الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: إذا صلى خمسًا

          ░2▒ (بَابٌ): بالتنوين (إِذَا صَلَّى): أي: الشَّخصُ الصلاة الرباعيَّةَ (خَمْساً): أي: خمسَ ركعاتٍ فزاد ركعةً، والحكمُ في غير الرباعية كالرباعيَّة، وغير الخمس كالخمس.
          قيل: أشارَ إلى الفرق بين السَّهو بالنُّقصان وبينه بالزيادة، ففي الأوَّلِ: يسجدُ قبل السلام، وفي الثاني: بعدهُ، وهذا مذهب مالكٍ والمزني وأبي ثور من الشَّافعية.
          وقال ابنُ عبد البر: إنه أولى من قولِ غيره للجمع بين الخبرين يعني: خبرَ ابن بُحينة المارِّ، وخبرَ ذي اليدين المذكور في هذا الباب وغيره، قال: وهو موافقٌ للنَّظر؛ لأنَّه في النقص جبرٌ، فينبغي أن يكون من أصلِ الصلاة، وفي الزيادة ترغيمٌ للشَّيطانِ، فيكون خارجها.
          وقال ابنُ دقيق العيد: لا شكَّ أن الجمعَ أولى من التَّرجيحِ وادِّعاء النَّسخ.
          قال في ((الفتح)): وتعقِّب: بأن كون السُّجودِ في الزيادة ترغيماً للشَّيطان فقط ممنوعٌ، بل هو جبرٌ أيضاً؛ فإن مثل هذه الزيادة نقصٌ في المعنى، وقال الخطَّابي: لم يرجع من فرَّق بينهما إلى فرقٍ صحيح، وأيضاً: فقصَّةُ ذي اليدين وقعَ السُّجود فيها قبل السَّلام وهي عن نقصانٍ، قال: فأما قول النَّووي: المذهبُ فيها قول مالكٍ ثم أحمد، فقد قال غيره: بل طريقُ أحمدَ أقوى؛ لأنه قال: يستعملُ كلُّ حديثٍ بما وردَ فيه، وما لم يرد فيه شيءٌ يسجدُ قبل السلام، ولولا ما وردَ عن النَّبي في ذلك لرأيتُ كله قبل السلام، وقال إسحاقٌ مثله إلا أنه قال: ما لم يرد فيه شيءٌ يفرق بين الزيادة والنقصَان فحرر مذهبهُ من قول مالكٍ وأحمد، وهو أعدلُ المذاهبِ فيما يظهرُ.
          وعند الحنفيَّة: كلُّهُ بعد السَّلام، واعتمدُوا على حديثِ الباب، وتُعقِّب: بأنه عليه الصلاة والسلام لم يعلم بزيادة الرَّكعةِ إلا بعد السلام، وفي مثل هذه الصُّورةِ اتَّفق العلماءُ على أنه بعد السَّلامِ لتعذُّره قبلهُ، لأنه لم يعلم بالسَّهو بهما إلا بعد سلامهِ، وإنما تابعهُ الصَّحابة لتجويزهم الزِّيادةَ في الصلاة؛ لأنه كان زمان تجويزِ النَّسخ.
          وأجاب بعضُهم: بما في حديثِ ابن مسعودٍ من الزيادة المرويَّةِ للمصنِّف في أبوابِ القبلة، وهي: ((إذا شَكَّ أحدُكُم في صلاتِهِ فليتحَرَّ الصَّوابَ فليُتمَّ عليه ثم ليسلِّمَ ثمَّ يسجُدَ سجدَتَينِ))، وعورضَ بما عند مسلمٍ عن أبي سعيدٍ بلفظ: ((إذا شَكَّ أحدُكُمْ في صلاتِهِ فلَم يَدرِ كم صَلَّى فليَطْرَحِ الشَّكَّ، وليبنِ على ما استَيقَنَ، ثمَّ يسجُد سجدَتَيْنِ قبلَ أن يُسلِّمَ))، وبه استدلَّ الشَّافعية، وجمع بعضُهم بحملِ الصُّورتينِ على حالتين، ورجَّح البيهقيُّ التَّخييرَ في سجودهِ قبل السَّلام أو بعده.
          ونقلَ الماورديُّ وغيره _كالنَّووي_ الإجماعَ على الجواز، وإنما الخلافُ في الأفضلِ، وردَّ: بأن إمام الحرمينِ نقل في ((النهاية)) عن المذهبِ الخلافَ في الإجزاء، واستبعدَ القول بالجوازِ، والصَّحيحُ عند الشَّافعية: عدمُ الجواز بعده، وكذا نقل القُرطبي الخلافَ في مذهبهم، / انتهى.
          واعترضهُ العيني بما نقله في ((الفتح)) عن بعضهم جواباً فقال: وردَّ في قوله: أزيدَ في الصلاة... إلخ: بأنه وقعَ في حديثِ ابن مسعود... إلخ.
