الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء

          ░6▒ (بَابٌ): بالتنوين (الصَّعِيْدُ الطَّيِّبُ): أي: التراب الطاهر، وقيل: الطيب: الحلال، فلا يصح التيمم بالتراب النجس اتفاقاً على القولين، وكذا بالمستعمل عند الشافعية، ولا يشترط فيه أن يكون حلالاً عند الجمهور خلافاً للحنابلة كالوضوء.
          وفي ((الصحاح)): الصعيد: التراب، وقال ثعلب: وجه الأرض لقوله تعالى: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف:40] والجمع: صعد، وصعدات، مثل: طريق، وطرق، وطرقات.
          قال ابن بطال: اختلف الفقهاء، فقال مالك، وأبو حنيفة: يجوز التيمم على كل أرض طاهرة، سواء كانت حجراً لا تراب عليها، أو غير ذلك، وقال الشافعي: التراب شرط في صحة التيمم، وقال بعض المالكية: جاز بالصخرة المغسولة، وبكل ما اتصل بالأرض من الخشب وغيره، وذهب الأوزاعي إلى أنه يجوز بالثلج، وكلما على الأرض. انتهى.
          وأقول: وهو قول لبعض المالكية أيضاً.
          قال ابن الحاجب في (مختصره الفقهي): وفي الملح والثلج روايتان لابن القاسم، وأشهب انتهى.
          بل قد يشمله قول ابن بطال السابق: وبكل ما اتصل من الأرض..إلخ، فتأمل.
          وذهب أبو يوسف إلى أنه لا يصح التيمم إلا بالتراب، أو الرمل
          (وَضُوءُ المُسْلِمِ): خبر (الصعيد)؛ أي: مثل وضوئه، وهو بفتح الواو ويجوز ضمها بتكلف فتدبر.
          والتقييد به؛ لأنه الغالب، وإلا فيغني عن الغسل أيضاً، فلو ذكر المصنف الحديث الذي رواه أحمد، وأصحاب السنن الآتي المعبر فيه بطهور، لكان أعم، ولعله لم يثبت عنده.
          قال في ((الفتح)): وهذه الترجمة لفظ حديث، أخرجه البزار عن أبي هريرة مرفوعاً وصححه ابن القطان؛ لكن صوب الدارقطني إرساله.
          وقوله: (يَكْفِيهِ مِنَ المَاءِ): (من): بمعنى عن، أو للبدل، أو خبر ثاني للمبتدأ، أو حال، أو مستأنف استئنافاً بيانياً؛ أي: يغني التيمم بالتراب الطهور عن الماء، أو بدله عند فقده حساً أو شرعاً، وهذا صادق بكونه مثل الوضوء في أنه يصلي به ما شاء من الفرائض من غير حصر، وبكونه يجزئه عن الماء في فريضة واحدة ونوافل.
          لكن مراد المصنف: الأول، فقد قال الكرماني وغيره: وغرضه: أن التيمم حكمه حكم الوضوء في جواز أداء الفرائض به المتعددة ما لم يحدث، وروى الحديث أحمد في ((مسنده)) وأصحاب السنن، والحاكم، وابن حبان في صحيحه بأسانيدهم إلى أبي ذر؛ لكن بلفظ: (إن الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين)، ولا يلتفت إلى تضعيف ابن القطان له بعمرو بن بُجْدان _بضم الموحدة وسكون الجيم وبالدال المهملة آخره نون قبلها ألف_ قال: لأن حاله لا يعرف؛ فإن تصحيح غيره له من الأئمة يشعر بمعرفتهم لحاله، فقد قال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم في ((المستدرك)): حديث صحيح، وكذا ابن حبان والدارقطني.
          قال العيني: وتخصيص العشرة لأجل الكثرة؛ لأنها منتهى عدد الكثرة. /
          انتهى.
          وأقول: فيه: أنها منتهى عدد القلة على ما اشتهر، أو مما صدقات الكثرة على التحقيق.
