إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: اجمعوا لي من كان ها هنا من اليهود

          5777- وبه قال: (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ) بن سعيدٍ قال: (حَدَّثَنَا اللَّيْثُ) بن سعد الإمام (عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ) كيسان المقبريِّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) ☺ (أَنَّهُ قَالَ(1): لَمَّا) بتشديد الميم (فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول، كفُتحت (لِرَسُولِ اللهِ صلعم شَاةٌ فِيهَا سَمٌّ) برفع «شاة» نائب فاعل، أهدتها زينب بنت الحارث امرأة سَلَّام بن مُـَـِشْكم، وأكثرتِ السُّمَّ في الكتف والذِّراع لما بلغها أنَّ ذلك أحبُّ أعضاء الشَّاة إليه صلعم ، فتناول ╕ الكتف فنهس(2) منها، فلمَّا ازدرد قال: «إنَّ الشَّاة تخبرني أنَّها مسمومةٌ» (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ(3) صلعم : اجْمَعُوا لِي مَنْ كَانَ هَهُنَا مِنَ اليَهُودِ) قال الحافظُ ابن حجر: لم أقفْ على تعيينِ المأمورين بذلك (فَجُمِعُوا لَهُ) بضم الجيم (فَقَالَ) لهم (رَسُولُ اللهِ صلعم ) لمَّا اجتمعوا عنده: (إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْه(4)) بكسر الدال والقاف وتشديد المثناة التحتية على القاعدة في مثله؛ لأنَّ أصله(5): صادِقُونني، فأضيف لياء المتكلِّم فحذفت النُّون للإضافة فالتقى ساكنان واو الجمع وياء المتكلِّم، فقلبت الواو ياءً وأدغمت الياء في تاليتهَا، فصار صَادِقُيّ _بضم القاف وتشديد الياء، ثم أبدلت ضمَّة القاف كسرة للياء_ فصار: صَادِقِيّ بكسر القاف وتشديد الياء، ولأَبَوَي الوقت وذرٍّ والأَصيليِّ وابن عساكرَ: ”صَادِقُونِي“ بقاف مضمومة بعدها واو ساكنة فنون مكسورة وهي نون الوقاية، وهي قد تلحقُ اسم الفاعل وأفعل التَّفضيل والأسماء المعربة المضافة إلى ياء المتكلِّم لتقيها خفاء الإعراب، فلمَّا منعَتْ ذلك كانت كأصل مرفوضٍ، فنبَّهوا عليه في بعض الأسماء المعربة‼ المشابهة للفعلِ، قاله ابن مالك (فَقَالُوا(6): نَعَمْ يَا أَبَا القَاسِمِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلعم : مَنْ أَبُوكُمْ؟ قَالُوا: أَبُونَا فُلَانٌ) قال ابنُ حجر: لم أعرفه(7) (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : كَذَبْتُمْ، بَلْ أَبُوكُمْ فُلَانٌ) أي: إسرائيل يعقوب بن إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليهم (فَقَالُوا: صَدَقْتَ وَبَرِرْتَ) بكسر الراء الأولى وحُكي فتحها (فَقَالَ) ╕ لهم: (هَلْ(8) أَنْتُمْ صَادِقِيَّ) ولأَبَوَي ذرٍّ والوقتِ والأَصيليِّ وابن عساكرَ: بالنون كما مرَّ (عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا القَاسِمِ، وَإِنْ كَذَبْنَاكَ) بتخفيف الذال المعجمة (عَرَفْتَ كَذِبَنَا، كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبِينَا. قَالَ(9) لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلعم : مَنْ أَهْلُ النَّارِ. فَقَالُوا: نَكُونُ فِيهَا) زمانًا (يَسِيرًا، ثُمَّ تَخْلُفُونَنَا فِيهَا) بسكون الخاء المعجمة وضم اللام مخففة. (فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلعم : اخْسَؤُوا فِيهَا) اسكنوا فيها سكون ذلَّة وهوانٍ (وَاللهِ لَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا) لا تخرجون منها ولا نقيمُ بعدكم فيها؛ لأنَّ من دَخلها من عُصاة المسلمين يخرجُ منها، وحينئذٍ فلا خلافة(10) أصلًا. وعند الطَّبريِّ(11) من طريق عكرمة، قال: خاصمت اليهود رسولَ الله صلعم وأصحابه، فقالوا: لن ندخلَ النَّار إلَّا أربعين ليلةً، وسيخلفنا(12) إليها(13) قومٌ آخرون يعنون محمدًا وأصحابه، فقال رسولُ الله صلعم بيده على رؤوسهم: «بل أنتم خالدون مخلَّدون لا يخلفُكُم فيها أحدٌ» فأنزلَ الله تعالى: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} الاية[البقرة:80]. وقد ذكروا في الأيَّام المعدودةِ وجهين الأوَّل: إنَّ لفظة الأيَّام لا تُضاف إلَّا إلى العشرة فما دونها(14)، ولا تُضاف إلى ما فوقها(15) فيقال: أيَّام خمسة وأيَّام عشرة، ولا يقال: أيَّام إحدى عشرة(16)، ويشكلُ على هذا قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} إلى أن قال: {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ}[البقرة:184] وهي أيَّام الشَّهر كلِّه، وهي أزيدُ من العشرة. قال بعضُهم: وإذا ثبتَ أنَّ الأيَّام محمولةٌ على العشرة فما دونها فالأشبهُ أنَّه الأقلُ أو الأكثرُ؛ لأنَّ من يقول: ثلاثةٌ يقول: أحمله على أقل الحقيقة فله وجه، ومن يقول: عشرة يقول: أحمله على الأكثر وله وجه، وأمَّا حمله على أقلِّ من العشرة وأزيد من الثَّلاثة فلا وجه له؛ لأنَّه ليس عدد أولى من عددٍ، اللَّهمَّ إلَّا إذا جاءت في تقديرها / رواية صحيحةً فحينئذٍ يجبُ القول بها، وقد روي من طريق ابن إسحاق، عن سيف بن سليمان، عن مجاهدٍ، عن ابن‼ عبَّاس أنَّ اليهود كانوا يقولون: هذه الدُّنيا سبعة آلاف سنةً، وإنَّما نُعذَّب بكلِّ ألف سنةٍ يومًا في النَّار، وإنَّما هي سبعة أيَّامٍ، فنزلت. قال الحافظ ابنُ حجر: وهذا سندٌ حسنٌ. وقال الحسن وأبو العالية: قالتِ اليهود: إنَّ ربنا عتبَ علينا في أمرٍ فأقسم ليعذبنا أربعين يومًا، ولن(17) تمسَّنا النَّار إلَّا أربعين يومًا تحلَّة القسم، فكذَّبهم الله تعالى بما أنزلَ من هذه الآية، وقالت طائفة: إنَّ(18) اليهودَ قالت(19): إنَّ في التَّوراة: إنَّ جهنم مسيرة أربعين سنةً، وأنَّهم يقطعون في كلِّ يومٍ سنةً حتَّى يكمِّلوها وتذهب جهنَّم. رواه الضَّحَّاك عن ابن عبَّاس.
