عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب ما جاء في التقصير
  
              

          ░1▒ بَابُ مَا جَاءَ فِي التَّقْصِيرِ، وَكَمْ يُقِيمُ حَتَّى يَقْصُرَ؟
          (ش) أي: هذا بابُ في بيانِ حكمِ تقصيرِ الصَّلاةِ؛ أي: جعلِ الرُّبَاعيَّة على ركعتَين، والإجماع على أن لا تقصيرَ في المغربِ والصُّبحِ.
          قوله: (وَكَمْ يُقِيمُ حَتَّى يَقْصُرَ؟) اعلم أنَّ الشُّرَّاح تصرَّفوا في هذا التركيبِ بالرَّطْبِ واليابسِ، وجُلُّ هذا موقوفٌ على معرفةِ لفظةِ (كم)، ولفظة (حَتَّى)، ولفظة (يُقيمُ) ؛ ليفهم معناه بحيث يكونُ حديثُ البابِ مطابقًا له، وإلَّا يحصل الخلفُ بينهما، فتكونُ الترجمةُ في ناحيةٍ وحديثُ البابِ في ناحيةٍ، فنقول: لفظةُ (كم) هنا استفهاميَّةٌ بمعنى: أيُّ عددٍ؟ ولا يكون تمييزه إلَّا مفردًا، خلافًا للكوفيِّين، ويكون منصوبًا، ولا يجوز / جرُّه مطلقًا، كما عُرِفَ في موضعه، ولفظة (حَتَّى) هنا للتعليلِ؛ لأنَّها تأتي في كلام العرب لأحدِ ثلاثةِ معانٍ: انتهاءُ الغايةِ؛ وهو الغالب، والتعليل، وبمعنى (إلَّا) في الاستثناء، وهذا أقلُّها، ولفظة (يُقيمُ) معناها: يمكُثُ، وليس المرادَ منه ضدُّ السفرِ بالمعنى الشرعيِّ، فإذا كان كذلك يكون معنى قوله: (وكم يقيم حَتَّى يقصر؟) و(كم يومًا يمكث المسافر لأجل قصر الصلاة؟) وجوابه مثلًا: تسعةَ عشرَ يومًا؛ كما في حديث الباب، فإنَّ فيه: (أقام النَّبِيُّ صلعم تسعةَ عشرَ يومًا يقصرُ) فنحن إذا سافرنا تسعةَ عشرَ يومًا؛ قصرنا، وإن زدنا أتممنا، فيكونُ مكثُ المسافرِ في سفرِهِ تسعةَ عشرَ يومًا سببًا لجوازِ قصرِ الصلاة، فإذا زاد على ذلك لا يجوز له القصرُ؛ لأنَّ المُسبِّبَ ينتفي بانتفاء السَّببِ.
          فإذا عرفتَ هذا عرفتَ أنَّ الكَرْمَانِيَّ تكلَّف في حلِّ هذا التركيبِ؛ حيث قال أوَّلًا: لا يصحُّ كونُ الإقامةِ سببًا للقصر، ولا القصرُ غايةً للإقامة، ثُمَّ قالَ: عددُ الأيَّامِ سببٌ _أي: مُعرِّفةٌ_ لجوازِ القصر؛ أي: الإقامة إلى تسعةَ عشرَ يومًا سببٌ لجوازه، لا الزيادةُ عليها، وهذا كما ترى تعسُّفٌ جدًّا، وكذا بعضُهم تصرَّفَ فيه تصرُّفاتٍ عجيبةً:
          منها: ما نقل عن غيره بأنَّ المعنى: وكم إقامتُهُ المغيَّاةُ بالقصر؟ وهذا التقديرُ لا يصحُّ أصلًا؛ لأنَّ (كم) الاستفهاميَّةُ على هذا تلتبسُ بالخبريَّةِ، ثُمَّ قوله: (من عندِهِ) وحاصله: (كم يقيم مُقصِرًا) غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ هذا الذي قاله غيرُ حاصلِ ذلك الذي نقلَه، على أنَّ فيه [إلغاء معنى (حَتَّى).
          ومنها: ما نقله عن غيرِهِ أيضًا بقوله: (وقيل: المراد: (كم يقصرُ حَتَّى]
يقيمَ) أي: حَتَّى يُسمَّى مقيمًا، فانقلبَ اللَّفظُ، وهذا أيضًا غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ المرادَ منه ليس كذلك؛ لأنَّه خلافُ ما يقتضيه التركيبُ، على أنَّ فيه نسبةَ التركيبِ إلى الخطأ.
          ومنها: ما قاله مِن عنده؛ وهو قولُهُ: أو «حَتَّى» هنا بمعنى «حين»؛ أي: كم يقيمُ حينَ يقصرَ، وهذا أيضًا غيرُ صحيحِ؛ لأنَّه لم ينقل عن أحدٍ مِن أهل اللِّسانِ أن (حَتَّى) تجيء بمعنى (حين).