عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب في بيان العمرة وفي بيان فضلها
  
              

          <باب العمرة وفضلها> فقط؛ أي: هذا باب في بيان العمرة وفي بيان فضلها.
          و(العمرة) في اللغة: الزيارة، يقال: اعتمر فهو معتمر؛ أي: زار وقصد، وقيل: إِنَّها مشتقَّة مِن عُمارة المسجد الحرام، وفي الشرع: العمرة: زيارة البيت الحرام بشروط مخصوصة ذُكِرَت في كتب الفقه.
          (ص) وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ ☻: لَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا وَعَلَيْهِ حجَّة وَعُمْرَةٌ.
          (ش) لمَّا كانت الترجمة مشتملة على بيان وجوب العمرة وبيان فضلها قدَّم بيان وجوبها أولًّا، واستدلَّ عليه بهذا التعليق الذي ذكره عن عبد الله بن عُمَر، ووصله ابن أبي شَيْبَةَ عن أبي خالد الأحمر عن ابن جُرَيْج عن نافع: أنَّ ابن عمر كان يقول: ليس مِن خَلْق الله تعالى أحدٌ إلَّا وعليه حجَّةٌ وعمرةٌ واجبتان، ورواه ابن خزيمة والدَّارَقُطْنيُّ والحاكم مِن طريق ابن جُرَيْج عن نافع عنه مثله بزيادة: مَن استطاع إلى ذلك سبيلًا، فمن زاد على هذا؛ فهو تطوُّعٌ وخيرٌ، وقال سعيد بن أبي عروبة في «المناسِك» عن أيُّوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: الحجُّ والعمرة فريضتان، وقال بعضهم: وجزم المصنِّف بوجوب العمرة، وهو متابِعٌ في ذلك للمشهور عن الشَّافِعِيِّ وأحمد وغيرهما مِن أهل الأثر.
          قُلْت: قال التِّرْمِذيُّ: قال الشَّافِعِيُّ: العمرة سنَّة لا نعلم أحدًا رخَّص في تركها، ليس فيها شيء ثابت / بأنَّها تطوُّع، وقال شيخنا زين الدين ☼ : ما حكاه التِّرْمِذيُّ عن الشَّافِعِيِّ لا يريد به أنَّها ليست بواجبة، بدليل قوله: لا نعلم أنَّ أحدًا رخَّص في تركها؛ لأنَّ السنَّة التي يراد بها خلاف الواجب يُرخَّص في تركها قطعًا، والسنَّة تُطلَق ويُراد بها الطريقة وغير سنَّة الرسول صلعم ، انتهى.
          قُلْت: كأنَّ شيخنا حمل قول الشَّافِعِيِّ: العمرة سنَّة، على معنى أنَّها سنَّة لا يجوز تركها بدليل قوله: ليس فيها شيء ثابت بأنَّها تطوُّع، وذلك لأنَّه إذا لم يثبت أنَّها تطوُّع يكون معنى قوله: إِنَّها سنَّة: أي: سنَّة واجبة لا يُرخَّص في تركها، والذي أشار إليه الشَّافِعِيُّ أنَّهُ ليس بثابت هو مرسل أبي صالح الحنفيِّ، فقد روى الربيع عن الشَّافِعِيِّ أنَّ سعيد بن سالم القدَّاح قد احتجَّ بأنَّ سفيان الثَّوْريَّ أخبره عن يعقوب بن إسحاق، عن أبي صالح الحنفيِّ: أن رسول الله صلعم قال: «الحجُّ جهاد والعمرة تطوُّع».
          قُلْت: هذا منقطع، فصحَّ قوله: إنَّهُ ليس بثابت.
          (ص) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاس: إِنَّها لَقَرِينَتُهَا فِي كِتَابِ اللهِ {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ}[البقرة:196].
          (ش) أي: قال عبد الله بن عَبَّاس: إنَّ العمرة لقرينة الحجَّة في كتاب الله، يعني: مذكورتان معًا في قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ}، وقد أمر الله تعالى بإتمامهما، والأمر للوجوب، ووصل هذا التعليق الشَّافِعِيُّ في «مسنده» عن ابن عُيَينة عن عَمْرو بن دينار: سمعت طاووسًا يقول: سمعت ابن عَبَّاس يقول: والله إِنَّها لقرينتها في كتاب الله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِله}.
