شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من ترك قتال الخوارج للتألف وأن لا ينفر الناس عنه

          ░7▒ باب: مَنْ تَرَكَ قِتَالَ الْخَوَارِجِ لِلتَّأَلُّفِ وَأَلاَّ يَنْفِرَ النَّاسُ عَنْهُ.
          فيه أبو سَعِيدٍ: (بَيْنَما النَّبيُّ صلعم يَقْسِمُ جَاءَ عَبْدُ اللهِ بْنُ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيُّ، فَقَالَ: اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ إِن لَمْ أَعْدِلْ؟ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: ائذن لي فأَضْرِبْ عُنُقَهُ، قَالَ: دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاتَهُ مَعَ صَلاتِهِ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ إلى قُذَذِهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إلى نَصْلِهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ رِصَافِهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ في نَضِيِّهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ إِحْدَى يَدَيْهِ، أَوْ قَالَ: ثَدْيَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ، أَوْ قَالَ: مِثْلُ الْبَضْعَةِ، تَدَرْدَرُ، يَخْرُجُونَ على حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ). [خ¦6933]
          قال أبو سعيدٍ: أشهد سمعت من النَّبيِّ صلعم وأشهد أنَّ عليًّا ☺ قتلهم وأنا معه، حتَّى جيء بالرجل على النعت الذي نعت رسول الله صلعم، فنزلت فيهم: {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ}[التوبة:58].
          وفيه سَهْل بْن حُنَيْفٍ سئل: (هَلْ سَمِعْتَ في الْخَوَارِجِ شَيْئًا؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ وَأَهْوَى بِيَدِهِ قِبَلَ الْعِرَاقِ: يَخْرُجُ مِنْهُ قَوْمٌ يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإسْلامِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ). [خ¦6934]
          لا يجوز ترك قتال من خرج على الأمَّة وشقَّ عصاها.
          وأمَّا ذو الخُوَيصرة، فإنَّما ترك النبيُّ صلعم قتله؛ لأنَّه عذره بجهله، وأخبر أنَّه من قومٍ يخرجون ويمرقون من الدين، إذا خرجوا وجب قتالهم.
          وقد أخبرت عائشة أنَّه صلعم كان لا ينتقم لنفسه إلَّا أن تنتهك حرمة الله، وكان يُعرض عن الجاهلين. وقد وصف الله تعالى كرم خلقه صلعم فقال: {وَإِنَّكَ لَعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم:4].
          قال المُهَلَّب: والتآلف إنَّما كان في أوَّل الإسلام، إذ كان بالناس حاجةٌ إلى تألُّفهم لدفع مضرَّتهم ولمعونتهم، فأمَّا إذا على الله الإسلام ورفعه على غيره فلا يجب التألُّف، إلَّا أن ينزل بالناس ضرورةٌ يحتاج فيها إلى التألُّف، فللإمام ذلك.
          والمروق: الخروج. وقد تقدَّم تفسيره في الباب قبل هذا.
          والرَّمِيَّة: الطريدة المرميَّة. فعيلةٌ بمعنى مفعولةٍ، يقال: شاةٌ رميٌّ: إذا رميت، ويقال: بئس الرميَّة الأرنب. فيدخل الهاء.
          والقَذَذ: ريش السهم، كلُّ واحدةٍ قذَّةٌ، وقال ثابتٌ: قذَّتا الجناحين: جانباه. وقال أبو حاتم: القذَّتان: الأذنان. وأمَّا النَّضِيُّ: فإنَّ أبا عَمْرٍو الشيبانيَّ قال: هو نصل السهم.
          وقال الأصمعيُّ: هو القدح قبل أن ينحت، فإذا نحت فهو مخشوبٌ.
          والحديث يدلُّ أنَّ القول قول الأصمعيِّ؛ لأنَّه ذكر النصل قبل النضيِّ في الحديث.
          وقوله: (سَبَقَ الفَرْثَ وَالدَّمَ) يعني أنَّه مرَّ مرًّا سريعًا في الرميَّة وخرج، ولم يعلق به من الفرث والدم شيءٌ، فشبَّه خروجهم من الدين ولم يتعلَّق منه شيءٌ بخروج ذلك السهم.
          وقوله: (تَدَرْدَرُ): يعني تضطرب، تذهب وتجيء، ومثله تذبذب وتقلقل وتزلزل. الخطَّابيُّ. ومنه دُردُور الماء.