الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي

          335- وبه قال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ): بكسر السين المهملة وتخفيف النونين بينهما ألف، زاد الأصيلي: <وهو العَوَقي>: بفتحتين فقاف: نسبة إلى عوقة: بطن من عبد القيس، ومحلة لهم بالبصرة، كذا في (لب الألباب) للسيوطي
          (قَالَ: حَدَّثَنَا): وفي رواية: (أخبرنا) (هُشَيْمٌ): مصغراً: ابن بشير _مكبراً_ الواسطي، وهو أحد أئمة الحديث، جاء رجل من العراق يذاكر مالكاً بحديث، فقال مالك: وهل في العراق أحد يحسن أن يحدث إلا ذاك الواسطي؟ يعني: هشيماً، مات سنة ثلاث وثمانين ومائة ببغداد، وقد قارب الثمانين.
          قال في ((التقريب)): ثقة ثبت كثير التدليس، والإرسال الخفي.
          (ح): في بعض النسخ للتحويل (قَالَ): أي: البخاري (وَحَدَّثَنِي): بالإفراد لغير الأصيلي (سَعِيدُ): مكبراً (ابْنُ النَّضْرِ): بسكون الضاد المعجمة بعد النون المفتوحة: أبو عثمان البغدادي، مات بآمل جيحون، سنة أربع وثلاثين ومائتين (قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ): أي: المذكور آنفاً (قَالَ: أَخْبَرَنَا سَيَّارٌ): بفتح السين المهملة وتشديد التحتية وبالراء بعد الألف: ابن أبي سيار وردان _بفتح الواو وسكون الراء وبالدال المهملة_ مات بواسط سنة اثنتين وعشرين ومائة.
          وقال في ((الفتح)): هو أبو الحكم العنزي البصري، اتفقوا على توثيقه، وأخرج له الستة وغيرهم، وقد أدرك بعض الصحابة؛ لكن لم يلق احداً منهم، فهو من كبار أتباع التابعين، ولهم شيخ آخر يقال له: سيار؛ لكنه تابعي شامي، أخرج له الترمذي، وذكره ابن حبان في (الثقات).
          وروي معنى حديث الباب عن أبي أمامة، ولم ينسب في الرواية، كما لم ينسب سيار هذا، فربما ظنهما بعض من لا تميز له واحداً فيظن أن في الإسناد اختلافاً، وليس كذلك
          (قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ): من الزيادة، مكبراً (هُوَ ابْنُ صُهَيْبٍ) كما في (الفرع) منسوباً لغير أبي ذر، والأصيلي، وأبي الوقت، وابن عساكر (الفَقِيرُ): لقب به لا لفقره، بل لأنه كان يشكو فقار ظهره، ويقال له: فقِّير _بالتشديد_ وهو أحد مشايخ أبي حنيفة رحمهما الله (قَالَ: أَخْبَرَنَا): وفي رواية: (حدثنا) (جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ): ☺.
          قال في ((الفتح)): مدار حديث جابر هذا على هشيم بهذا الإسناد، وله شواهد من حديث ابن عباس، وأبي موسى، وأبي ذر من رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، رواها كلها أحمد بأسانيد حسان
          (أَنَّ النَّبِيَّ صلعم قَالَ): كان ذلك القول عام غزوة تبوك كما في حديث عمرو بن شعيب (أُعْطِيتُ): بضم الهمزة (خَمْساً): أي: خمس خصال، أو خصالاً خمساً.
          قال الكرماني: فإن قلت: المذكورات أكثر من خمس خصال؟ قلت: ليس أكثر إذ ما يتعلق بالأرض خصلة واحدة
          (لَمْ يُعْطَهُنَّ): بالبناء للمفعول (أَحَدٌ): أي: من الأنبياء (قَبْلِي): كما زاده المصنف في الصلاة من هذا الوجه، وفي حديث ابن عباس: (لا أقولهن فخراً).
          والعدد لا مفهوم له على الصحيح، فلا ينافي ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعاً: (فضلت على الأنبياء بست)، فذكر هذه الخمس إلا (الشفاعة)، وزاد خصلتين وهما: (وأعطيت جوامع الكلم، وختم بي النبيون)، وأجيب أيضاً: بأنه لعله اطلع أولاً على بعض ما أختص به، ثم اطلع على الباقي، وخصوصياته صلعم على الأنبياء، وعلى غيرهم أفردها بالتأليف جماعة كابن سبع، وأبو سعيد النيسابوري في (شرف المصطفى)، وقال فيه:إن عدة الذين اختص به نبينا عن الأنبياء: ستون خصلة.
