الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت

          ░7▒ (بَابٌ): بالتنوين (إِذَا خَافَ الجُنُبُ): يستوي فيه المذكر والمؤنث، ولو مثنى، وجمعاً (عَلَى نَفْسِهِ المَرَضَ): أي: الشديد دون اليسير، كصداع خفيف لو استعمل الماء، أو زيادته أو شيئاً فاحشاً في عضو ظاهر (أَوِ المَوْتَ): بالأولى (أَوْ خَافَ / العَطَشَ): أي: لحيوان محترم من نفسه، أو غيره، ولو في المستقبل (تَيَمَّمَ): ماضياً جواب (إذا)، وللأصيلي، وابن عساكر مضارعاً، فإذا خاف ما ذكر تيمم مع وجود الماء لعموم قوله تعالى في المرض: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى} [النساء:42] وإلحاقاً لغيره به.
          قال في ((الفتح)): مراد البخاري: إلحاق خوف المرض المختلف فيه بين الفقهاء بخوف العطش المتفق عليه. انتهى.
          وروي عن مالك: أنه لا يعدل عن الماء، إلا إذا خاف التلف، والأصح عنده كما في ((المختصر)):أن زيادة المرض، أو تأخر البرء، أو تجدد المرض كالتلف.
          وقال ابن الملقن: قال عطاء، والحسن البصري في رواية: لا يستبيح التيمم بالمرض أصلاً، وكرهه طاووس، وإنما يجوز له التيمم عند عدم الماء، فأما مع وجوده فلا، وهو قول أبي يوسف، ومحمد.
          ونقله العيني عنه، وأقره، ثم قال: وفي قاضي خان: الجنب الصحيح في الحضر اختلفوا فيه على قول أبي حنيفة، فجوزه شيخ الإسلام، ولم يجوزه السرخسي.
          تنبيه: لا قضاء على المتيمم لفقد الماء حساً أو شرعاً، إذا كان بمحل لا يغلب فيه وجود الماء بخلاف المتيمم للبرد جنباً كان أو غيره، فعليه القضاء على الأظهر عندنا خلافاً للحنابلة، والحنفية، والمالكية، فلا يلزمه عندهم القضاء، وكذا عندنا على مقابل الأظهر: لندرة فقد ما يسخن به الماء، أو يدثر به أعضائه، ولم يأمر صلعم عمراً بالإعادة، إما لعلمه بوجوبها، أو لأن القضاء على التراخي، وتأخير البيان لوقت الحاجة جائز، فاعرفه.
          وفي التيمم فروع كثيرة، وتفاصيل، والإعادة وخلاف طويل مذكورة في الفروع الفقهية، فراجعها
          (وَيُذْكَرُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ العَاصِيْ): ☺: ابن وائل السهمي، أسلم عام الحديبية، وولي إمرة مصر مرتين، وهو الذي فتحها، مات بها سنة ثلاث وأربعين، وقيل: بعد الخمسين يوم الفطر، وله سبعون سنة، وصلى عليه ابنه عبد الله، ثم صلى العيد بالناس، روي له سبعة وثلاثون حديثاً: للبخاري ثلاثة.
          هذا وصله أبو داود، والحاكم من طريق يحيى بن أيوب بسنده إلى عمرو بن العاصي قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت أن أغتسل فأهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي الصبح فذكروا ذلك للنبي صلعم فقال: (يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟) فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله يقول: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:20] فضحك رسول الله صلعم، ولم يقل شيئاً، وروياه أيضاً بسندهما إلى عمران، وقال قي القصة: فغسل مغابته وتوضأ، ولم يقل تيمم، وقال فيه: لو اغتسلت مت. وذكر أبو داود أن الأوزاعي روى عن حسان بن عطية هذه القصة، وقال فيها: فتيمم، ورواه عبد الرزاق من وجه آخر عن عبد الله بن عمرو بن العاصي، ولم يذكر التيمم، والسياق الأول أليق بمراد المصنف، وإسناده قوي؛ لكنه علقه بصيغة التمريض لكونه اختصره.
          ووجه الاستدلاله بالآية ظاهر لا سيما من سياق الرواية الثانية؛ لأن استعمال الماء عند شدة البرد، قد يوجب هلاك المستعمل، وقد نهى الله عما يوجب الهلاك بالآية، والرواية الساكتة عن التيمم لا تنافيه.
          وقال البيهقي: يمكن الجمع بين الروايات: بأنه توضأ، ثم تيمم عن الباقي.
          وقال النووي: إنه متعين _أي: عندنا_
          وقوله: (أَجْنَبَ): أي: عمرو بن العاصي خبر (أن) (فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ): وكان في غزوة ذات السلاسل، كما مر التصريح بذلك في رواية أبي داود، والحاكم (فَتَيَمَّمَ): أي: وصلى بأصحابه الصبح (وَتَلَا): بالواو، وللأصيلي: <فتلا> ({وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}): قال البيضاوي: بالنجع كما يفعله جهلة الهند، أو بإلقائها إلى التهلكة، ويؤيده ما روي أن عمرو بن العاصي تأوله في التيمم لخوف البرد، فلم ينكر عليه صلعم، أو بارتكاب ما يؤدي إلى قتلها، أو باقتراف ما يذللها ويرديها؛ فإنه القتل الحقيقي للنفس.
          وقيل: المراد بالأنفس من أهل دينهم؛ فإن المؤمنين كنفس واحدة، جمع في الوصية بين حفظ النفس والمال الذي هو شقيقها من حيث إنه سبب قوامها استبقاء لهم ربما يستكمل النفوس، ويستوفَّى فضائلها رأفة بهم ورحمة، كما أشار إليه بقوله: ({إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء:29]): أي: أمربما أمر ونهى عما نهى لفرط رحمته عليكم، معناه:إنه كان بكم يا أمة محمد رحيماً لما أمر بني إسرائيل بقتل الأنفس، ونهاكم عنه.
          تنبيه: قال في ((الفتح)): وقد أوهم ظاهر سياقه أن عمرو بن العاصي تلا الآية / لأصحابه وهو جنب، وليس كذلك، وإنما تلاها بعد أن رجع إلى النبي صلعم، وكان النبي أمَّره في غزوة ذات السلاسل، كما سيأتي في المغازي، وقدمناه قريباً
          (فَذُكِرَ): بضم الذال بعد الفاء، وللأصيلي: <فذكر ذلك>: بالبناء للفاعل؛ أي: ذكر عمرو الأمر الواقع له من الجنابة (لِلنَّبِيِّ صلعم فَلَمْ يُعَنِّفْ): بتشديد النون؛ أي: لم يعنفه؛ أي: لم يلم النبي صلعم عمراً، فالمفعول محذوف، ويدل له رواية الكشميهني:<فلم يعنفه>: بالتصريح به، وعزاها في (الفرع) لابن عساكر، وعدم تعنيفه تقرير دال على الجواز، ففي الحديث: جواز التيمم لمن يتوقع من استعمال الماء، هلاكاً سواء كان لبرد، أو غيره، وجواز إمامة المتيمم للمتوضئين، وجواز الاجتهاد في زمن النبي صلعم.