          فعليك بمراجعة (شرح التسهيل) للدماميني، قال فيه: التفريق بين جمع القلة وجمع الكثرة: بأن الأول: للعشرة فما فوقها، والثاني: لما فوق العشرة، أمر قد اشتهر وشاع قديماً وحديثاً بين الطلبة والعلماء، ووقع لمولانا سعد الدين التفتازاني في (التلويح) زيادة كلام في ذلك فقال: واعلم أنهم لم يفرقوا في هذا المقام بين جمع القلة، وجمع الكثرة، فدل بظاهره على أن التفريق بينهما إنما هو في جانب الزيادة بمعنى: أن جمع القلة مختص بالعشرة فما دونها، وجمع الكثرة غير مختص، لا أنه مختص بما فوق العشرة، وهذا أوفق بالاستعمالات، وإن صرح بخلافه كثير من الثقات. انتهى.
          فإن أراد العيني: أنها منتهى الكثرة من أسفل، فلا ينفع في مقصوده من أنه اختارها لأجل الكثرة. وأجاب بعضهم بأن مراده: أنها منتهى عدد الكثرة؛ أي: للأفراد المنفردة فيستقيم ما قاله، وخرج بالمنفردة نحو أحد عشر وخمسة وعشرين، ثم رأيت في بعض النسخ ما يدل على أن هذا مراده حيث قال: لأنها منتهى عدد الآحاد. انتهى، فتأمل.
          ثم قال العيني: والمعنى: أن له أن يفعل التيمم مرة بعد أخرى، إن بلغت مدة عدم الماء إلى عشر سنين، وليس معناه: أن التيمم دفعة واحدة يكفيه عشر سنين.
          وأقول: ما المانع من إرادة ما نفاه؟ ويكون الغرض: المبالغة في أنه يجوز أن يصلي بالتيمم الواحد ما شاء من الفرائض، ويكون حجة للقائل بجواز الفرائض بتيمم واحد، وهو مذهب البخاري، وأبي حنيفة، وآخرين كما سيأتي التصريح في كلام الشارح، وإن كان حمل الحديث على ذلك خلاف الظاهر، لكنه يوافق غرض البخاري؛ فإن مقصوده من الترجمة ما تقدم.
          بل ادعى ابن الملقن أن حمله على ما ذكر هو الظاهر حيث قال: وحاصل الأقوال ثلاثة:
          أحدها: يصلي به ما لم يحدث.
          ثانيهما: يصلي به فرضاً واحداً.
          ثالثها: كذلك إلا الفوائت.
          ثم قال: وأما حديث أبي ذر مرفوعاً: (الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين)، فهو ظاهر للقول الأول؛ لكن للقائل الثاني أن يقول: إنما سماه وضوءاً لقيامه مقامه، ولا يلزم من ذلك أن يقوم مقامه في كل وجه. انتهى، فتأمله وأنصف.
          (وَقَالَ الحَسَنُ): أي: البصري (يُجْزِئُهُ): بضم التحتية أوله وبهمز آخره؛ أي: يكفي الشخص المتيمم (التَّيَمُّمُ): فاعل (يجزئه): أي: في صحة الصلوات، ولو فروضاً (مَا لَمْ يُحْدِثْ): أي: مدة عدم حدثه، فيجزئه: من الإجزاء بمعنى الكفاية لغة، وأما اصطلاحاً: فهو الأداء الكافي لسقوط التعبد به.
          قال الكرماني _وتبعه البرماوي، والعيني_ وفي بعضها:(يَجزيْه): بفتح الياء الأولى وسكون الثانية. قال الجوهري: جزأت بالشيء: اكتفيت به، وجزأ عني؛ أي: قضى، فهو على التقديرين لازم، فلعل التقدير: يقضي عن الماء التيمم، فحذف الجار، وأوصل الفعل. انتهى.
          وأقول: فضمير (يجزئه) على هذا الوجه: راجع إلى وضوئه في الترجمة على حذف الجار، وإيصال الفعل؛ لأنه لازم، ولو ضمن الفعل في الوجه الأخير معنى يكفي لم يحتج إلى الحذف والإيصال، وكان الضمير عائداً على المتيمم، وكان أقل تكلفاً، وأوضح معنى، فتدبر.
