الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: صلى لنا رسول الله ركعتين من بعض الصلوات

          1224- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ): أي: التِّنِّيسي، قال: (أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ): سقط: <ابن أنس> لأبي ذرٍّ (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ): أي: ابن هرمُز (الأَعْرَجِ): وسقطَ: <عبد الرحمن> لأبوي ذرٍّ والوقت والأصيلي وابن عساكر. وقال في ((الفتح)): ثبت لكريمة وسقط للباقين.
          (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ): بتكبير ((عبد)) (ابْنِ بُحَيْنَةَ): بضم الموحدة وفتح الحاء المهملة فتحتية ساكنة فنون فهاء تأنيث، اسم أمِّه أو أمُّ ابنه، فلذا يكتب ((ابن)) بالألف، واسمُ أبيه: مالك وتقدَّم ترجمته في التشهد.
          (☺ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى لَنَا): أي: لأجلنا أو بنا، وسيأتي في الإيمان بلفظ: ((صلى بنا)) وتقدم في أبواب التشهُّدِ بلفظ: ((صلى بهم)) (رَسُولُ اللَّهِ صلعم رَكْعَتَيْنِ مِنْ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ): أي: الظُّهرَ، كما في الرواية الآتيةِ عقبهُ، أو العصر كما يأتي بعد بابين.
          (ثُمَّ قَامَ): أي: رسولُ الله إلى الرَّكعةِ الثالثة (فَلَمْ يَجْلِسْ): أي: فلم يعد إلى الجلوسِ بعد القيام وترك التشهُّدَ وقعوده المشروعَ له المستلزم تركهُ ترك التشهد (فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ): أي: إلى الثَّالثة من غير تشهُّدٍ، زاد ابن خُزيمة من طريق الضَّحَّاك بن عثمان عن الأعرج: ((فسبَّحوا به فمضَى في صلاته))، ومثلهُ للنَّسائي عن معاوية، وللحاكم عن عُقبة بن عامر.
          واستفيدَ من هذه الزيادة: أنَّ من نسيَ التَّشهُّدَ الأول حتى تلبس بالقيام ثم تذكَّر، حرُمَ عليه أن يرجع لتلبسه بالفرضِ فلا يبطله للسنَّةِ، فلو عاد عامداً عالماً بتحريمهِ بطلَتْ صلاتهُ لزيادته قعوداً، / أو ناسياً أنه في الصلاة فلا تبطُل، ويلزمه القيام عند تذكُّره، فلو لم يقم بطلَتْ.
          وكذا لو كان جاهلاً يعذرُ بجهله، فلا تبطلُ في الأصحِّ، وأن المأموم لو تخلَّفَ عن إمامه للتشهُّدِ بطلت صلاتهُ، إلا أن ينويَ مفارقتهُ وهو معذورٌ فلا تكرهُ، ولو عادَ الإمام قبل قيامِ المأموم حرُمَ قعودهُ معهُ لوجوب القيام عليه بانتصَابِ إمامه، ولا يجوزُ موافقته في عودهِ؛ لأنه إما مخطئٌ فلا يوافقهُ في خطئه، أو عامدٌ فتبطلُ صلاته، بل يفارقهُ أو ينتظرهُ حملاً على أنه عاد ناسياً، وقيل: لا ينتظرهُ، فلو عادَ معه عالماً بالتَّحريم بطلت صلاتهُ، أو ناسياً أو جاهلاً لم تبطلْ.
          (فَلَمَّا قَضَى): أي: النَّبي عليه السلام (صَلاَتَهُ): أي: فرغَ منها ما عدا تسليمِ التَّحلل لقوله: (وَنَظَرْنَا): أي: انتظرنا (تَسْلِيمَهُ): وتقدم في رواية شعيب بلفظ: انتظرَ النَّاسُ تسليمه؛ أي: ليسلموا معه، ففيه دليلٌ على أن المأموم يسجدُ مع الإمامِ إذا سها وإن لم يسْهُ المأموم؛ لأنه يلحقهُ سهوهُ، ونقلَ ابن حزمٍ فيه الإجماع، لكن استثني صورٌ لا يسجدُ معه فيها، منها: ما لو تحقَّقَ أن الإمامَ لم يسهُ.
