الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب التيمم في الحضر

          ░3▒ (بَابُ التَّيَمُّمِ فِي الحَضَرِ، إِذَا لَمْ يَجِدِ المَاءَ وَخَافَ فوْتَ الصَّلَاةِ): وفي نسخة: (فخاف): بالفاء، وللأصيلي: <أو خاف>، وفي رواية:(فوات)، والتقدير: باب صحة التيمم في الحضر وقت عدم وجود الماء، وخوف فوت الصلاة؛ فإذا: ظرفية، ولا حاجة إلى جعلها شرطية، وجوابها:يتيمم محذوفاً، شرط لجوازه في الحضر شرطين: خوف خروج الوقت، وعدم وجود الماء، ويلتحق بذلك عدم القدرة عليه، كما لو وجده في بئر، وليس عنده آلة استقاء، أو حال بينه وبينه نحو سبع
          (وَبِهِ): أي: بجواز تيمم الحاضر الخائف فوت الوقت عند فقد الماء، وتقدير مرجع الضمير: بالجواز، أو نحوه أولى من تقدير ((الفتح)) له: بهذا المذهب (قَالَ عَطَاءٌ): أي: ابن أبي رباح فيما وصله ابن أبي شيبة في ((مصنفه))، وعبد الرزاق من وجه صحيح.
          قال في ((الفتح)): وليس في المنقول عنه تعرض لوجوب الإعادة، وبه قال الشافعي أيضاً؛ لكن مع القضاء لندرة فقد الماء في الحضر، بخلاف السفر، ولا يتقيد عنده خوف فوت الوقت.
          وقال العيني: مذهبنا: جواز التيمم لعادم الماء في الأمصار، ذكره في (الأسرار)، وفي (شرح الطحاوي): التيمم في المصر لا يجوز إلا في ثلاث:
          أحدها: إذا خاف فوت صلاة الجنازة إن توضأ.
          الثاني: عند خوف فوت صلاة العيد.
          الثالث: عند خوف الجنب من البرد بسبب الاغتسال.
          ثم قال: وفي كتاب (الأحكام) لابن بريرة: الحاضر الصحيح يعدم الماء هل يتمم أم لا؟ قلت: قالت طائفة: يتيمم عادم الماء في المصر أو خارجه، وهو مذهب ابن عمر، وعطاء، والحسن، وجمهور العلماء، وقال قوم: لا يتيمم، وعن أبي حنيفة: يستحب لعادم الماء، وهو يرجوه أن يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت ليقع الأداء بأكمل الطهارتين، وعن محمد: إن خاف فوت الوقت يتيمم، وعن أبي يوسف وزفر: لا يصلي إلى أن يجد الماء ولو خرج الوقت.
          وفي شرح (الأقطع): التأخير عن أبي حنيفة، ويعقوب حتم؛ فإن لم يجد الماء تيمم، ثم صلى، قال ابن حزم: وبه قال سفيان بن سعيد، وأحمد، وعطاء، وقال مالك: يصلي في وسط الوقت، وقال مرة: إن أيقن بوجود الماء قبل خروج أخّره إلى وسط الوقت، وإن كان موقناً بأنه لا يجد الماء حتى يخرج الوقت فيتمم في أول الوقت ويصلي، وعن الأوزاعي: كل ذاك سواء، وعند مالك: إذا وجد الحاضر الماء، هل يعيد أم لا؟ فيه قولان في (المدونة)، وقيل: يعيد أبداً
          (وَقَالَ الحَسَنُ): أي: البصري فيما وصله القاضي إسماعيل في (الأحكام) من وجه صحيح (فِي المَرِيضِ عِنْدَهُ المَاءُ): وفي بعضها:(ماء): بالتنكير (وَلَا يَجِدُ مَنْ يُنَاوِلُهُ): أي: يعطيه الماء (يَتَيَمَّمُ): وفي رواية:(تيمم): ماضياً، ومثله ما إذا خاف من استعمال الماء ضرراً، وإن وجد معيناً، ولا قضاء على المريض، روى ابن أبي شيبة من وجه آخر عن الحسن، وابن سرين قالا: لا يتيم ما رجا أن يقدر على الماء في الوقت، ومفهومه قريب مما هنا
          (وَأَقْبَلَ ابْنُ عُمَرَ): أي: ابن الخطاب، ومعه نافع، وقد وصله الشافعي قال: أخبرنا ابن عيينة عن ابن عجلان، عن نافع عن ابن عمر: أنه أقبل من الجرف حتى إذا كان بالمربد تيمم، فمسح وجهه ويديه، وصلى العصر، ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة، فلم يعد الصلاة. وكذا وصله مالك في ((الموطأ)) عن نافع مختصراً؛ لكن ذكر فيه: أنه تيمم فمسح وجهه ويديه إلى المرفقين، ولو ذكر المصنف التيمم هنا، لكان أنسب بمقصود الترجمة.