          وكالجلال السيوطي، فعليك بمراجعته.
          ثم قال في ((الفتح)): وظاهر الحديث يقتضي أن كل واحدة من الخمس لم تكن لأحد قبله، وهو كذلك، ولا يعترض بنوح؛ فإن عموم رسالته لمن بقي بعد الطوفان اتفاقي لهلاك جميع أهل الأرض به سوى من كان مؤمناً به، فحملهم في السفينة، واختلف في عددهم فقيل _وهو الأصح_ تسعة وسبعون: زوجته المسلمة، وبنوه الثلاثة: حام، وسام، ويافث، ونساؤهم، واثنان وسبعون رجلاً، وامرأة من غيرهم.
          وأما عموم رسالة نبينا من أصل البعثة، فثبت اختصاصه بذلك، على أنا لو سلمنا أن العموم فيه قصدي ففرق بين العمومين كما لا يخفى.
          قال في ((الفتح)): وأما قول أهل الموقف لنوح كما صح في حديث الشفاعة: (أنت أول رسول إلى أهل الأرض)، / فليس المراد به عموم بعثته بل إثبات أولية إرساله، وعلى تقدير أن يكون مراداً: فهو مخصوص بتنصيصه تعالى في آيات على أن إرسال نوح كان إلى قومه، ولم يذكر أنه أرسل إلى غيرهم.
          واستدل بعضهم لعموم بعثته: بأنه دعا على جميع من في الأرض فأهلكوا بالغرق إلا أهل السفينة، ولو لم يكن مبعوثاً إليهم لما أهلكوا لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15]، وقد ثبت أنه أول الرسل؟
          وأجيب: بجواز أنه أرسل إليهم غيره في أثناء مدته، وعلم نوح بأنهم لم يؤمنوا فدعا على من لم يؤمن من قومه وغيرهم، وهذا جواب حسن؛ لكن لم ينقل أنه نبئ زمن نوح غيره، ويحتمل أن الخصوصية لنبينا في ذلك ببقاء شريعته إلى يوم القيامة بخلاف نوح وغيره، ويحتمل أن دعاءه قومه إلى التوحيد بلغ غيرهم فتمادوا على الشرك فاستحقوا العذاب، ووجهه ابن دقيق العيد بأن الدعاء إلى توحيد الله يجوز أن يكون عاماً في حق بعض الأنبياء، وإن لم يعم فروع شريعته؛ لأن منهم من قاتل غير قومه على الشرك، فلو لم يكن التوحيد؛ لازماً لهم لم يقاتلهم.
          قال العيني: وفيه نظر لا يخفى.
          ثم قال في ((الفتح)): ويحتمل أنه لم يكن في الأرض عند إرسال توح إلا قومه فبعثته كانت خاصة لكونها إلى قومه فقط، وهي عامة في الصورة لعدم وجود غيرهم؛ لكن لو اتفق وجود غيرهم لم يكن مبعوثاً إليهم.
          ولا يخفى ما في اعتراض العيني على هذا الجواب بقوله: وفيه نظر أيضاً؛ لأنه تكون بعثته عامة لقومه لكونهم الموجودين، وعندي جواب آخر _وهو جيد إن شاء الله_ وهو أن الطوفان لم يرسل إلا إلى قومه الذين هو فيهم، ولم يكن عاماً. انتهى.
          وأقول: يحتاج ما قاله إلى دليل مع أن ظاهر قوله تعالى: {رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26] يدل على العموم.
          ثم رأيته في ((الانتقاض)) قال: وكأنه تلقى ذلك من دعوى أهل الملل: أن الطوفان لم يكن عاماً في جميع الأرض، وهو خلاف ما أطبق عليه أهل الإسلام. انتهى، فتدبر.
