عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب الشركة في الطعام والنهد والعروض
  
              

          ░1▒ (ص) باب الشَّرِكَةِ فِي الطَّعَامِ وَالنَّهْدِ وَالْعُرُوضِ، وَكَيْفَ قِسْمَةُ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ؟ مُجَازَفَةً أَوْ قَبْضَةً قَبْضَةً؟ لِمَا لَمْ يَرَ الْمُسْلِمُونَ بالنِّهْدِ بَأْسًا أَنْ يَأْكُلَ هَذَا بَعْضًا وَهَذَا بَعْضًا، وَكَذَلِكَ مُجَازَفَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالْقِرَانُ فِي التَّمْرِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان حكم الشركة في الطعام، وقد عقد لهذا بابًا مفردًا مستقلًّا يأتي بعد أبواب إن شاء الله تعالى.
          قوله: (وَالنَِّهْدِ) بفتح النون وكسرها وسكون الهاء وبدالٍ مُهْمَلة، قال الأزهريُّ في «التهذيب»: النهد إخراج القوم نفقاتهم على قدر عدد الرُّفقة، يقال: تناهدوا، [وقد ناهد بعضهم بعضًا، وفي «المحكَم»: «النَّهْدُ» الْعَوْن، وطرح نَهْده مع القوم أعانهم وخارجهم، وقد تناهدوا]؛ أي: تخارجوا، يكون ذلك في الطعام والشراب، وقيل: النهد إخراج الرفقاء النفقة في السفر وخلطها، ويسمى بالمخارجة، وذلك جائزٌ في جنسٍ واحد وفي الأجناس، وإن تفاوتوا في الأكل، وليس هذا مِن الربا في شيءٍ، وإِنَّما هو مِن باب الإباحة، وقال ثعلبٌ: هو النهد، بالكسر، قال: والعرب تقول: هات نِهدك، مكسورة النون، وحُكِي عن عَمْرو بن عبيد عن الحسن أنَّهُ قال: أخرجوا نهدكم؛ فَإِنَّهُ أعظم للبركة، وأحسن لأخلاقكم، وأطيب لنفوسكم، وفي «المطالع»: أنَّ القابسيَّ فسَّره بطعام الصلح بين القبائل، وعن قتادة: ما أفلس المتلازمان؛ يعني: المتناهدان، وذكر مُحَمَّد بن عبد الملك التاريخيُّ في كتاب «النِّهد» عن المَدَائِنيِّ وابن الكلبيِّ وغيرهما: أنَّ أَوَّل مَن وضع النهد الحُضَيْن بن المنذر الرَّقَاشِيُّ.
          قُلْت: (الحُضَيْن) بِضَمِّ الحاء المُهْمَلة وفتح الضاد المُعْجَمة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره نون، ابن المنذر بن الحارث ابن وَعْلة بن مُجالد بن يَثْربيِّ بن رَيَّان بن الحارث بن مالك بن شيبان بن ذُهْل، أحد بني رَقَاشٍ، شاعرٌ فارسٌ يُكْنَى أبا ساسان، روى عن عثمان وعليٍّ ☻ وغيرهما، وروى عنه: الحسن البَصْريُّ، وعبد الله الدَّاناج، وعليُّ بن سويد، وابنه يحيى بن حضين، وكان أثيرًا عند بني أميَّة، فقتله أبو مسلم الخراسانيُّ.
          قوله: (وَالْعُرُوضِ) بِضَمِّ العين، جمع (عَرْض) بسكون الراء، وهو المتاع، ويقابل النقد، وأراد به الشركة في العروض، وفيه خلاف؛ فقال أصحابنا: لا يصح شركة مفاوضة ولا شركة عنان إلَّا بالنقدين؛ وهما: الدراهم والدنانير والتِّبْر، وقال مالك: يجوز في العروض إذا اتَّحد الجنس، وعند بعض الشَّافِعِيَّة: يجوز / إذا كان عَرضًا مثليًّا، وقال مُحَمَّد: يصحُّ أيضًا بالفلوس الرائجة؛ لأنَّها برواجها يأحذ حكم النقدين، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يصحُّ؛ لأنَّ رواجها عارضٌ.
          قوله: (وَكَيْفَ قِسْمَةُ مَا يُكَالُ؟) أي: وفي بيان قسمةِ ما يدخل تحت الكيل والوزن؛ هل يجوز مجازفةً أو يجوز قبضةً قبضةً؟ يعني: متساوية، وقيل: المراد بها مجازفة الذهب بالفضَّة والعكس، لجواز التفاضل فيه، وكذا كلُّ ما جاز بالتفاضل مِمَّا يكال أو يوزن مِنَ المطعومات ونحوها، هذا إذا كانت المجازفة في القسمة، وقلنا: القسمة بيعٌ، وقال ابن بَطَّالٍ: قسمة الذهب بالذهب مجازفةً، والفضَّة بالفضة مِمَّا لا يجوز بالإجماع، وأَمَّا قسمة الذهب مع الفضة مجازفةً؛ فكرهه مالكٌ، وأجازه الكوفيُّون والشَّافِعِيُّ وآخرون، وكذلك: لا يجوز قسمة البُرِّ مجازفةً، وكلُّ ما حَرُم فيه التفاضل.
          قوله: (لِما لَمْ يَرَ الْمُسْلِمُونَ) اللام فيه مكسورة والميم مُخَفَّفَة، هذا تعليلٌ لعدم جواز قسمة الذهب بالذهب والفضَّة بالفضَّة مجازفة؛ أي: لأجل عدم رؤية المسلمين بالنِّهد بأسًا، جوزوا مجازفة الذهب بالفضَّة لاختلاف الجنس، بخلاف مجازفة الذهب بالذهب والفضَّة بالفضة لجريان الربا فيه، فكما أنَّ مبنيَّ النِّهد على الإباحة، وإن حصل التفاوت في الأكل، فكذلك مجازفة الذهب بالفضَّة وإن كان فيه التفاوت، بخلاف الذهب بالذهب والفضَّة بالفضَّة؛ لِمَا ذكرنا.
          قوله: (أَنْ يَأْكُلَ هَذَا بَعْضًا) تقديره: بأن يأكل، وأشار به إلى أنَّهم كما جوَّزوا النهد الذي فيه التفاوت، فكذلك جوَّزوا مجازفة الذهب والفضَّة مع التفاوت، لِمَا ذكرنا.
          قوله: (وَالْقِرَانُ فِي التَّمْرِ) بالجرِّ، ويروى: <والإقران> عطفٌ على قوله: (أَنْ يَأْكُلَ هَذَا بَعْضًا) أي: بأن يأكل هذا تمَرَّتينِ، وهذا تمرة تمرة.
          وقد مرَّ الكلام فيه مستوفى في حديثِ ابن عُمَر في (كتاب المظالم) في (باب إذا أذن إنسان لآخر شيئًا جاز).