          ولا ينبغي هنا ذكر جزأت بالشيء بمعنى: اكتفيت، لعدم استقامة المعنى عليه، سواء أعاد الضمير على الوضوء أو المتيمم، فتدبر.
          وأثر الحسن قد وصله عبد الرزاق بلفظ: يجزئ تيمم واحد ما لم يحدث، وكذا وصله ابن أبي شيبة أيضاً بلفظ: لا ينقض التيمم إلا الحدث، وكذا وصله سعيد بن منصور عنه بلفظ: التيمم بمنزلة الوضوء إذا تيممت فأنت على وضوء حتى تحدث.
          قال في ((الفتح)): وهو أصرح في مقصود الباب، وكذا ما أخرجه حماد بن سلمة في ((مصنفه)) عن الحسن قال: تصلي الصلوات كلها بتيمم واحد ما لم تحدث.
          فهذه الآثار تدل لما ذهب إليه المصنف أن التيمم يجوز أن يصلي به فروضاً مطلقاً، ونوافل كما تقدم.
          وقال الكرماني نقلاً عن ابن بطال: قال الحسن، والكوفيون: يصلي بالتيمم جميع الصلوات ما لم يحدث؛ لأنه مرتب على الوضوء، وله حكمه، والأئمة / الثلاثة: لا يصلي بالتيمم الواحد إلا صلاة واحدة، إذ ليست الطهارة بالصعيد مثل الطهارة بالماء، وإنما هي طهارة ضرورة لاستباحة الصلاة قبل خروج الوقت بدليل بطلانها بوجود الماء قبل الصلاة، وأن الجنب يعود جنباً إذا وجد الماء، والوضوء بالماء لا يبطل، ولذلك أمر من صلى به بطلب الماء لصلاة أخرى، وأن المتوضئ يجوز له أن يتوضأ للصلاة قبل وقتها، والمتيمم لا يجوز له ذلك، فإذا لم يجز له أن يتيمم للعصر مثلاً حتى يدخل وقتها وجب أن يكون التيمم للعصر لا يجزئ للمغرب إذا كان متيمماً لها قبل وقتها؛ لأن العلة المانعة له من التيمم للعصر قبل وقتها هي المانعة له من المغرب. انتهى.
          قال العيني: وقد طول الكرماني في الاحتجاج للشافعي، ومن تبعه في هذا من طريق العقل، والنقل يبطله.
          وأقول: لا يبطله النقل المذكور؛ لأنه ليس بأحاديث بل بآثار، وهي ليست بحجة على الشافعي؛ لأن قول الصحابي ليس بحجة عنده فضلاً عن التابعي، فهو جواب عنه، فتدبر. وإن كان نقل غيره على أن الظاهر: أن هذا كله من كلام ابن بطال.
          ثم رأيت ابن حجر المكي قال: كما صح عن ابن عمر، قال البيهقي: ولم يعرف له مخالف من الصحابة، بل روى الدارقطني عن ابن عباس: من السنة أن لا يصلي بتيمم واحد إلا صلاة واحدة، ثم يحدث للثانية تيمماً، وقول الصحابي: من السنة، في حكم المرفوع؛ ولأنه طهارة ضعيفة؛ ولأن الوضوء كان يجب لكل فرض، فنسخ يوم الخندق، فبقي التيمم على الأصل من وجوب الطهر لكل فرض. انتهى، فتأمل.
          وقال في ((الفتح)): وقد اعترف البيهقي بأنه ليس في المسألة حديث صحيح من الطرفين؛ لكن صح عن ابن عمر إيجاب التيمم لكل فريضة، ولا يعلم له مخالف من الصحابة، وتعقب: بما رواه ابن المنذر، عن ابن عباس أنه لا يجب. انتهى.
          وأقول: قد يدفع التعقب: بأنه لم يصح عن ابن عباس ما ذكر، فتدبر.
          ثم قال في ((الفتح)): واحتج المصنف لعدم الوجوب بعموم قوله في حديث الباب:(فإنه يكفيك): أي: ما لم تحدث، أو تجد الماء، وحمله الجمهور على الفريضة التي يتيمم من أجلها، ويصلي به ما يشاء من النوافل؛ فإذا حضرت فريضة أخرى وجب عليه طلب الماء؛ فإن لم يجد تيمم.