          وغفل الداودي فجعل المختص ما عدا البعثة للناس عامة قال: لأن نوحاً بعث إلى كافة الناس أيضاً، وكأنه نظر لأول الحديث، وغفل عن آخره؛ فإنه قال فيه: (وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة) وفي رواية مسلم: (وكان كل نبي..إلخ)، فافهم
          (نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ): بضم الراء وسكون العين وقد تضم، وهي قراءة ابن عامر، والكسائي؛ أي: الخوف، زاد أبو أمامة من رواية أحمد: (يقذف في قلوب أعدائي) (مَسِيرَةَ شَهْرٍ): مقتضاه: أنه لم يوجد لغيره في هذه المدة، ولا في أكثر منها، أما ما دونها، فلا تكن رواية عمرو بن شعيب: (ونصرت على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر) تدل بظاهرها على اختصاصه به مطلقاً، وهذه الخصوصية حاصلة له، ولو كان وحده بغير عسكر، واختلف في حصولها بعده لأمته.
          وقولهم: جعل الغاية شهراً؛ لأنه لم يكن بين بلده، وبين أعدائه أكثر منه ربما يفهم منه أنه لو كانوا في مكان أبعد كان الحكم كذلك، ولا مانع منه فيخافه عدوه، وإن بعد عنه.
          (وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً):بكسر الجيم؛ أي: موضع سجود لا يختص السجود منها بموضع دون آخر، وقيل: هو مجاز عن المكان المبني للصلاة، والمراد: التشبيه إذ المسجد حقيقة عرفية في المكان المبني للصلاة، فلما جازت الصلاة في جميع الأرض كانت كالمسجد، فأطلق عليها اسمه.
          قال في ((المصابيح)): والداعي إلى العدول عن حمله على حقيقته اللغوية، وهي موضع السجود: أنه إن بني على قول سيبويه أنه بالفتح لا غير فواضح؛ لأن الرواية بالكسر، وأما إذا جوز فيه الكسر أيضاً، فالظاهر: أن الخصوصية في كون الأرض محلاً لإيقاع الصلاة بجملتها لا لإيقاع سجودها فقط؛ فإنه لم ينقل عن الأمم الماضية أنها كانت تخص السجود بموضع دون موضع، وإنما المنقول أنهم إنما كانوا يصلون في كنائسهم.
          وقال ابن التين: المراد: جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وجعلت لغيري مسجداً لا طهوراً؛ لأن عيسى كان يسيح في الأرض، ويصلي حيث أدركته الصلاة، وسبقه إلى ذلك الداوودي، وقيل: إنما أبيحت لهم في موضع يتيقنون طهارته بخلاف هذه الأمة؛ فإنها تباح لهم في جميع الأرض إلا ما تيقنوا.
          قال في ((الفتح)): والأظهر ما قاله الخطابي: أن من قبله، إنما أبيحت لهم الصلوات في أماكن مخصوصة كالبيع والصوامع، ويؤيده رواية عمرو بن شعيب بلفظ: (وكان من قبلي إنما يصلون في كنائسهم)، وهذا نص في موضع / النزاع فتثبت الخصوصية، ويؤيده أيضاً ما أخرجه البزار من حديث ابن عباس: (ولم يكن من الأنبياء أحد يصلي حتى يبلغ محرابه). يستعمل إما عن حدث، أو خبث، ولا حدث فيتعين الخبث فمنع هذا المالكي الحصر بأنها تستعمل في إباحة الاستعمال
          (وَطَهُوراً): بفتح الطاء على المشهور.
          قال في ((المصابيح)): أخذ منه بعض المالكية: أن لفظ طهور يستعمل لا في رفع حدث، ولا لإزالة خبث، وتوسل بذلك إلى القدح في استدلال الشافعية على نجاسة الكلب بقوله صلعم: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبعاً) حيث قالوا: كل طهور يستعمل إما عن حدث، أو خبث، فيتعين الخبث، فمنع هذا المالكي الحصر بأنها تستعمل في إباحة الاستعمال كما في التراب.
          واستدل على أن الطهور هو المطهر لغيره؛ لأنه لو كان المراد به الطاهر لم تثبت الخصوصية، والحديث إنما سيق لإثباتها، وقد روى ابنا المنذر، والجارود بإسناد صحيح عن أنس مرفوعاً: (جعلت لي كل أرض طيبة مسجداً وطهوراً)، ومعنى (طيبة): طاهرة، فلو كان معنى (طهوراً): طاهراً لزم تحصيل الحاصل.
          واستدل به أيضاً على أن التيمم يرفع الحدث كالماء لاشتراكهما في هذا الوصف.
          قال في ((الفتح)): وفيه نظر، ولعل وجهه.
          وقال الكرماني: فإن قلت: التيمم مبيح للصلاة لا مطهر، ولا رافع للحدث، قلت: مطهر مادام عاجزاً عن استعمال الماء.