          (كَبَّرَ): بتشديد الموحدة جواب ((لما)) (قَبْلَ التَّسْلِيمِ): وتكبيرهُ لأجلِ السجود للسَّهو، وينوي بقلبهِ وجوباً سجود السَّهو؛ لأنه لم تشملْهُ نيَّةُ الصَّلاة دون نيَّة سجودِ التلاوة، فلا تجبُ عند ابنِ حَجر، خلافاً للرَّملي.
          (فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ): أي: للسَّهو ندباً عند الجمهور ووجوباً عند الحنفية.
          وقال في ((الفتح)): سجودُ السهو كله مسنونٌ عند الشَّافعية، وعن المالكيَّة: السُّجودُ للنَّقصِ واجبٌ دون الزيادة، وعن الحنابلة: التَّفصيلُ بين الواجبات غير الأركان، فيجبُ لتركها سهواً وبين السُّنن القوليَّةِ فلا يجب، وكذا إذا سها بزيادة فعلٍ أو قولٍ يبطلها عمدُه، وعن الحنفيَّة: واجبٌ كلُّه، محتجِّين بحديث ابن مسعودٍ المارِّ في القبلة: ((ثمَّ يسجُدُ سجدَتَينِ))، ومثله لمسلمٍ من حديث أبي سعيدٍ، وثبتَ من فعله في مقامِ البيان، لا سيما مع قوله: ((صَلُّوا كما رأيتُمُونِي أصَلِّي))، انتهى ملخَّصاً.
          ولم يذكر دليلاً للغالب بأنه مسنونٌ.
          قال ابنُ حَجر المكي في ((التحفة)): ولم يجب؛ لأنه لم ينب عن واجبٍ، بخلاف جبرانِ الحجِّ، انتهى فتأمَّله.
          وجملة: (وَهُوَ جَالِسٌ): حالية؛ أي: وسجدَ الناسُ معه، لما في رواية اللَّيث: وسجدهما النَّاسُ معه مكان ما نسيَ من الجلوس (ثُمَّ سَلَّمَ): أي: وسلَّم الناس عقبهُ بعد السَّجدتينِ من غير إعادةِ تشهُّدٍ، خلافاً للحنفيَّة والمالكيَّة.
          قال في ((الفتح)): وفي هذه الجملة ردٌّ على من زعَمَ أنَّه صلعم سجدَ في قصَّة ابن بُحينة للسَّهو قبل السلام سهواً، أو أنَّ المرادَ بالسَّجدتين سجدتا الصلاة، أو المرادُ بالتَّسليم التسليمةَ الثانية، قال: ولا يخفَى ضعفُ ذلك وبعده، انتهى.
          وفي الحديث أمورٌ منها:
          أن قوله: ((فلما قضَى صلاته)) قد استدلَّ به كما في ((الفتح)) من قال: إن السَّلامَ ليس من الصَّلاة، حتى لو أحدثَ بعد أن جلسَ قدر التَّشهُّد قبل أن يسلم تمَّتْ صلاتهُ، وهو قولُ بعض الصَّحابةِ والتَّابعين، وبه قال أبو حنيفة.
          قال: وتعقِّب: بأن السَّلام لما كان للتَّحلُّل من الصلاة كان المصلِّي إذا انتهى إليه كمَن فرغَ من صلاته، ويدلُّ على ذلك قولهُ في روايةِ ابنِ ماجه من طريق جماعةٍ من الثِّقات عن يحيى بن سعيدٍ عن الأعرج: ((حتَّى إذا فرغَ من الصَّلاةِ إلا أن يُسلِم))، فدلَّ على أنَّ بعضَ الرُّواة حذفَ الاستثناء لوضُوحهِ، والزِّيادةُ من الحافظ _أي: الثقة_ مقبولةٌ.