          وأجاب في ((الانتقاض)): بأنَّ هذا إنما هو فيما إذا شكَّ، والحديثُ الذي ساقَه مسلمٌ صريحٌ في ذلك، قال: وإنما الذي تعقَّبناه استدلالُهُم بحديثِ ((صلى خمساً))، انتهى فتدبَّر.
          وقال ابنُ خزيمة: لا حجَّة للعراقيين في حديث ابنِ مسعودٍ؛ لأنهم خالفوهُ فقالوا: إن جلسَ المصلِّي في الرابعة قدر التَّشهُّد صحَّت صلاته، ويضيفُ إلى الخامسة سادسةً ثم يسلِّم ويسجدُ للسهو، وإن لم يجلس في الرابعة كذلك لم تصحَّ صلاتهُ، ولم ينقل في حديث ابن مسعودٍ إضافة سادسةٍ ولا إعادة ولا بدَّ من أحدهما عندهم قال: ويحرمُ على العالمِ أن يخالف السُّنَّةَ بعد علمهِ بها، انتهى ملخَّصاً.
          واعترضهُ العينيُّ: فقال: لا نسلم أنهم خالفوهُ، فلو وقفَ هذا المعترضُ على مدارك هذه الصُّورة لما قال ذلك، ويحرمُ عليه أن ينسبَ أحداً إلى مخالفة السُّنَّة بعد العلمِ بها، وذكر أربعَ مدارك منها: أن القعدةَ الأخيرةَ فرضٌ عندهم، فلو تركَ شخص فرضاً من فروضِ الصلاة تبطُلُ مطلقاً، انتهى.
          وأقول: فإنه اكتفَى بالمنع المجرَّدِ، وقوله: ووقوفُ المعترض على المداركِ التي ذكرها لا ينفي أنهم خالفوهُ، فتأمَّله منصفاً.
          وليس في الحديث أنَّه عليه الصلاة والسلام أضافَ إلى الخامسة سادسةً، ولا أنَّه جلسَ على رأسِ الرَّابعةِ قدر التَّشهُّدِ، بل فيه أنهم قالوا له: صلَّيت خمساً، فسجَدَ سجدَتينِ بعدَما سلَّمَ.
          ولذا قال النَّووي: فيه دليلٌ لمذهب مالك والشَّافعي وأحمد والجمهور من السَّلفِ والخلف: أنَّ من زاد في صلاة ركعةً ناسياً لم تبطُل صلاته، بل إن علم بعد السَّلامِ فقد مضت صلاتهُ صحيحةً، ويسجُدُ للسَّهوِ ويسلم، وقال أبو حنيفة: إذا زاد ركعةً ساهياً بطلت صلاته ولزمهُ إعادتها، وقال أيضاً: إن كان تشهَّدَ في الرابعة ثمَّ زاد خامسةً أضاف إليها سادسةً تشفعها، وإن لم يكن تشهَّدَ بطُلَت صلاتهُ.
          وهذا الحديثُ يرد عليه، وهو حجَّةٌ للجمهور، انتهى.
          واعترضهُ العيني: فقال: لا نسلم صحَّةَ النقل عن أبي حنيفة ببطلانِ صلاته إذا زاد ركعةً ساهياً، والظَّاهر من حالِ النبي صلعم أنه قعدَ على الرابعة؛ لأن حمل فعلهِ على الصَّواب أحسنُ من حمله على غيره، وهو اللَّائقُ بحالهِ، على أن المذكورَ فيه: ((صلَّى الظُّهرَ خمساً))، والظهر: اسمٌ للصلاةِ المعهودةِ في وقتها بجميع أركانها، وعدم رجوع النَّبيِّ من الخامسة ولم يشفعها لا يضرُّنا؛ لأنا لا نلزمهُ بضم الرَّكعةِ السادسة.
          قال صاحب ((الهداية)): لو لم يَضمَّ لا شيءَ عليه؛ لأنه مظنونٌ، وقال في ((البدائع)): الأولى أن يضيف إليها ركعةً أخرى ليصيرا نفلاً، انتهى.
          وأقول: صرَّح بمثل ما نقله النووي عن أبي حَنيفة ابن بطَّال فقال: وقال أبو حنيفة: إذا صلَّى الظهر خمساً ساهياً نظر فإن لم يقعُد في الرَّابعة قدر التشهد فإن صلاته الفرض قد بطلَتْ، ويضيفُ إلى الخامسة سادسةً، وتكون نافلة ويعيد الفرض، وإن جلس في الرابعة قدر التشهد فصلاته مجزئة ويضيفُ إلى الخامسةِ سادسة، وتكون الخامسة والسادسةُ نفلاً، وإن ذكر وهو في الخامسةَ قبل أن يسجُدَ فيها ولم يكن جلسَ في الرابعة رجعَ إليها فأتمَّها كما نقولُ وسجدَ بعد السَّلام، انتهى.