبَا لَكَ؟ قَالَ: شَيْءٌ سَمِعْتُهُ يَقُولُهُ، قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: بَعَثَنِي النَّبيُّ صلعم وَالزُّبَيْرَ بنَ العَوَّامِ وَأَبَا مَرْثَدٍ وَكُلُّنَا فَارِسٌ، قَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ فِيهَا امْرَأَةً مَعَهَا صَحِيفَةٌ مِنْ حَاطِبِ إلى الْمُشْرِكِينَ.... الحديث َ، فَأَخْرَجَتِ الصَّحِيفَةَ، فَأَتَوْا بِهَا النَّبيَّ صلعم، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ خَانَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ! دَعْنِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ النَّبيُّ صلعم: يَا حَاطِبُ، ومَا حَمَلكَ على مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: مَا لي لا أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَلَكِن أَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ لي عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يُدْفَعُ بِهَا عَنْ أَهْلِي وَمَالِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِكَ إِلَّا لَهُ هُنَاكَ مِنْ قَوْمِهِ مَنْ يَدْفَعُ اللهُ بِه عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، قَالَ: صَدَقَ، قال: ولا تَقُولُوا لَهُ إِلَّا خَيْرًا، قَالَ: فَعَادَ عُمَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ خَانَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، دَعْنِي فَلأضْرِبْ عُنُقَهُ، فقَالَ: أَوَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شئتُمْ، فَقَدْ أَوْجَبْتُ لَكُمُ الْجَنَّةَ، فَبَكَى عُمَرُ وقَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ). [خ¦6939]
          قال المُهَلَّب وغيره: لا خلاف بين العلماء أنَّ كلَّ متأوِّل معذورٌ بتأويله غير مأثومٍ فيه إذا كان تأويله ذلك ممَّا يسوغ ويجوز في لسان العرب، أوكان له وجهٌ في العلم؛ ألا ترى أنَّ النبيَّ صلعم لم يعنِّف عمر في تلبيبه لهشامٍ مع علمه بثقته وعذره في ذلك لصحَّة مراد عمر واجتهاده.
          وأمَّا حديث ابن مسعودٍ فإنَّ النبيَّ صلعم عذر أصحابه في تأويلهم الظلم في الآية بغير الشرك لجواز ذلك في التأويل.
          وأمَّا حديث ابن الدُّخْشُن فإنَّهم استدلُّوا على نفاقه بصحبته للمنافقين ونصيحته لهم، فعذرهم النبيُّ صلعم باستدلالهم، وكذلك حديث حاطبٍ عذره النبيُّ صلعم في تأويله، وشهد بصدقه.
          وقد تقدَّم كثيرٌ من معاني هذا الحديث في كتاب الجهاد في باب الجاسوس، فأغنى عن ذكره، [خ¦3007] وسيأتي شيءٌ منه في كتاب الاستئذان في باب من نظر في كتاب من يحذر على المسلمين ليستبين أمره إن شاء الله تعالى. [خ¦6259]
          وقول أبي عبد الرحمن: (لَقَدْ عَلِمْتُ مَا الَّذِي جَرَّأَ صَاحِبَكَ عَلَى الدِّمَاءِ، يَعْنِي عَلِيًّا)، فإنَّه أراد قول النَّبيِّ صلعم لأهل بدرٍ: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرتُ لَكُم)، فكأنَّه أنس بهذا القول، فاجترأ بذلك على الدماء، ولا يجوز أن يُظنَّ بعليٍّ ☺ أنَّه اجترأ على هذا دون أن يعطيه ذلك صحيح التأويل والاجتهاد.
          وإن كان قوله صلعم: (لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ على أَهْلِ بَدْرٍ) دليلًا ليس بحتمٍ، ولكنَّه على أغلب الأحوال، وينبغي أن نحسِّن بالله الظنَّ في أهل بدرٍ وغيرهم من أهل الطاعات.
          وقد اعترض بعض أهل البدع بهذا الحديث على قصَّة مِسطَحٍ حين جُلد في قذف عائشة وكان بدريًّا مغفورًا له، قالوا: وكان ينبغي ألَّا يحدَّ لذلك كما لم يعاقب حاطبٌ؛ لأنَّه كان بدريًّا مغفورًا له.
          فأجاب في ذلك أبو بكر بن الطيِّب الباقلانيُّ، وقال: المراد بقوله صلعم: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرتُ لَكُم) أنَّه غفر لهم عقاب الآخرة ولم يرد بذلك أنَّه غفر لهم عقاب الدنيا.