          واعترضَهُ العينيُّ فقال: لم يكتفِ أصحابنا في عدم فرضيَّةِ السَّلامِ بهذا، بل احتجُّوا بحديثٍ رواه أحمد وأبو داود وابن حبَّان عن ابن مسعودٍ: أن النَّبيَّ صلعم قال له بعدَ أن علَّمَه التشهُّد: ((إذا قلتَ هذا _أو قضيتَ هذا_ فقد قضَيتَ صلاتَكَ، إن شئتَ أن تقُومَ فقُمْ، وإن شئتَ أن تقعُدَ فاقعُدْ)).
          ثمَّ قال: والعجبُ من هذا القائل كيف يجوز للرَّاوي حذف شيءٍ من الحديثِ لوضُوحه؟ وكيف يجوزُ التصرُّف فيه / بالزِّيادة والنَّقص؟ انتهى ملخَّصاً.
          وأجاب في ((الانتقاض)): بأن النَّقص في الحديثِ من الاختصَار، وهو جائزٌ عند الجمهور، والخلافُ فيه شهيرٌ، وأما الزِّيادةُ فيه فليس هنا تعرُّضٌ لتجويزها، انتهى.
          ولم يتعرَّض فيه للجوابِ عن حديثِ ابن مسعود.
          ومنها: مشروعيَّةُ سجود السَّهوِ وأنه سجدتان، فلو اقتصرَ على واحدةٍ ساهياً لم يلزمْه شيءٌ أو عامداً بطلت صلاته؛ لأنَّه تعمَّدَ الإتيان بسجدةٍ زائدةٍ ليست مشروعةٌ، وأنه يكبِّرُ لهما كما يكبِّرُ في غيرهما من السُّجودِ، وسيأتي بعد ثلاثة أبوابٍ: ((يُكبِّر في كلِّ سجدةٍ))، وأنه يجهرُ به كما في الصَّلاة، وأن بينهما جلسةً فاصلةً، كذا في ((فتح الباري)).
          واعترضهُ العينيُّ: بأنه كيف تبطلُ الصَّلاة إذا زادَ فيها شيئاً من جنسها، انتهى.
          وأقول: كون الزِّيادة من جنسها لا يقتضِي عدم البطلان عند الشَّافعية، إذ لو زادَ في الصلاة سجوداً أو ركوعاً عامداً تبطل صلاته، نعم لا تبطلُ عند الشَّافعية بالاقتصارِ على واحدةٍ إن نوى اثنتين أوَّلاً؛ لأنها كالأولى سنَّةٌ عندهم، فلو نوى أولاً الاقتصار على واحدةٍ ففعلها عامداً تبطل صلاته؛ لأنها زيادةٌ غير مشروعةٍ، ولعلَّ هذا مرادُ صاحب ((الفتح))، فلا اعتراضَ أصلاً، وما اعترضَ به العينيُّ فعلى مذهبه، ويحتملُ أنه إشارةٌ إلى قولٍ لبعض العلماء، فتأمَّل.
          ومنها: أنه استدلَّ به بعض الشَّافعية على الاكتفاءِ بالسَّجدتين للسَّهو في الصلاة ولو تكرَّر؛ لأن الذي فاتَ هنا الجلوس والتَّشهُّد فيه، وكلٌّ منهما لو سها عنه على انفرادِهِ سجدَ له، ولم ينقلْ أنه عليه الصَّلاة والسَّلام سجدَ في هذه الحالةِ غير سجدتين.