          (ثُمَّ قَالَ) صلعم (لَهُمْ: فَهَلْ) ولأبي ذرٍّ: ”هل(20)“ (أَنْتُمْ صَادِقِيَّ) بتشديد الياء، وللأربعة: ”صادقوني“ كما سبق(21) (عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟ قَالُوا) ولأبي ذرٍّ: ”فقالوا“: (نَعَمْ، فَقَالَ: هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمًّا؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. فَقَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ فَقَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَذَّابًا) بتشديد الذال المعجمة، وللكُشمِيهنيِّ: ”كاذبًا“ بالألف(22) بعد الكاف (نَسْتَرِيحُ) ولأبي ذرٍّ وابن عساكرَ: ”أنْ نستريحَ“ (مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ) وعند ابن سعدٍ، عن الواقديِّ بأسانيدهِ المتعدِّدة أنَّها قالت: قتلتَ أبي وزوجِي وعمِّي وأخِي، ونلتَ من قومِي ما نلتَ(23) فقلتُ: إن كان نبيًّا فستخبره الذِّراع، وإن كان ملكًا استرحنَا منه.
          واختُلف هل قتلها صلعم أو تركَها؟ وقد سبقَ القول في ذلك في موضعهِ من «المغازي» [خ¦4249]، وعند السَّادة الحنفيَّة إنَّما تجبُ فيها الدِّية لا القصاص، وقال الشَّافعيُّ(24): لو ضُيِّفَ بمسمومٍ بسُمٍّ يقتل(25) غير مكلَّف _كصبيٍّ ومجنونٍ_ فمات بتناوله له فإنَّه يُوجب القود على المضيف؛ لأنَّه كالإلجاءِ إلى الأكل سواء قال له هو مسمومٌ أم لا، أمَّا المكلَّف فإنْ علم حال ما تناوله فلا قودَ ولا ديةَ؛ لأنَّه القاتل لنفسه بلا تغريرٍ، وإنْ جهله فخلاف، والأظهرُ في «المنهاج» كأصلهِ وأصل «الرَّوضة» أنَّه لا قود لأنَّه مختار باشر ما هلك به بغير إلجاء، وأنَّه تجب الدِّية للتَّغرير، وحكى ذلك الرَّافعيُّ عن نقل الإمام وغيره، وحكي عن أبي إسحاق(26) وغيره ترجيحُ وجوب القودِ، وقال البُلقينيُّ وغيره: إنَّه مذهبُ الشَّافعي فإنَّه رجَّحه، فقال في «الأم»: إنَّه أشبههما وكغير المكلَّف فيما ذُكِرَ أعجميٌّ يعتقدُ وجوبَ طاعةِ آمره.
          وهذا الحديث قد سبق في «الجزية» [خ¦3169] و«المغازي» [خ¦4249].


[1] في (ص) زيادة: «لي».
[2] في (م) و(د): «فنهش»، وفي (ج) و(ل): «فنهز».
[3] في (م): «النبي».
[4] في (ص): «فيه».
[5] في (د): «الأصل».
[6] في (س): «قالوا».
[7] في (د): «أعرف اسمه».
[8] في (د) و(م): «فهل».
[9] في (ب) و(س): «فقال».
[10] في (م): «خلاف».
[11] انظر تفسير الطبري (2/276)، وعزاه في «الفتح» إليه وهو مصدر المصنف، وفي كل الأصول: «الطبراني» ولم أجد من عزاه إليه.
[12] في (س): «ويستخلفنا».
[13] في (ص): «فيها».
[14] في (م): «فوقها».
[15] في (م): «دونها».
[16] في (د): «عشر».
[17] في (د): «فلن».
[18] في (م): «من».
[19] في (ب) و(س): «قالوا».
[20] في (ص): «وهل».
[21] في (د): «كما مر».
[22] في (د): «بألف».
[23] «ما نلت»: ليست في (س).
[24] في (د): «الشافعية».
[25] في (د): «فقتل».
[26] في (م) و(د): «الرُّوياني»، وكذا في أسنى المطالب.