شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا عرض الذمي وغيره بسب النبي

          ░4▒ باب: إِذَا عَرَّضَ الذِّمِّيُّ وَغَيْرُهُ بِسَبِّ النَّبيِّ صلعم وَلَمْ يُصَرِّحْ نَحْوَ قَوْلِهِ السَّامُ عَلَيْكَم.
          فيه أَنَسٌ: (مَرَّ يَهُودِيٌّ بالنَّبيِّ صلعم، فَقَالَ: السَّامُ عَلَيْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: وَعَلَيْكَ، ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ؟ قَالَ: السَّامُ عَلَيْكَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ: أَلا نَقْتُلُهُ؟ قَالَ: لا، إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ). [خ¦6926]
          وفيه عَائِشَةُ: (اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ على النَّبيِّ صلعم، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، فَقُلْتُ: بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ في الأمْرِ كُلِّهِ، قُلْتُ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ). [خ¦6927]
          وفيه ابْنُ عُمَرَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (إِنَّ الْيَهُودَ إِذَا سَلَّمُوا على أَحَدِكُمْ، إِنَّمَا يَقُولُونَ: سَامٌ عَلَيْكَ، فَقُلْ: عَلَيْكَ). [خ¦6928]
          وفيه ابْنُ مَسْعُودٍ قال: كَأَنِّي أَنْظُرُ إلى النَّبيِّ صلعم يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأنْبِيَاءِ ضَرَبوهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، وهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ. [خ¦6929]
          اختلف العلماء فيمن سبَّ النبيَّ صلعم، فروى ابن القاسم عن مالكٍ أنَّه من سبَّه ◙ من اليهود والنصارى قتل إلَّا أن يُسلِم، وأمَّا المسلم فيقتل بغير استتابةٍ، وهو قول الليث والشافعيِّ وأحمد وإسحاق، عن ابن المنذر.
          وروى الوليد بن مسلمٍ، عن الأوزاعيِّ ومالكٍ فيمن سبَّ النبيَّ صلعم قالا: هي ردَّةٌ يستتاب منها، فإن تاب نُكِّل، وإن لم يتب قتل.
          وقال الكوفيُّون: من سبَّ النبيَّ صلعم أو عابه فإن كان ذمِّيًّا عزِّر ولم يقتل. وهو قول الثوريِّ، قال أبو حنيفة: وإن كان مسلمًا صار مرتدًّا بذلك.
          واحتجَّ الكوفيُّون بحديث أنسٍ وعائشة وابن عمر، قال الطحاويُّ: وقول اليهوديِّ للنبيِّ صلعم: (السَّامُ عَلَيكَ) لو كان مثل هذا الدعاء من مسلمٍ لصار به مرتدًّا يقتل، ولم يقتلهم النبيُّ صلعم بذلك؛ لأنَّ ما هم عليه من الشرك أعظم من سبِّه صلعم.
          وحجَّة من رأى القتل على الذمِّيِّ بسبِّه أنَّه قد نقض العهد الذي حقن دمه؛ إذ لم يعاهد على سبِّه، فلمَّا تعدَّى عهده عاد إلى حال كافرٍ لا عهد له فوجب قتله إلَّا أن يُسلِم؛ لأنَّ القتل إنَّما كان وجب عليه من أجل نقضه للعهد الذي هو من حقوق الله تعالى، فإذا أسلم ارتفع المعنى الذي من أجله وجب قتله.
          وقال محمَّد بن سَحنون: وقولهم إنَّ من دينهم سبَّ النبيِّ صلعم، فيقال لهم: وكذلك من دينهم قتلنا وأخذ أموالنا، فلو قتل واحدًا منَّا لقتلناه؛ لأنَّا لم نعطهم العهد على ذلك، وكذلك سبُّه صلعم إذا أُظهِر.
          فإن قيل: فهو إذا أسلم وقد سبَّ النبيَّ صلعم تركتموه، وإذا أسلم وقد قتل مسلمًا قتلتموه.
          قيل: لأنَّ هذا من حقوق العباد لا يزول بإسلامه، وذلك من حقوق الله تعالى يزول بالتوبة من دينه إلى ديننا، وحجَّةٌ أخرى وهو أنَّ النبيَّ صلعم قال: ((من لكعب بن الأشرف؟ فإنَّه قد آذى الله ورسوله))، فقتله محمَّد بن مسلمة، والسبُّ من أعظم الأذى، وكذلك قتلَ ◙ ابنَ خَطَلٍ يوم فتح مكَّة والقينتين اللتين كانتا تغنيِّان بسبِّه، ولم ينفع ابنَ خطلٍ استعاذتُه بالكعبة.
          وقال محمَّد بن سَحنون: وفرَّقنا بين من سبِّ النبيِّ صلعم من المسلمين وبين من سبِّه من الكفَّار، فقتلنا المسلم ولم نقبل توبته؛ لأنَّه لم ينتقل من دينه إلى غيره، إنَّما فعل شيئًا حدُّه عندنا القتل، ولا عفوَ فيه لأحدٍ، فكان كالزنديق الذي لا تقبل توبته؛ لأنَّه لم ينتقل من ظاهرٍ إلى ظاهرٍ، والكتابيُّ كان على الكفر، فلمَّا انتقل إلى الإسلام بعد أن سبَّ النبيَّ صلعم غفر له ما قد سلف، كما قال الله تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ}[الأنفال:38].
          قال غيره: فقياس الكوفيِّين المسلم إذا سبَّ النبيَّ صلعم على المرتدِّ خطأٌ؛ لأنَّ المرتدَّ كان مظهرًا لدينه فتصحُّ استتابته، والمسلم لا يجوز له إظهار سبِّ النبيِّ صلعم، وإنَّما يكون مستترًا به؛ فكيف تصحُّ له توبةٌ؟! وقال ابن القاسم عن مالكٍ: كذلك من شتم نبيًّا من الأنبياء أو تنقَّصه قتل ولم يستتب، كمن شتم نبيَّنا صلعم، قال الله تعالى: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ}[الأحقاف:35]وكذلك حكم الذمِّيِّ إذا شتم أحدًا منهم يقتل إلَّا أن يسلم، وهذا كلُّه قول مالكٍ وابن القاسم وابن الماجِشون وابن عبد الحكم وأصبغ.
          قال أهل هذه المقالة: إنَّما ترك النبيُّ صلعم قتل اليهوديِّ الذي قال له: سامٌ عليك، كما ترك قتل المنافقين وهو يعلم نفاقهم، ولا حجَّة للكوفيِّين في أحاديث هذا الباب.
          وأمَّا حديث ابن مسعودٍ في الذين ضربوا النبيَّ صلعم وأدموه، فإنَّهم كانوا كفَّارًا، والأنبياء صلى الله عليهم شأنهم الصبر على الأذى، قال الله تعالى لنبيِّه صلعم: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}[الأحقاف:35]فلا حجَّة للكوفيِّين فيه.