          وقال العيني: الظاهر: أن حذفه من الناسخ، واستمر الأمر عليه.
          (مِنْ أَرْضِهِ بِالجُرُفِ): بضمتين وقد تسكن الراء: موضع قريب من المدينة على ثلاثة أميال منها إلى جهة الشام، كانوا يعسكرون به إذا أرادوا الغزو، قاله ابن إسحاق، وزعم الزبير أنه على ميل / من المدينة، وهو في الأصل: اسم لما تجرفه السيول، وتأكله الأرض، والجمع: جِرَفَة _بكسر ففتح_ كجحر وأحجرة، وما في العيني من أن جرفاء: جمع جرفة، فمن سبق القلم، فافهم
          (فَحَضَرَتِ العَصْرُ): أو صلاتها، فلذا أنث الفعل (بِمِرْبَدِ النَّعَمِ): بكسر الميم عند الجمهور، وحكى ابن التين: أنه روي بفتحها، وهو كذلك في الفرع؛ لكن الأولى على وفق اللغة، وعليهما: فالراء ساكنة، والموحدة بعدها مفتوحة آخره دال مهملة. والنَّعَم _بفتحتين_ واحد الأنعام، وهي المال الراعية، وأكثر ما يقع على الإبل، ولذا أضيف المربد إليها؛ لأنها كانت تحبس فيه، ومنه سمي مربد البصرة، قاله في ((الصحاح)).
          وقال في ((المحكم)): المربد: منحبس الإبل، وقيل: هي خشبة، أو عصي تعترض صدور الإبل، فتمنعها من الخروج.
          وهو على ميلين من المدينة لا ميل كما في (الفتح) فهو حكم الحضر، فلذا دخل في الترجمة، وحصلت المطابقة
          (فَصَلَّى): أي: العصر بعد أن تيمم كما مر (ثُمَّ دَخَلَ المَدِينَةَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ) أي: عن أفق المغيب (فَلَمْ يُعِدْ): بضم التحتية؛ أي: الصلاة، وتقدم بيان المذاهب في هذه المسألة أول الباب وأن مذهب الشافعي وجوب الإعادة على من صلى بتيمم لفقد الماء في الحضر، وما في حكمه من السفر؛ لأنه يندر فقد الماء فيه، وظاهر ما ذكر: أن ابن عمر لم يراع خروج الوقت، لكونه دخل المدينة والشمس مرتفعة، ولعله ظن أنه لا يصل إلا بعد خروج الوقت، ويحتمل أنه تيمم لا عن حدث، بل تجديداً؛ لأنه لما أراد الصلاة، ولم يجد الماء كعادته اقتصر على التيمم بدل الوضوء.
          قال سحنون في (شرح الموطأ): كان ابن عمر على وضوء؛ لأنه كان يتوضأ لكل صلاة، فجعل التيمم عند عدم الماء عوض الوضوء، وعليه أيضاً: فالمطابقة للترجمة موجودة، لا كما قال في ((الفتح)) لأن الإعادة لا تعرض لها في الترجمة بنفي ولا إثبات، نعم لا حجة فيه على هذا الاحتمال لمن أسقط الإعادة عن المتيمم في الحضر؛ لأنه حينئذ لا تجب عليه الإعادة اتفاقاً.