شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب حكم المرتد والمرتدة

          ░2▒ باب: حُكْمِ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ وَاسْتِتَابَتهمَا.
          وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ والزُّهْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ: تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ.
          وَقَالَ اللهُ تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ} الآيات[آل عمران:86]، وَقَالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}[آل عِمْرَان:100]وَقَالَ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} إلى {سَبِيلًا}[النساء:137].
          وَقَالَ تعالى: {مَنْ يَرْتَدَّ(1) مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}[المائدة:54].
          وَقَالَ تعالى: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ لا جَرَمَ}[النحل:106]يَقُولُ حَقًّا، {أَنَّهُمْ في الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[النحل:109]إلى {لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(2)}[النحل:110]، {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} إلى قوله {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:217].
          فيه عِكْرِمَةُ قَالَ: أُتِيَ عَلِيٌّ بِزَنَادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحْرِقْهُمْ لِنَهْيِ رَسُولِ اللهِ صلعم: (لا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللهِ)، وَلَقَتَلْتُهُمْ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صلعم: (مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ). [خ¦6922]
          وفيه أَبُو مُوسَى: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم بعثه إلى الْيَمَنِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ إِذَا رَجُلٌ مُوثَقٌ، قَالَ: مَا هَذَا؟! قَالَ: كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ، ثُمَّ تَهَوَّدَ، قَالَ: اجْلِسْ، قَالَ: لا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ، قَضَاءُ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ). [خ¦6923]
          اختلف العلماء في استتابة المرتدِّ، فروي عن عُمَر بن الخطَّاب وعثمان وعليٍّ وابن مسعودٍ أنَّه يستتاب، فإن تاب وإلَّا قتل، وهو قول أكثر العلماء.
          وقالت طائفةٌ: لا يستتاب ويجب قتله حين يرتدُّ في الحال، روي ذلك عن الحسن البصريِّ وطاوسٍ، وذكره الطحاويُّ عن أبي يوسف، وبه قال أهل الظاهر، واحتجُّوا بقوله ◙: ((من بدَّل دينه فاقتلوه))، قالوا: ولم يذكر فيه صلعم استتابةً، وكذلك حديث معاذٍ وأبي موسى قتلوا المرتدَّ بغير استتابةٍ.
          قال الطحاويُّ: جعل أهل هذه المقالة حكم المرتدِّ حكم الحربيِّين إذا بلغتهم الدعوة أنَّه يجب قتالهم دون أن يؤذنوا، قالوا: وإنَّما تجب الاستتابة لمن خرج عن الإسلام لا عن بصيرةٍ منه، فأمَّا إن خرج منه عن بصيرةٍ فإنَّه يقتل دون استتابةٍ.
          قال أبو يوسف: إن بدر بالتوبة، خلَّيت سبيله ووكلت أمره إلى الله تعالى.
          قال ابن القصَّار: والدليل على أنَّه يستتاب الإجماع، وذلك أنَّ عُمَر بن الخطَّاب قال في المرتدِّ: هلَّا حبستموه ثلاثة أيَّامٍ، وأطعتموه كلَّ يوم رغيفًا لعلَّه يتوب فيتوب الله عليه، اللَّهُمَّ لم أحضر، ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني.
          ولم يختلف الصحابة في استتابة المرتدِّ، فكأنَّهم فهموا من قوله صلعم: ((من بدَّل دينه فاقتلوه))، أنَّ المراد بذلك إن لم يتب، والدليل على ذلك قوله تعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ}[التوبة:5]فهو عمومٌ في كلِّ كافرٍ.
          وأمَّا حديث معاذٍ وأبي موسى فلا حجَّة فيه لمن لم يقل بالاستتابة؛ لأنَّه روي أنَّه قد كان استتابه أبو موسى، روى أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدَّثنا عَبَّاد بن العوَّام، عن سعيدٍ، عن قَتادة، عن حميد بن هلالٍ: أنَّ معاذًا أتى أبا موسى وعنده يهوديٌّ أسلم، ثمَّ ارتدَّ، وقد استتابه أبو موسى شهرين، فقال معاذٌ: لا أجلس حتَّى أضرب عنقه.
          واختلفوا في استتابة المرتدَّة، فروي عن عليِّ بن أبي طالبٍ أنَّها لا تستتاب وتسترقُّ، وبه قال عطاءٌ وقَتادة، وروى الثوريُّ عن بعض أصحابه، عن عاصم بن بَهْدَلة، عن أبي رَزينٍ، عن ابن عبَّاسٍ قال: لا تقتل النساء إذا هنَّ ارتددن عن الإسلام، ولكن يحبسن ويجبرن عليه.
          ولم يقل بهذا جمهور العلماء، وقالوا: لا فرق بين استتابة المرتدِّ والمرتدَّة، وروي عن أبي بكرٍ الصدِّيق مثله.
          وشذَّ أبو حنيفة وأصحابه فقالوا بما روي عن ابن عبَّاسٍ في ذلك، وقالوا: إنَّ ابن عبَّاسٍ روى عن النبيِّ صلعم: ((من بدَّل دينه فاقتلوه))، ولم ير قتل المرتدَّة، فهو أعلم بمخرج الحديث، واحتجُّوا بأنَّ النبيَّ صلعم نهى عن قتل النساء، قالوا: والمرتدَّة لا تقاتل، فوجب أن لا تقتل كالحربيَّة.
          وحجَّة الجماعة أنَّها تستتاب قوله صلعم: ((من بدَّل دينه فاقتلوه))، ولفظ ((من)) يصلح للذكر والأنثى، فهو عمومٌ يدخل فيه النساء والرجال؛ لأنَّه صلعم لم يخصَّ امرأةً من رجلٍ.