          واعترضه العيني فقال: معنى:(فإنه يكفيك): أي: في كل الصلوات فرضها ونفلها، وهذا هو معنى الأعمية، وليس في قوله: لفريضة واحدة، وما شئت من النوافل، معنى الأعمية، إذ هي: أن يكون شاملاً لجميع أفراد ذلك الشيء، وليس لقوله: فريضة واحدة أفراد، وأما النوافل فإنها تبع للفرض، والتابع ليس له حكم مستقل، بل حكمه حكم المتبوع، فافهم. انتهى.
          وأقول: فريضة واحدة فيها شمول أيضاً بدلي لا استغراقي، فيكفي أن يصلي بالتيمم الواحد أي فريضة كانت على أن الحديث: (عليك بالصعيد فإنه يكفيك) وليس فيه: ما لم تحدث، أو تجد الماء، ولو كذلك لكان نصاً في مقصوده، وحينئذ فهو مجمل صادق بالحملين، فتأمل وأنصف.
          وقال في ((الانتقاض)): ليس ما قاله محل النزاع، فتدبر.
          وقال في ((الفتح)) أيضاً: وفي الاستدلال بهذا _أي: بأنه طهارة ضرورة..إلخ_ على عدم جواز أكثر من فريضة بتيمم واحد نظر، وقد أبيح عند الأكثر بالتيمم الواحد النوافل مع الفريضة إلا أن مالكاً يشترط تقدم الفريضة، وشذ شريك القاضي فقال: لا يصلي بالتيمم الواحد أكثر من صلاة واحدة فرضاً كانت أو نفلاً، قال ابن المنذر: إذا صحت النوافل بالتيمم الواحد صحت الفرائض؛ لأن جميع ما يشترط للفرائض فيشترط للنوافل، إلا بدليل. انتهى.
          وأقول: قد خرج النفل لدليل، وهو التخفيف فيه لكثرته، كما خفف فيه لترك القيام؛ ولأنه وإن تعدد في حكم صلاة واحدة بدليل أنه لو أحرم بركعة في النفل المطلق، فله أن يجعلها مائة ركعة وبالعكس، ولغير ذلك. فتأمل.
          تنبيه: مذهب القائلين: بأنه لا يستبيح بالتيمم أكثر من فرض لا يصح أن ينوي به رفع الحدث، بل الاستباحة؛ فإن نوى استباحة / فرض _يعني: ولو نذر، وطواف_ استباحه والنفل، وإن نوى مطلق الصلاة، أو فرض الكفاية، أو النفل استباحة دون الفرض، أو نوى استباحة ما دون الصلاة كالمكث في المسجد، والتمكين لم يستبح به صلاة أصلاً، فالمراتب ثلاثة، وعند الحنابلة: أعلاه فرض عيني، فنذر فكفاية فنافلة فطواف، فمس مصحف، فقراءة فلبث كما في (المنتهى).
          وقال ابن الملقن: وذكره _أي: إجزاء التيمم ما لم يحدث_ ابن المنذر عن ابن المسيب، والزهري، والثوري، وابن عباس، وأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، والليث، والحسن بن ص، وداود، وابن حزم، والمزني وهو قول أبي حنيفة والكوفيين، وقال مالك: لا يصلي صلاتي فرض بتيمم واحد؛ فإن تيمم وتطوع فلا بد له من تيمم آخر للفريضة، فلو تيمم وصلى الفريضة جاز له أن يتنفل بعدها بذلك التيمم.
          وقال الشافعي: يتيمم لكل صلاة فرض، وله أن يتنفل قبلها أوبعدها بذلك التيمم، وروي مثله عن النخعي، وقتادة، وربيعة، ويحيى بن سعيد الأنصاري وهو قول الليث وأحمد، وإسحاق.