          وقد أجمعت الأمَّة أنَّ كلَّ من ركب من أهل بدرٍ ذنبًا بينه وبين الله تعالى فيه حدٌّ، أو بينه وبين الخلق من القذف أو الجراح أو القتل فإنَّه عليه فيه الحدُّ والقصاص.
          وليس يدلُّ عقاب العاصي في الدنيا وإقامة الحدود عليه على أنَّه معاقبٌ في الآخرة لقوله صلعم في ماعزٍ والغامديَّة: ((لقد تابا توبةً لو قسمت على أهل الأرض لوسعتهم))، لأنَّ موضع الحدود أنَّها للردع والزجر وحقن الدماء، وحفظ الحريم وصيانة الأموال، وليس في عقاب النار شيءٌ من ذلك.
          فبطل قول من قال: إنَّه كان ينبغي أن يسقط الحدَّ عن مسطحٍ لكونه بدريًّا مغفورًا له؛ لأنَّ الخبر عن غفران ذنوبهم إنَّما هو عن غفران عقاب الآخرة دون الدنيا، ولو أسقط الله عقاب الدارين لكان جائزًا، فغفر لحاطبٍ هفوته في الدنيا؛ إذ رأى ذلك مصلحةً لمَّا غفر له عقاب الآخرة، وقد يجعل الله تعالى لنبيِّه إسقاط بعض الحدود إذا رأى ذلك مصلحةً.
          قال الطبريُّ: وفي قوله صلعم: (وَمَا يُدْرِيكَ، لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ على أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرتُ لَكُم) الدلالة البيِّنة على خطأ ما قالته الخوارج والمعتزلة أنَّه لا يجوز في عدل الله تعالى وحكمته الصفح لأهل الكبائر من المسلمين عن كبائرهم؛ لأنَّه لم يكن مستنكرًا عند النبيِّ صلعم في عدل الله ╡ أن يصفح عن بعض من سبقت له من الطاعة سابقةٌ، وسلفت له من الأعمال الصالحة سالفةٌ عن جميع أعماله السيِّئة التي تحدث منه بعدها صغائر وكبائر، فيتفضَّل بالعفو عنها إكرامًا له لما كان سلف منه قبل ذلك من الطاعة.
          و(خَاخٍ): موضعٌ قريب من مكَّة.
          وقوله: (أَهْوَتِ الى حُجْزَتِهَا، وَهِيَ مُحْتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ). يعني: ضربت بيدها إلى معقد نطاقها من جسدها، وهو موضع حجزة السراويل من الرجل، وقد مرَّ بعض ما فيه من الغريب في كتاب الجهاد. [خ¦3007]
          وأمَّا قوله صلعم في قصَّة مالك بن الدُّخْشُن: (أَلاَ تَقُولُوهُ: يَقُولُ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ) هكذا جاءت والصواب: ((ألا تقولونه يقول: لا إله إلا الله)) بإثبات النون، والمعنى ألا تظنُّونه يقول: لا إله إلا الله، وقد جاء القول بمعنى الظنِّ كثيرًا في لغة العرب بشرط كونه في المخاطب، وكونه مستقبلًا، أنشد سِيبويه لعمر بن أبي ربيعة المخزوميِّ:
أَما الرَّحِيلُ فَدُونَ بعدِ غَدٍ                     فَمَتَى تَقُولُ الدَّارَ تَجْمَعُنا
          يعني: فمتى نظنُّ الدار تجمعنا، ويحتمل أن يكون قوله: (أَلَا تَقُولُوهُ) خطابًا للواحد والجماعة، فإن كان خطابًا للجماعة، فلا يجوز حذف النون؛ إذ لا موجب لحذفها، وإن كان خطابًا للواحد، وهو أظهر في نسق الحديث، فهو على لغة من يشبع الضمَّة كما قال الشاعر:
مِنْ حيثُ مَا سَلَكوا، أَذِنُوا فأَنْظورُ
          وإنَّما أراد فأنظر فأشبع ضمَّة الظاء فحدثت عنها واو.
          وقوله في حديث عمر: (فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ) تقول العرب: ساورته من قولهم: سَارَ الرجل يَسُور سَورًا إذا ارتفع. ذكره ابن الأنباريِّ عن ثعلبٍ، وقد يكون أساوره من البطش؛ لأنَّ السَّورة البطش. عن صاحب «العين».


[1] في (ز): ((وحسان)) وكذا في الموضع بعده، والمثبت من المطبوع وصحيح البخاري.