          قال ابن المنذر: وإذا كان الكفر من أعظم الذنوب وأجلِّ جُرمٍ اجترمه المسلمون من الرجال والنساء، ولله أحكامٌ في عباده وحدودٌ دون الكفر ألزمها عباده، منها الزنا والسرقة وشرب الخمر وحدُّ القذف والقصاص، وكانت الأحكام والحدود التي هي دون الارتداد لازمةً للرجال والنساء مع عموم قوله صلعم: ((من بدَّل دينه فاقتلوه))، فكيف يجوز أن يفرِّق أحدٌ بين أعظم الذنوب فيطرحه عن النساء ويلزمهنَّ ما دون ذلك؟! هذا غلطٌ بَيِّنٌ.
          وأمَّا حديث ابن عبَّاسٍ فإنَّما رواه أبو حنيفة عن عاصمٍ، وقد قال أحمد بن حنبلٍ: لم يروه الثقات من أصحاب عاصمٍ كشعبة وابن عيينة وحمَّاد بن زيدٍ، وإنَّما رواه الثوريُّ عن أبي حنيفة، وقد قال أبو بكر بن عيَّاشٍ: قلت لأبي حنيفة: هذا الذي قاله ابن عبَّاسٍ إنَّما قاله فيمن أتى بهيمةً أنَّه لا قتل عليه، لا في المرتدَّة، قال: فتشكَّك فيه وتلوَّن ولم يقم به، فدلَّ أنَّه خطأٌ.
          ولو صحَّ لكان قول ابن عبَّاسٍ معارضه؛ لأنَّ أبا بكرٍ الصدِّيق مخالفٌ له، وقد قال: تستتاب المرتدَّة. ثمَّ يرجع إلى قوله صلعم: ((من بدَّل دينه فاقتلوه)) الذي هو الحجَّة على كلِّ أحدٍ.
          وأمَّا قياسهم لها على الحربيَّة فالفرق بينهما أنَّ الحربيَّة إنَّما لم تقتل إذ لم تقاتل؛ لأنَّ الغنيمة تتوفَّر بترك قتلها؛ لأنَّها تسبى وتسترقُّ، والمرتدَّة: لا تسبى ولا تسترقُّ، فليس في استبقائها غنمٌ.
          واختلفوا في الزنديق هل يستتاب؟ فقال مالكٌ والليث وأحمد وإسحاق: يقتل ولا تقبل توبته. قال مالكٌ: والزنادقة ما كان عليه المنافقون من إظهار الإيمان وكتمان الكفر.
          واختلف قول أبي حنيفة وأبي يوسف، فمرَّةً قالا: يستتاب، ومرَّةً قالا: لا يستتاب.
          وقال الشافعيُّ: يستتاب الزنديق كما يستتاب المرتدُّ. وهو قول عبيد الله بن الحسن.
          وذكر ابن المنذر عن عليِّ بن أبي طالبٍ مثله.
          وقيل لمالكٍ: لِمَ يُقتَل الزنديق ورسول الله صلعم لم يقتل المنافقين وقد عرفهم؟ فقال: لأنَّ توبته لا تعرف، وأيضًا فإنَّ رسول الله صلعم لو قتلهم وهم يظهرون الإيمان لكان قتلهم بعلمه، ولو قتلهم بعلمه لكان ذريعةً إلى أن يقول الناس قتلهم للضغائن والعداوة، ولامتنع من أراد الإسلام من الدخول فيه إذا رأى النبيَّ صلعم يقتل من دخل في الإسلام؛ لأنَّ الناس كانوا حديث عهدٍ بالكفر. هذا معنى قوله، وقد روي عن النبيِّ صلعم أنَّه قال: ((لئلَّا يقول الناس أنَّه يقتل أصحابه)).
          واحتجَّ الشافعي بقوله ╡ في المنافقين: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً}[المجادلة:16]قال: وهذا يدلُّ على أنَّ إظهار الإيمان جنَّةٌ من القتل، قال: وقد جعل رسول الله صلعم الشهادة بالأيمان تعصم الدم والمال، فدلَّ أنَّ من أهل القبلة من يشهد بها غير مخلصٍ، وأنَّها تحقن دمه وحسابه على الله.
          وقد أجمعوا أنَّ أحكام الدين على الظاهر، وإلى الله تعالى السرائر، وقد قال النبيُّ صلعم لخالد بن الوليد حين قتل الذي استعاذ بالشهادة: ((هلَّا شققت عن قلبه))، فدلَّ أنَّه ليس له إلَّا ظاهره.
          قال: وأمَّا قولهم أنَّه ◙ لم يقتل المنافقين لئلَّا يقولوا أنَّه قتلهم بعلمه، وأنَّه يقتل أصحابه، قيل: وكذلك لم يقتلهم بالشهادة عليهم كما لم يقتلهم بعلمه، فدلَّ أنَّ ظاهر الإيمان جنَّةٌ من القتل.
          وفي سنَّته صلعم في المنافقين دلالةٌ على أمورٍ: منها: أنَّه لا يقتل من أظهر التوبة من كفرٍ بعد إيمانٍ. ومنها: أنَّه حقن دماءهم، وقد رجعوا إلى غير يهوديَّة ولا نصرانيَّة ولا دينٍ يظهرونه، إنَّما أظهروا الإسلام وأسرُّوا الكفر، فأقرَّهم ◙ على أحكام المسلمين، فناكحوهم ووارثوهم، وأسهم لمن شهد الحرب منهم، وتركوا في مساجد المسلمين، ولا أبين كفرًا ممَّن أخبر الله تعالى عن كفره بعد إيمانه.


[1] في (ز): ((ومن يرتدد)) والمثبت من التنزيل والمطبوع.
[2] في (ز) والمطبوع: ((الغفور الرحيم)) والمثبت من التنزيل.