          وقال أبو ثور: يتيمم لكل وقت صلاة فرض، إلا أنه يصلي الفوائت من الفروض كلها بتيمم واحد، وذكره البيهقي من طريق ابن عباس، وابن عمر من طريق ضعيف ومن طريق قتادة عن عمرو بن العاصي، والحارث عن علي.
          قال ابن حزم: الرواية عن ابن عباس ساقطة، وقد روي نحو قولنا عن ابن عباس أيضاً، قال: والرواية عن علي وابن عمر لا تصح، قال: وحديث عمر رواه عنه قتادة، وقتادة لم يولد إلا بعد موته. انتهى.
          ثم قال: قال جماعة: يصح التيمم للفرض قبل وقته، منهم: الليث، وابن شعبان المالكي، وأهل الظاهر، والمزني، وقال ابن رشيد في (قواعده): واشتراط دخول الوقت ضعيف؛ فإن التأقيت في العبادة لا يكون إلا بدليل سمعي، ويلزم من ذلك أنه لا يجوز إلا آخر الوقت. انتهى.
          والنفل المؤقت ملحق عند الشافعية بالفرض من حيث إنه لا يصح أن يتيمم له قبل دخول وقته على الأصح، وللتيمم أحكام كثيرة مفصلة في الفروع.
          (وَأَمَّ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ مُتَيَمِّمٌ): أي: صلى إماماً، وهو متيمم بمن كان متوضئاً، وهذا التعليق وصله ابن أبي شيبة، والبيهقي، وغيرهما بإسناد صحيح، وسيأتي مثله لعمرو بن العاصي.
          وفي ابن الملقن: قال أبو طالب: سألت أبا عبد الله عن الجنب أيؤم المتوضئين؟ فقال: نعم، قد أم ابن عباس أصحابه، وهو جنب فتيمم، وعمرو بن العاصي صلى بأصحابه وهو جنب، فأخبر النبي صلعم فتبسم. انتهى.
          قال في ((الفتح)): وأشار المصنف بما نقله عن ابن عباس إلى أن التيمم يقوم مقام الوضوء ولو كانت الطهارة به ضعيفة لما أم ابن عباس وهو متيمم من كان متوضئاً، وهذه المسألة وافق فيها البخاري الكوفيين، والجمهور، وذهب بعضهم من التابعين، وغيرهم إلى خلاف ذلك، وحجتهم: أن التيمم طهارة ضعيفة لاستباحة الصلاة قبل خروج الوقت، ولذلك أعطى النبي صلعم الذي أجنب، فلم يصلي الإناء من الماء ليغتسل به بعد أن قال له: (عليك بالصعيد فإنه يكفيك) لأنه وجد الماء فيبطل تيممه. انتهى.
          واعترض العيني قوله: هذه المسألة وافق فيها الكوفيون، والجمهور على خلاف ذلك. انتهى فقال: هذا عكس القضية، بل الجمهور على الموافقة، يقف عليه من يمعن النظر في الكتب. انتهى.
          وأقول: الذي في ((فتح الباري)) هكذا: وهذه المسألة وافق فيها البخاري الكوفيين، والجمهور.
          ولا إشكال فيها، وعلى ثبوته أن نسخته كما قاله العيني، فلا يرد عليه شيء؛ لأن ما نقله عن الجمهور من المخالفة في جواز فروض التيمم واحد لا في صحة اقتداء بالمتيمم كما يظهر بالتأمل في سوابق الكلام ولواحقه، ولا شك حينئذٍ أن الجمهور خالفوا فيه، تأمل، نعم ما ذكره العيني هو الظاهر من كلام ((الفتح)).
          وجعل في ((الانتقاض)) قوله: هذه المسألة المراد بها: أن التيمم يرفع الحدث.
          وقال الأوزاعي: لا يؤم متيمم متوضئاً؛ لأن شأن الإمامة الكمال، ومعلوم أن الطهارة بالصعيد طهارة ضرورة فأشبه الأمي يؤم من يحسن القراءة.
          وقال ابن الملقن: وهذا من البخاري يدل أنه كالوضوء، وهذه المسالة خلافية أجازها مالك، وأبو حنيفة، وأبو / يوسف، وزفر، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأهل الظاهر، وأبو ثور.