          وأقول: لا يجدي هذا الجواب لمن تأمله.
          واستدل به مالك، وأبو حنيفة، وأحمد في أحد قوليه على أن التيمم جائز بجميع أجزاء الأرض، وقد أكد في رواية أبي أمامة بقوله: (وجعلت لي الأرض كلها، ولأمتي مسجداً وطهوراً)، وأجيب: بأن فيه روايات أخرى تدل للخصوص، فمنها: ما رواه مسلم من حديث حذيفة بلفظ: (وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً وجعلت تربتها لنا طهور إذا لم يجد الماء) وهذا خاص، فيحمل العام عليه فتختص الطهورية بالتراب، وهو مذهب الشافعي، وأحمد في قوله الآخر؛ لكن منع بعضهم الاستدلال بلفظ التربة على خصوصية التيمم بالتراب قال: لأن تربة كل مكان ما فيه من تراب أو غيره، وأجيب: بأنه ورد في حديث أخرجه ابن خزيمة وغيره بلفظ: (التراب)، وبأنه أخرج أحمد، والبيهقي بسند حسن من حديث علي وفيه: (وجعل التراب لي طهوراً) ويقوي القول بأنه خاص بالتراب أن الحديث سيق لإظهار التشريف والتخصيص، فلو جاز بغير التراب لما اقتصر عليه
          (فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ): وسقط: (من أمتي) من كثير من النسخ، وأيما: صيغة عموم؛ لأنها شرطية وما: زائدة للتأكيد، فيدخل تحتها من لم يجد ماءً، ولا تراباً، ووجد شيئاً من أجزاء الأرض؛ فإنه يتيمم به، ولا يقال: هو خاص بالصلاة؛ لأنا نقول: لفظ حديث جابر مختصر، ففي رواية أبي أمامة عند البيهقي: (فأيما رجل من أمتي أتى الصلاة فلم يجد ماء وجد الأرض طهوراً ومسجداً) وعند أحمد: (فعنده طهوره ومسجده) وفي رواية عمرو بن شعيب: (فأينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت)، قاله في ((الفتح)).
          وأقول: الظاهر أن المراد من الحديث: أنه يصلي في أي مكان أراد حيث لم يكن نجساً، ولا تختص بالمساجد كما اختص من قبلنا بالكنائس والبيع.
          ولذا قدمه الكرماني فقال: (فليصل): أي: حيث أدركته الصلاة إذ الأرض كلها مسجداً، وقيل: معناه: فليتمم وليصل، ليناسب الأمرين: المسجد والطهور
          (وَأُحِلَّتْ لِيَ الغنائم): جمع غنيمة، وهي ما حصل من كفار بإيجاف خيل أو ركاب، وللكشميهني كمسلم: <المغانم>: جمع مغنم، وهما بمعنى كما قاله الجوهري، والمراد بها هنا: ما يشمل الفيء
          (وَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي): لأن من قبله كما قال الخطابي: على ضربين: منهم من لم يؤذن لهم في الجهاد، فلم تكن لهم مغانم، ومنهم من أذن له فيه؛ لكن كانوا إذا غنموا شيئاً لم يحل لهم، بل تجيء نار فتحرقه، وقيل: المراد: أنه خص بالتصرف في الغنيمة يصرفها كيف يشاء، قاله في ((الفتح))، والأول أصوب؛ لأن من مضى لم تحل لهم الغنائم أصلاً، كما سيأتي في الجهاد.
          (وَأُعْطِيْتُ): بالبناء للمجهول (الشَّفَاعَةَ): هي سؤال فعل الخير، أو ترك الضر عن الغير لأجل الغير على سبيل الضراعة، والمراد: العظمى التي هي عامة لسائر الخلائق يوم الحشر ليفصل بينهم ويحاسبهم، وقيل: المراد: / شفاعته لا ترد، وقيل: شفاعته لإخراج من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان من النار.
          واللام _كما قال ابن دقيق العيد_ على الأقرب للعهد، والمراد به الشفاعة العظمى، في إراحة الناس من هول الموقف، ولا خلاف في وقوعها، وكذا جزم به النووي وغيره، فلا يرد أن الشفاعة ثابتة لسائر الأنبياء والأولياء.
          وقال البيهقي: في البعث يحتمل أن الشفاعة التي يختص بها أنه يشفع لأهل الصغائر والكبائر، وغيره إنما يشفع لأهل الصغائر دون الكبائر.