          وقال المانعون للوجوب: ظاهر السياق إكمال أفعالهما بعد الشروع فيهما، ولهذا قال بعده: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} أي: صُدِدتم عن الوصول إلى البيت، ومُنِعتم عن إتمامهما، ولهذا اتفقَّ العلماء على أنَّ الشروع في الحجِّ والعمرة مُلْزِم، سواء قيل بوجوب العمرة أو باستحبابها، وقال شعبة عن عَمْرو بن مرَّة عن عبد الله بن أبي سَلَمَةَ عن عليِّ ☺ أنَّهُ قال في هذه الآية: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ والْعُمْرَةَ لِله} قال: أن تُحْرِم مِن دُويرَة أهلك، وكذا قال ابن عَبَّاس وسعيد بن جُبَير وطاوُوس، وعن سفيان الثَّوْريِّ أنَّهُ قال: تمامهما أن تُحْرِم مِن أهلك لا تريد إلَّا الحجَّ والعمرة، وتُهِلُّ مِنَ الميقات، ليس أن تخرج لتجارةٍ ولا لحاجة حَتَّى إذا كنت قريبًا مِن مكَّة، قُلْت: لو حججت أو اعتمرت، وذلك يجزئ، ولكنَّ التمامَ أن تخرج له ولا تخرج لغيره، وقرأ الشعبيُّ: ({وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِله}) برفع {العمرة}، وقال: وليست بواجبة.
          وممَّن قال بفرضيَّة العمرة مِنَ الصحابة: عُمَر بن الخَطَّاب وابنه عبد الله بن عُمَر، وعبد الله بن مسعود، وجابر ♥ ، ومِنَ التَّابِعينَ وغيرهم: عطاء، وطاوُوس، ومجاهد، وعليُّ بن الحسين، وسعيد بن جُبَير، والحسن، وابن سِيرِين، وعبد الله بن شَدَّاد، وابن الحبيب، وابن الجهم، واحتجَّ هؤلاء أيضًا بأحاديث أخرى:
          منها: ما رواه الدَّارَقُطْنيُّ مِن رواية إسماعيل بن مسلم عن مُحَمَّد بن سِيرِين عن زيد بن ثابت ☺ قال: قال رسول الله صلعم : «إنَّ الحجَّ والعمرة فريضتان لا يضرُّك بأيِّهما بدأت»، قُلْت: الصحيح أنَّهُ موقوف، رواه هشام بن حسَّان عن ابن سِيرِين عن زيد.
          ومنها: ما رواه ابن ماجه مِن رواية حبيب بن أبي عَمْرة عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة ♦ قالت: قُلْت: يا رسول الله؛ على النساء جهاد؟ قال: «نعم، عليهنَّ جهاد لا قتال فيه الحجُّ والعمرة»، قُلْت: أخرجه البُخَاريُّ ولم يذكر فيه العمرة.
          ومنها: ما رواه ابن عَدِيٍّ في «الكامل» مِن رواية قُتيبة عن ابن لهيعة، عن عطاء، عن جابر: أنَّ رسول الله صلعم قال: «الحجُّ والعمرة فريضتان واجبتان»، قُلْت: قال ابن عَدِيٍّ: هو عن ابن لهيعة عن عطاء غير محفوظ، وأخرجه البَيْهَقيُّ وقال: ابن لهيعة غير محتجِّ به.
          ومنها: ما رواه التِّرْمِذيُّ مِن حديث عَمْرو بن أوس عن أبي رَزين العُقَيْليِّ: أنَّهُ أتى النَّبِيَّ صلعم فقال: يا رسول الله؛ إنَّ أبي شيخ كبير لا يستطيع الحجَّ والعمرة ولا الظعن، قال: «حُجَّ عن أبيك واعتمر»، قال: هذا حديث حسن صحيح، وأبو رَزين اسمه لقيط بن عامر، قُلْت: أَمَرَه بأن يعتمر عن غيره.
          ومنها: ما رواه الدَّارَقُطْنيُّ مِن رواية يونس بن مُحَمَّد، عن مُعْتَمِر بن سليمان، عن أبيه، عن يحيى بن يعمر، عن ابن عمر، عن عُمَر بن الخَطَّاب ☺ قال: بينا نحن جلوس عند رسول الله صلعم في أُنَاس؛ إذ جاء رجل ليس عليه سحناء سفر... فذكر الحديث، وفيه: فقال: يا مُحَمَّد؛ ما الإسلام؟ قال: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلَّا الله وأنَّ مُحَمَّدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، / وتحجَّ وتعتمر»، وقال الدَّارَقُطْنيُّ: هذا الإسناد ثابت أخرجه مسلم بهذا الإسناد، وقال ابن القَطَّان: زيادة صحيحة، وخرَّجه أبو عَوَانَة في «صحيحه» والجوزقيُّ والحاكم أيضًا.