          قال ابن حزم: وروي ذلك عن ابن عباس، وعمار، وجماعة من الصحابة، وهو قول سعيد بن المسيب، والحسن، وعطاء، والزهري، وحماد، ومنعه الأوزاعي، ومحمد بن الحسن، وحكي عن علي، والنخعي، والحسن، وكرهه مالك، وعبد الله بن الحسن مع الإجزاء، وقال ربيعة: لا يؤم المتيمم من جنابة إلا من هو مثله، وبه قال يحيى بن سعيد الأنصاري. ونقل ابن حزم عن الأوزاعي: أنه لا يؤمهم إلا إن كان أميراً، وهو مخالف لما نقل ابن بطال، وابن التين عنه من المنع. انتهى.
          وأقول: لكن قيد الشافعية جواز اقتداء المتوضئ بالمتيمم بمن لا تلزمه إعادة الصلاة وإلا فلا.
          وقال ابن الملقن أيضاً: وأما حديث جابر مرفوعاً:(لا يؤم المتيمم المتوضئ)، وحديث علي الموقوف: لا يؤم المتيمم المتوضئين، ولا المقيد المطلقين، فضعيفان، ضعفهما الدارقطني، وابن حزم، وغيرهما، وأطال بما نقله العيني
          (وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ): بكسر العين؛ أي: الأنصاري الآتي في السند قريباً (لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ عَلَى السَّبَخَةِ): بسين مهملة فموحدة فخاء معجمة مفتوحات، وهي الأرض المالحة التي لا تكاد تنبت شيئاً.
          وقال الجوهري: السبخة: واحدة السباخ وأرض سبِخة _بكسر الموحدة_ ذات سباخ.
          وفي ((القاموس)): السبخة _محركة ومسكنة_ أرض ذات نزو ملح، والجمع: سباخ.
          وقوله: (وَالتَّيَمُّمِ بِهَا): معطوف على الصلاة، وفيه المطابقة. احتج ابن خزيمة لجواز التيمم بالسبخة بحديث عائشة أنه صلعم قال: (رأيت دار هجرتكم سبخة ذات نخل): يعني: المدينة، وقد سماها النبي صلعم طيِّبة _أي: بتشديد التحتية_ فدل على أن السبخة داخلة في الصعيد الطيب.
          قال ابن الملقن: وهو مذهب جميع العلماء خلافاً لإسحاق بن راهويه.
          وقال في ((الفتح)): وهذا الأثر يتعلق بقوله في الترجمة:(الصعيد الطيب): أي: أن المراد بالطيب: الطاهر، وأما (الصعيد): فقد تقدم نقل الخلاف فيه، وأن الأظهر اشتراط التراب، ويدل له قوله تعالى: {فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} [المائدة:6]؛ فإن الظاهر: أنها للتبعيض. قال ابن بطال: لا يقاس مسح منه إلا إذا أخذ منه جزءاً، وهذه صفة التراب لا صفة الصخر الذي لا يمكن الأخذ منه، فالجواب: أنه يجوز أن يكون: {مِّنْهُ}: صله كقوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء} [الإسراء:82]، والقرآن كله شفاء؛ فإن قيل: روي في الحديث: (وتربتها طهور)، إذ هو نص في التراب، وزيادة الثقة يجب قبولها، قلنا: نحن نقول بالزائد والمزيد عليه، فيجوز الأمرين جميعاً فهو أولى من الاقتصار على الزائد فقط.
          رده الكرماني فقال: أما الجواب بأنه صلة، فتعسف، قال في ((الكشاف)): فإن قلت: لا يفهم أحد من العرب من قول القائل: مسحت برأسه من الدهن، ومن الماء، ومن التراب إلا معنى التبعيض، قلت: هو كما تقول، والإذعان للحق أحق من المراء، وأما بأن نقول بالزائد، والمزيد عليه فغير صحيح إذ المطلق والمقيد إذا اتحد سببهما يجب حمل المطلق على المقيد عملاً بالدليلين، فلو جوزناه بغير التربة، لكان إهمالاً للمقيد، فلا نقول إلا قولاً بالمزيد عليه فقط.