          ونقل عياض: أن الشفاعة المختصة به شفاعة لا ترد، ووقع في حديث ابن عباس: (وأعطيت الشفاعة فأخرتها لأمتي، فهي لمن لا يشرك بالله شيئاً) وفي حديث عمرو بن شعيب: (فهي لكم ولمن يشهد أن لا إله إلا الله).
          فالظاهر _كما في ((الفتح))_ أن المراد بالشفاعة المختصة في هذا الحديث: إخراج من ليس له عمل صالح إلا التوحيد، وهو مختص أيضاً بالشفاعة الأولى؛ لكن جاء التنويه بذكر هذه؛ لأنها غاية المطلوب من تلك لاقتضائها الراحة المستمرة، وستأتي هذه في كتاب التوحيد في حديث: (ثم أرجع إلى ربي في الرابعة فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله، فيقول: وعزتي وجلالي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله)، ولا يرد على ذلك ما وقع عند مسلم قبل قوله: (وعزتي) (فيقول: ليس ذلك لك وعزتي..إلخ)؛ لأن المراد: أنه لا يباشر الإخراج منها كما في المرات الماضية، بل كانت شفاعته سبباً في ذلك في الجملة.
          وقال النووي: الشفاعة خمسة أقسام:
          أولها: مختصة بنبينا محمد صلعم، وهي الإراحة من هول الموقف، وطول الوقوف.
          والثانية: في إدخال قوم الجنة بغير حساب.
          والثالثة: الشفاعة لقوم استوجبوا النار.
          والرابعة: فيمن دخل النار من المذنبين.
          والخامسة: الشفاعة في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها.
          أقول: ذكر غيره أن الثانية مختصة أيضاً بنبينا صلعم.
          وقال في الروضة: ويجوز أن يكون خص بالثالثة، والخامسة أيضاً.
          وقال بعضهم: ومن شفاعاته: أنه يشفع لمن مات بالمدينة، وأنه يشفع في تخفيف العذاب لمن استحق الخلود في النار كأبي طالب، وأن يشفع لجماعة من صلحاء المؤمنين فيتجاوز عنهم في تقصيرهم في الطاعات، وأن يشفع في أطفال المشركين حتى يدخلوا الجنة
          (وَكَانَ النَّبِيُّ): أي: غيري (يُبْعَثُ):بالبناء للمفعول (إِلَى قَوْمِهِ): أي: المبعوث إليهم (خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً): أي: قومي وغيرهم من العرب، والعجم، وفي مسلم: (وبعثت إلى كل أحمر وأسود) فقيل: المراد بالأحمر: العجم، وبالأسود: العرب، وقيل: الأحمر: الإنس، والأسود: الجن، وأصرح الروايات، وأشملها رواية أبي هريرة في مسلم أيضاً: (وأرسلت إلى الخلق كافة) وهو أعم، أو على وفق قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ} [سبأ:28].
          وفي الحديث _كما قال ابن بطال_ دليل على أن الحجة تلزم بالخبر، كما تلزم بالمشاهدة، وذلك أن المعجزة باقية شاهدة للخبر بصحته، مبينة له، رافعة لما يخشى من آفات الأخبار، وهي القرآن الباقي، وخص الله نبيه صلعم ببقاء معجزته لبقاء دعوته، ووجوب قبولها على من بلغته إلى آخر الزمان.
          وفيه: ما خص الله به من الشفاعة، وهو أنه لا يشفع في أحد يوم القيامة إلا شفع فيه كما ورد: (قل يسمع واشفع تشفع)، ولم يعط ذلك من قبله من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
          وفيه _كما في ((الفتح)) غير ما تقدم_ مشروعية تعديد نعم الله، وإلقاء العلم قبل السؤال، وأن الأصل في الأرض الطهارة، وأن صحة الصلاة لا يختص بالمسجد المبني لذلك، وأما حديث: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد)، فضعيف أخرجه الدارقطني من حديث جابر، واستدل بحديث الباب صاحب (المبسوط) من الحنفية على إظهار كرامة الآدمي قال: لأن الآدمي من ماء، وتراب، وقد ثبت أن كلاً منهما طهور، / ففيه بيان كرامته.
          وأخرجه أيضاً في الصلاة، ومسلم، والنسائي في الطهارة، والصلاة.