          قُلْت: المراد بإخراج مسلم له أنَّهُ أخرج الإسناد هكذا، ولم يسق لفظ هذه الرواية، وإِنَّما أحال به على الطرق المتقدِّمة إلى يحيى بن يعمر بقوله: كنَحْو حديثهم، وذكر أبو عمر: وعن الشَّافِعِيِّ وأحمد في رواية: أنَّ العمرة ليست بواجبة، ورُوِي ذلك عن ابن مسعود، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ومالك، وعنه أنَّها سنَّة.
          قُلْت: قال أصحابنا: العمرة سنَّة، وينبغي أن يأتي بها عقيب الفراغ مِن أفعال الحجِّ، واحتجُّوا بما رواه التِّرْمِذيُّ مِن حديث جابر أنَّ النَّبِيَّ صلعم سُئل عن العمرة: أواجبة هي؟ قال: «لا، وأن تعتمروا هو أفضل»، وقال: حديث حسنٌ صحيحٌ.
          فَإِنْ قُلْتَ: قال المنذريُّ: وفي تصحيحه له نظر، فإنَّ في سنده الحَجَّاج بن أرطاة، ولم يحتجَّ به الشيخان في «صحيحيهما»، وقال ابن حِبَّان: تركه ابن المبارك ويحيى القَطَّان وابن معين وأحمد، وقال الدَّارَقُطْنيُّ: لا يحتجُّ به، وإِنَّما رُوي هذا الحديث موقوفًا على جابر، وقال البَيْهَقيُّ: ورَفْعُه ضعيفٌ.
          قُلْت: قال الشيخ تقيُّ الدين ابن دقيق العيد في كتاب «الإمام»: وهذا الحكم بالتصحيح في رواية الكرخيِّ لكتاب «التِّرْمِذيِّ»، وفي رواية غيره: «حسن» لا غير، وقال شيخنا زين الدين ☼ : لعلَّ التِّرْمِذيَّ إِنَّما حكم عليه بالصحَّة لمجيئه مِن وجه آخر، فقد رواه يحيى بن أيُّوب عن عبد الله بن عُمَر، عن أبي الزُّبَير، عن جابر قُلْت: يا رسول الله؛ العمرة فريضة كالحجِّ؟ قال: «لا، وأن تعتمر خير لك»، ذكره صاحب «الإمام» وقال: اعتُرِض عليه بضعف عبد الله بن عُمَر العمريِّ، قُلْت: رواه الدَّارَقُطْنيُّ من رواية يحيى بن أيُّوب عن عُبيد الله بن المغيرة، عن أبي الزُّبَير، عن جابر قال: قُلْت: يا رسول الله؛ العمرة واجبة فريضتها كفريضة الحجِّ؟ قال: «لا، وأن تعتمر خير لك»، ورواه البَيْهَقيُّ مِن رواية يحيى بن أيُّوب عن عُبيد الله غير منسوب عن أبي الزُّبَير، ثُمَّ قال: وهو عُبيد الله بن المغيرة، تفرَّد به عن أبي الزُّبَير، ووهم الباغنديُّ في قوله: عُبيد الله بن عُمَر، وروى ابن ماجه مِن حديث طلحة بن عُبيد الله: أنَّهُ سمع رسول الله صلعم يقول: «الحجُّ جهاد والعمرة تطوُّع»، وروى عبد الباقي بن قانع مِن حديث أبي هُرَيْرَة عن النَّبِيِّ صلعم نحوه، وكذا روى عن ابن عَبَّاس عن النَّبِيِّ صلعم نحوه.
          ثُمَّ اعلم أنَّ الشَّافِعِيَّ ذهب إلى استحباب تكرار العمرة في السنة الواحدة مرارًا، وقال مالك وأصحابه: يُكرَه أن يعتمر في السَّنة الواحدة أكثر مِن عُمْرة واحدة، وقال ابن قُدَامة: قال آخرون: لا يعتمر في شهر أكثر مِن عُمْرة واحدة، وعند أبي حنيفة: تُكرَه العمرة في خمسة أيَّام: يوم عرفة، والنحر، وأيَّام التشريق، وقال أبو يوسف: يكره في أربعة أيَّام: عرفة والتشريق.