          قال في ((الفتح)): وتعقِّب: بأنه يبنى على ثبوتِ مشروعيَّةِ السجود لترك ما ذكر، ولم يستدلوا على مشروعيَّته بغيرِ هذا الحديث، فيستلزمُ إثبات هذا الشَّيء بنفسه، وفيه ما فيه، وصرَّحَ في بقيَّة الحديث بأن السُّجود مكان ما نسيَ من الجلوس كما سيأتي، نعم حديث ذي اليدين يدلُّ لذلك.
          ومنها: أن سجودَ السَّهوِ قبل السلام.
          قال الزُّهريُّ: فعله قبل السَّلامِ آخر الأمرينِ منه عليه السلام؛ ولأنَّهُ لمصلحةِ الصَّلاة فكان قبل السلام كما لو نسيَ سجدةً منها، ولورودِ أحاديث كثيرة في ذلك، كحديثِ أبي سعيدٍ الخُدري عند مسلمٍ قال: قال رسولُ الله صلعم: ((إذا شَكَّ أحدُكُمْ في صلَاتِهِ))، الحديث، وفيه: ((فليَسجُدْ سجدَتَينِ من قبلِ أن يُسلِّمَ))، وكحديثِ أبي هريرة عند السِّتَّة، وفيه: ((فليسجُدْ سجدَتَينِ قبلَ أن يُسلِّمَ، ثمَّ ليُسلِّم))، وهذا هو الصَّحيحُ من مذهب الشَّافعية والحنابلةِ، ولا فرقَ بين كونه عن زيادةٍ أو نقصان، وهو مرويٌّ عن أبي هريرة والزُّهري ومكحول وربيعة ويحيى بن سعيد الأنصَاري والأوزاعي واللَّيث وغيرهم.
          لكن قال في ((الفتح)): لا حجَّة في هذه الأحاديث ونحوها لكون جميعهِ قبل السَّلام، نعم، تردُّ على من زعمَ أن جميعَه بعد السَّلام كالحنفيَّة، انتهى.
          وأجابوا عن سُجودهِ عليه السلام بعده في الخبرينِ الآتيين في قصَّةِ ذي اليدين: بأنه لم يكن عن قصدٍ.
          وقال العينيُّ: وذهبَ أبو حنيفة وأصحابهُ والثوري إلى أن سجودَ السَّهو كلُّه يكون بعد السلام في الزِّيادة والنقص، قال: وهو مرويٌّ عن عليٍّ وسعد بن أبي وقَّاصٍ وابن مسعود وعمَّار وابن عباس والنَّخعي والحسن البصري وغيرهم، محتجِّينَ بحديثِ ذي اليدين الآتي، وبغيرهِ من الأحاديث، وأطالَ في ذلك.
          وقال ابنُ بطَّال: في حديثِ ابن بحينةَ حجَّةٌ لمن جعل السُّجودَ للسَّهو في النَّقصِ قبل التسليم، ثم قال: وذهب مالكٌ إلى أن سهوهُ إن كان نقصاناً من الصَّلاةِ فسجودهُ قبل السلام لحديثِ ابن بُحينةَ، وكلُّ سهوٍ كان زيادةً في الصلاة فإن سجودهُ بعد السلام لحديثِ ذي اليدين، وهو قولُ أبي ثورٍ، ولا مدخلَ للنَّظرِ مع وجود السُّننِ، فلا معنى لقولِ الكوفيين، انتهى.
          ومنها: أن التشهُّدَ الأوَّلَ غير واجبٍ، إذ لو كان واجباً لرجعَ إليه، مع أنَّهم قد سبَّحوا له صلعم ليرجعَ فلم يرجع.
          ومنها: أنه استدلَّ بعضُهم بزيادة الليث فيه السَّابقة: أن السُّجودَ خاصٌّ بالسَّهو،
           / قال: فلو تعمَّدَ ترك شيءٍ مما يجبرُ بسجود السَّهوِ فلا يسجدْ له.
          قال في ((الفتح)): وهو قولُ الجمهور، ورجَّحَه الغزالي وأناسٌ من الشَّافعية، انتهى.